حسن نافعة
خاتمة
يبدو واضحاً من دراسة ينون، المنشورة عام 1982، أن صاحبها كان يعتقد أن الخطة التى يقترحها لتفتيت العالم العربى على وشك أن تبدأ، وأن وضعها موضع التطبيق لن يواجه بتحديات كبيرة، وربما لا يستغرق وقتاً طويلاً، وعندها ستكون إسرائيل قد أنجزت ليس فقط حلمها «من النيل إلى الفرات»، وإنما تكون قد أصبحت أيضاً فى أمان تام أو مطلق. وليس من المستبعد أن يكون قرار إسرائيل بغزو لبنان بعد أشهر قليلة من اغتيال الرئيس السادات كان مدفوعاً بالرغبة فى وضع المشروع الصهيونى لتفتيت العالم العربى موضع التنفيذ. غير أن الرياح لم تهب على نحو ما تشتهى السفن الإسرائيلية، فقد فشل الغزو الإسرائيلى للبنان فى تحقيق أهدافه. وتواكب ذلك مع بداية تشكيل حزب الله، الذى سرعان ما تحول إلى لاعب مهم، ليس فقط على الساحة اللبنانية وإنما فى المنطقة ككل. وقد اضطرت إسرائيل فى هذا السياق غير المتوقع إلى إعادة ترتيب أولوياتها فى المنطقة، وراحت تركز على هدفين رئيسيين، الأول: إنقاذ عملية السلام مع مصر عقب اغتيال الرئيس السادات، والثانى: تغذية الحرب العراقية- الإيرانية بطريقة تؤدى إلى استنزاف طاقاتهما وإمكاناتهما معاً، ثم جرت مياه كثيرة فى أنهار المنطقة والعالم.
لم يكن من قبيل المصادفة أن الدول التى ورد ذكرها بالاسم فى دراسة ينون، المنشورة منذ ما يقرب من ثلث قرن، تبدو هى ذات الدول التى شملها مشروع «الشرق الأوسط الكبير أو الموسع»، الذى طرحته الإدارة الأمريكية عقب إعادة انتخاب بوش لفترة ولاية ثانية فى «نوفمبر» عام 2004، وإن دل ذلك على شىء فإنما يدل على أن مشروع بوش الابن لإعادة ترسيم الشرق الأوسط يكاد يتطابق حرفياً مع مشروع التفتيت الإسرائيلى الذى كشفت عنه دراسة ينون قبل ذلك بربع قرن. غير أن الفرصة التى لاحت لبعض الوقت وحاولت إسرائيل استغلالها لتوظيف الإدارة الأمريكية فى عهد بوش الابن لصالح مشروعها لتفتيت الوطن العربى سرعان ما أفلتت. فقد استطاعت إيران بناء تحالف مناهض للمشروع الأمريكى- الإسرائيلى فى المنطقة، شمل سوريا وحزب الله وحماس والجهاد. وقد استطاع هذا التحالف أن يصمد فى وجه الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، ثم فى وجه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى نهاية عام 2008 وبداية عام 2009. وبنجاح أوباما فى الوصول إلى البيت الأبيض وقرار الإدارة الأمريكية الجديدة الانسحاب من العراق، بدا مشروع الشرق الأوسط الجديد وكأنه دخل مرحلة التفكك والانهيار. غير أن اندلاع الثورات العربية فى عدد كبير من البلدان العربية أطلق سلسلة من التفاعلات التى تسعى إسرائيل الآن باستماتة لتوظيفها لصالح مشروع التفتيت، سواء فى طبعته القديمة أو من خلال طبعات أخرى منقحة.
لست فى حاجة إلى إثبات أن إسرائيل تؤمن إلى درجة اليقين بأن كل ما هو عربى أو إسلامى، وليس فلسطينياً فقط، يشكل تهديداً حالاً أو محتملاً لها. لذا فهى لا تتوقف كثيراً فى حقيقة الأمر عند السمة الأيديولوجية للخطاب السياسى الرسمى فى أى دولة عربية أو إسلامية، لأن ما يعنيها حقاً هو مدى ممارسة الأنظمة القائمة سياسات تتفق مع مصالح مشروعها الصهيونى الكبير.
