بقلم - ادريس الكنبوري
استعصاء عنوانه الواضح أزمة الثانوي، ومضامينه الحقيقية العميقة خلافات حادة في تقييم الوضع الاقتصادي وتشخيصه، ومن ثم بلورة الأفكار والتصورات للخروج منه.استعصاء عنوانه الواضح أزمة الثانوي
الأزمة التي اندلعت في تونس منذ أسابيع، وبوادرها قائمة منذ سنوات، بين نقابة التعليم الثانوي ووزارة التربية التونسية، هي أكثر من خلاف نقابي، يتشكل من مطالب (تناقش مشروعيتها) ومفاوضات (تستعرض فيها موازين القوى والظرفيات الاقتصادية والسياسية) وإضرابات أو احتجاجات.
المسألة متصلة عند الطرفين، الحكومي والنقابي، بالخيارات الاقتصادية المتبعة. الملفتُ أن الطرفين يتفقان، على أن عمق الأزمة سياسي؛ الحكومة التي تدخل في مفاوضات مع الطرف النقابي بل وتمضي معه اتفاقات وتتراجع عن تنفيذ بعضها وتتعلل بأن الظرف الاقتصادي لا يسمح بالتنفيذ، تقدمُ اعترافا ضمنيا بأن الموانع سياسية ولو تعللت بأرقام الاقتصاد وشواهده. والنقابة التي تفاوض دفاعا عن منظوريها من أجل مطالب (مادية أو غير مادية) تعرف أنها تحتاج لتحقيق تلك المطالب الدخول في أشكال احتجاجية شتى من أجل افتكاك تلك المطالب، لأنها تقع في نفس الظرف التي تعيش فيه الحكومة. وكل ذلك بصرف النظر عن المتسبب في تردّي الوضع الاقتصادي القائم والذي أصبح، للمفارقة، يستعملُ دليلا لوجاهة هذا الرأي أو ذاك.
نسق الأحداث السريع الذي تعاقب على الأيام القليلة الماضية، كشف أن المسألة ليست خلافا بين نقابة تذودُ عن منظوريها، ووزارة تقف وسيطا -باعتبار إشرافها على القطاع- بين حكومة “عاجزة” ونقابة “متطلبة”. كان الأمر خلافا عميقا حول الخيارات الاقتصادية، وكان محاكمة للخيارات السابقة التي تحولت مآلاتها إلى ما نراه اليوم من وضع اقتصادي عسير، وكان الخلاف محاكمة لطرق تعاطي الدولة مع مطالب القطاع القوي نقابيا، ومحاكمة لمطلبية منظمة لم تراع وضع البلاد حسب التوصيف الحكومي.
جرت العادة أن الاتحاد العام التونسي للشغل، يتدخل في الأزمات السياسية الكبرى، لإخماد الحرائق أو لتفادي احتمالات حريق قادم، حصل ذلك في السنوات 2013 و2014، وأبان عن دور المنظمة الحيوي في منعرجات البلاد. لكن المستجد في المعركة الأخيرة، أن اتحاد الشغل طرف في الخصومة عبر فرعه الأقوى عدديا وتنظيميا، فكان على المنظمة أن تلعب دورها الحيوي في إخماد الحرائق مع مراعاة مصالح منظوريها وقواعدها وهياكلها. جدير بالذكر أن المنظمة وعند كل تدخل حاسم، من قبيل رعاية الحوار الوطني في أكتوبر 2013، أو وثيقة قرطاج في يوليو 2016، كانت تحظى بإشادة وطنية واسعة نظير تدخلها لتجنيب البلاد استتباعات الأزمة، لكنها اليوم توجد في مرمى نيران الأطراف التي كانت أشادت بها سابقا، والمقصود هنا المستفيدين من العمليات الإطفائية السابقة التي نفذتها المنظمة.
الخيارات الاقتصادية العرجاء والخلاف حول التفويت في بعض مؤسسات القطاع العمومي من عدمه، وتنكر الحكومة والأطراف السياسية المشكلة لها، كانت الأبواب الرئيسية في الامتعاض النقابي من موقف الحكومة من الأزمة، وكانت أيضا دافعا للإصرار النقابي على المواصلة في الموقف الاحتجاجي بمسمياته المختلفة.
كل هذه العناصر تضافرت وشكلت معالم الاستعصاء الأخير بين النقابة والحكومة. استعصاء عنوانه الواضح أزمة الثانوي، ومضامينه العميقة خلافات حادّة في تقييم الوضع الاقتصادي وتشخيصه، ومن ثم بلورة الأفكار والتصورات للخروج منه.
الجديد في الأزمة أن خلافا جديدا تفرع عن الخلاف الكبير، وهو خلاف داخلي بين المركزية النقابية وبين نقابة الأساتذة، ولئن يرجح أن يتوصل الاتحاد إلى حل أزمته الداخلية (بعيدا عن احتمالات التجميد أو العقوبات الداخلية للعناصر المتمردة)، أو تأجيلها للتفرغ للاستحقاقات القادمة، فإن الثابت أن هذا الشوط في الخلاف بين الاتحاد والحكومة، قد شارف على الانتهاء، لكن ذلك لا يعني نهاية الخلافات، طالما الوضع يراوح في ترديه، وطالما يتمسك كل طرف بوجاهة رِؤيته للمشكلة وللحل ولمستقبل البلاد، وسنشهدُ جولات قادمة بين الاتحاد والحكومة، طالما تواصل اعتماد المناويل التنموية نفسها.