بقلم :ادريس الكنبوري
بدأت الولايات المتحدة الأميركية شن ضربات جوية ضد معاقل تنظيم داعش في سرت الليبية بداية من أول الشهر الجاري، بعد أن بات التنظيم يشكل تهديدا مباشرا لأي إمكانية في الاستقرار بهذا البلد المغاربي الذي يغرق في مستنقع من العنف، الذي تختلط فيه العوامل القبلية مع العوامل الناتجة عن التطرف الديني لدى الجماعات المسلحة. وخلال أقل من أسبوع مكّنت الضربات الجوية القوات الليبية من التقدم في المناطق التي كان يسيطر عليها مقاتلو التنظيم المتطرف، فيما تكبد هذا الأخير خسائر كبيرة في عدد مسلحيه وتراجع إلى مناطق أبعد، ما ينهض مؤشرا على احتمال اجتثاث وجوده في المدينة والمناطق المحيطة خلال الأيام المقبلة، لتكون تلك نهاية الوكر الذي أنشأه في ليبيا.
بيد أن حسابات الحقل لا تناسب دائما حسابات البيدر؛ ذلك أن المشاركة الأميركية في القتال الدائر في ليبيا أطلقت سلفا وابلا من الانتقادات من جانب الفرقاء السياسيين الموالين لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، ومن جانب المعارضة على حد السواء، بناء على حيثيات مختلفة لدى كل طرف. فبينما رأى البعض أن السماح بالضربات الجوية الأميركية لم يصدر عن البرلمان المؤقت، رأت أطراف أخرى أن هذه الضربات تهدف إلى تعزيز الموقع السياسي للسراج في هذه الظروف التي تشهد فيها البلاد انقساما حادا، فيما يقول آخرون إن التدخل الأميركي يفتقد إلى الشرعية لأنه عنوان لتدخل خارجي.
ما فاقم من هذه الانقسامات إعلان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في الشهر الماضي عن مقتل ثلاثة جنود فرنسيين في عمليات عسكرية استهدفت مقاتلي تنظيم داعش، في أول تأكيد رسمي فرنسي على تواجد قوات فرنسية في ليبيا للمشاركة في القتال، بعد أزيد من شهر على كشف مصادر إعلامية فرنسية لأمر هذه المشاركة. وقد أثارت تصريحات هولاند غضب الليبيين الذين خرجوا في تظاهرات بعدد من المدن احتجاجا على التدخل الفرنسي، وزادت من حدة الأزمة تصريحات مفتي ليبيا الصادق الغرياني الذي اعتبر التدخل انتهاكا لسيادة البلاد وطالب باستنكاره، وكان حظ السراج من النقد كبيرا؛ إذ تم اتهامه بالتكتم على مشاركة قوات فرنسية في القتال طيلة الفترة الماضية، ما دفعه إلى القيام بمبادرة من باب رفع العتب، حين احتج بدوره على التدخل العسكري الفرنسي واستدعى سفير باريس لإبلاغه احتجاجه.
هذه السابقة من شأنها أن تعطي للمشاركة الأميركية طابعا مختلفا، بالرغم من أن الإدارة الأميركية والسراج أعلنا، في موقفين متفرقين، أن تلك المشاركة لن تشمل التدخل البري وستقتصر على القصف الجوي لمناطق تواجد مقاتلي تنظيم داعش في سرت وضواحيها، وأن ذلك تم باتفاق مع رئيس الحكومة الانتقالية. وفي ظل حدة الانقسام الذي يسود الساحة الليبية، والذي يلقي بثقله على السياسة العسكرية في مواجهة المتشددين التي انطلقت في الأسبوع الأول من مايو الماضي، فإن الخلافات حول التدخل الخارجي قد تزيد الوضع تأزما.
تدرك الإدارة الأميركية أن الحالة الأمنية في ليبيا توشك على تفتيت البلاد وتفتح الباب أمام سيطرة المقاتلين المتطرفين على المناطق الأكثر غنى بالنفط، ما من شأنه أن يؤثر على عمل أي حكومة مقبلة يمكن الاتفاق عليها مستقبلا بين الأطراف المتنازعة، لأنه يجردها من القوة الضاربة لأي دولة وهي المقومات الاقتصادية، كما يخدم الجماعات المتطرفة، كونه يمدها بمصادر البقاء. لكن التدخل الأميركي يجد تفسيره أيضا في أن إدارة باراك أوباما ظلت تنأى بنفسها حتى اليوم عن الانخراط في مواجهة الإرهاب العالمي، مستفيدة من خبرات الإدارات السابقة، وعلى بعد أشهر من تنظيم الانتخابات الرئاسية تسعى إلى تحصيل شيء من الإنجاز تقدم به خدمة للحزب الديمقراطي.
ورغم المكاسب العسكرية الميدانية التي تحصل حاليا في مواجهة مقاتلي تنظيم داعش، فإن المستقبل السياسي للبلاد يبقى غامضا وفي حاجة إلى تفاهمات وتوافقات جديدة، لكن التدخل الأميركي ربما يشكل عاملا من عوامل إنتاج الأزمة في بلد لا يريد المزيد من الأزمات؛ فوضع السراج اليوم يمكن تشبيهه بوضع إياد علاوي في العراق على رأس الحكومة الانتقالية بعد الاحتلال الأميركي. ورغم ما يوجد من تفاوت بين الوضعين فإن الانخراط الأميركي في مواجهة مقاتلي داعش قد يدفع الموالين للحكومة الانتقالية إلى الانسحاب، ما يفتح الباب أمام المفاوضات التي لم ترس حتى اليوم على صيغة متوافق عليها.