العروي … مفكر لا يتعب!
ألقى المفكر الدكتور عبد الله العروي، في الأسبوع الماضي، محاضرة هامة في موضوع”المواطنة والمساهمة والمجاورة”، في إطلالة جديدة منه، للتبشير بفكرته الرئيسية التي ظل يحملها معه طيلة مساره الفكري الذي ابتدأه في الستينيات من القرن الماضي، وهي أن هناك تاريخا عاما يسير في خط مستقيم بالنسبة لجميع الأمم، على أساس وجود وحدة إنسانية مشتركة أو تاريخ عالمي لا يمكن للتاريخ المحلي إلا أن يخضع له؛ وهذا هو جوهر دعوته الأولى في كتابه الذي صدر بالفرنسية أولا “الإديولوجية العربية المعاصرة” الذي دعا فيه إلى تجاوز الشيخ ورجل السياسة وداعي التقنية، ومعانقة التاريخانية. شكل هذا الكتاب أهمية قصوى في تلك الفترة وسط المخاض الفكري العربي، ولذلك طلب فرانسوا ماسبيرو ـ ناشر الكتاب ـ من المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون كتابة مقدمته، حيث شبه العروي بـ”حمامة نوح التي عادت إلى السفينة تحمل الغصن الصغير، تعلن بأن طوفانا بدأ يتقهقر، وأن أراض جديدة تظهر”؛ وهو تشبيه مليء بالإيحاءات، كما لا يخفى على القارئ النابه.
محاضرة الدكتور العروي يمكن أن تقرأ من اتجاهين، لكنهما مترابطان: اتجاه يقول بأن العالم العربي والمغرب لم يدخل بعد في إطار”التاريخ المشترك”، لأنه لم يدمج إلى اليوم مشروع جون جاك روسو حول المواطنة، ولذلك فهو ـ بمعنى ما ـ ما يزال في القرن الثامن عشر؛ أما الاتجاه الآخر فيقول بأن ما سمي بـ”الربيع العربي” لم يواكبه نقاش فكري، أو أن النقاش الذي واكبه كان خارج الحدث، طالما أنه لم ينصب على أصل الأصول، وهو المواطنة بالمفهوم أعلاه لدى روسو. ومن هنا نفهم انكباب العروي على إصدار ترجمتين متتابعتين بقلمه لكتابين هامين في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، هما”تأملات في تاريخ الرومان”لمونتيسكيو عام 2011، و”دين الفطرة” لروسو عام 2012؛ ومن يعد إلى كتاب”الإيديولوجية العربية المعاصرة” سوف يجد هذا السؤال:”بيد أنه هل يمكن الاستمرار في قراءة روسو دون تقريبه من مونتيسكيو؟”. إن العروي في عام 2014 يعود ليبشر بأطروحة دافع عنها عام 1966.
ينصب مشروع العروي برمته على إعادة”تبيئة” الفكر السياسي الأوروبي في العالم العربي، إذا استعرنا مصطلح الراحل محمد عابد الجابري، مع لحاظ الفرق بين الإثنين، فالجابري كان يتحدث عن تبيئة المفاهيم، بينما يسعى العروي إلى تبيئة المفهوم ومحموله. وقد ساجل العروي الماركسيين العرب طويلا في السبعينيات بشكل خاص، عندما لوح بأطروحته الشهيرة حول”الماركسية الموضوعية”، كما فعل في كتابه”العرب والفكر التاريخي”، حين اعتبر أن التاريخانية هي المدخل الطبيعي إلى توطين الماركسية في العالم العربي. آنذاك كان هناك نقاش بين الماركسيين العرب حول”ماركس الشاب” وماركس كما هو، ماركس “الإيديولوجيا الألمانية” وماركس “رأس المال”، وقد وقف العروي إلى جانب المعسكر الأول، ولذلك من السهل فهم الخط المنهجي لكتاب”الإيديولوجية العربية المعاصرة”؛ فقد انتقد ماركس الإيديولوجيا الألمانية وبنى على أساس ذلك النقد مشروعه، لذلك نهج العروي نفس المنهج فانتقد الإيديولوجية العربية وبنى على أساسه مشروعه حول الماركسية الموضوعية.
ظل العروي مرتبطا بالفكر الأوروبي، الكلاسيكي تحديدا، منذ البداية، لا يرى خروجا من التخلف دون اعتناق نفس المنهجية التاريخية التي نهجها مؤسسو هذا الفكر الأوائل؛ فالمثال لديه هو التجربة الأوروبية، خصوصا ألمانيا وروسيا، الأولى لأن الماركسية ولدت فيها، والثانية لأنها شهدت تطبيقها الفعلي. ولذلك يمكن المجادلة بأن العروي لا يحمل مشروعا فكريا جديدا عدا التبشير بهذا الفكر، فهو لم يشتغل على الفكر العربي الإسلامي بالشكل الذي اشتغل به على الفكر الأوروبي، لكي يحاول تطوير المفاهيم من داخل ذلك الفكر في أفق عصرنته والمساهمة في التحديث الفكري والسياسي؛ ذلك أن التحديث بالنسبة إليه ليس عملا منهجيا داخليا بقدر ما هو قفزة في سماء التاريخ، من أجل إسقاط تجربة على واقع آخر. فهو ـ على النقيض من الجابري أو طه عبد الرحمان ـ يعتبر أن التراث ليس لديه ما يقدمه، وأنه من العبث البدء من الصفر لصياغة تجربة جديدة قد تكون في النهاية على صورة التجربة القائمة في الغرب؛ فطالما أن الفكر الأوروبي نجح في اجتراح مفاهيم أصبحت عامة لماذا محاولة البحث عن تأصيلها من داخل تراث صار ماضيا؟، وبالنسبة للعروي فهذه فكرة منطقية نابعة من منطق فلسفة التاريخ ولا داعي إلى تمحيصها، ولذلك قدم الليبرالية الأوروبية ـ التي أسس لها مونتيسكيو وروسو وآخرون ـ كمحطة ضرورية في إطار”ماركسية موضوعية”، تعد مرحلة انتقالية إلى الاشتراكية؛ بيد أنه ما يزال في المرحلة الأولى، مرحلة امتصاص أطروحات روسو، التي حاضر من أجلها في الأسبوع الماضي. إنه مشروع كبير لمفكر لا يتعب.