دعونا نتذكر حقيقة مهمة، هى أن إسرائيل لم تخترع الخلافات أو التباينات أو التناقضات القائمة داخل وبين الدول العربية والإسلامية، لأنها موجودة فى بنيتها وفى تاريخها. كل ما على إسرائيل أن تحاول القيام به هو العمل على تعميق تلك الاختلافات والتباينات، ودفعها إلى مستوى التناقضات الرئيسية، بل وتفجيرها كلما كان ذلك ممكناً ومناسباً لها. كما عليها، فى الوقت نفسه، أن تقاوم كل محاولة لحل أو تجاوز تلك الاختلافات تحت أى شعارات كانت: وطنية أو قومية أو إسلامية.
فى سياق كهذا تبدو استراتيجية التفتيت التى طرحها ينون منذ ما يقرب من ثلث قرن منطقية تماماً ومتسقة كلياً مع النهج الذى تمارسه إسرائيل فعلا فى إدارة الصراع مع الدول العربية والإسلامية منذ نشأتها حتى الآن، وهو نهج يمكن التدليل على وجوده واستمراره على الصعيدين المفاهيمى والامبيريقى معاً. فلدى إسرائيل عقدة أمنية حقيقية مستعصية على الحل. ولأنها لم ولن تطمئن أو تعتمد إلا على قواها الذاتية، فضلاً عن أنها على يقين تام من أنها أقدمت على سرقة ما ليس لها أو من حقها، فلن يمكنها الاطمئنان إلى أن الضحية يمكن أن يتنازل للجلاد طواعية عن حقوقه، بل وستعتبر مثل هذا التنازل علامة ضعف تغريها بالتمادى أو نوع من الخديعة لا يتعين أن تسقط فى شراكه. ومن هذا المنطلق تعتقد إسرائيل أن عليها واجب إضعاف خصومها، وربما سحقهم إن أمكن. لذا فإن الحل الأمثل من وجهة نظرها، أو الحل الذى تعتقد أنه يحقق لها الأمن المطلق، هو أن تصبح كل دول المنطقة طائفية أو عرقية أو مذهبية أو عنصرية مثلها.
لقد جربت إسرائيل أن تبدأ استراتيجية التفتيت من لبنان، اعتماداً على قواها الذاتية وحدها، وفشلت. ثم جربت أن تستخدم نفوذ اللوبى اليهودى لاستدراج الولايات المتحدة لاحتلال العراق على أمل أن ينتهى بتقسيمها، لكن المشروع الأمريكى هناك تعثر وسقط. وها هى الثورات العربية تفتح لها باب الأمل من جديد، خصوصاً بعد أن بدأت الفتن الطائفية تستشرى وتستفحل مع وصول التيارات الإسلامية إلى السلطة فى دول الربيع العربى.
ليس معنى ذلك أن خطة ينون التى قدمنا لها هى بالضرورة الخطة التى تعتمدها إسرائيل ويتعين السير على هداها. فأحد أهم ما يميز السياسات الإسرائيلية هو قدرتها على التأقلم مع المتغيرات الدولية والإقليمية. وهناك قراءات إسرائيلية مختلفة لما يجرى فى المنطقة حالياً، منها قراءة ألوف بن المنشورة فى صحيفة هاآرتس يوم 25/3/2011، وقراءة فرانك جاكوبز وباراج خانا المنشورة فى صحيفة نيويورك تايمز فى 22/9/2012 وغيرها كثير. وقد قام مركز الزيتونة الفلسطينى مؤخراً بنشر أربع من هذه القراءات تحت عنوان: «الشرق الأوسط خرائط جديدة ترسم». (راجع: سلسلة ترجمات الزيتونة: العدد 74).
غير أن ما تريده إسرائيل شىء وما تستطيعه شىء آخر. ورغم إيمانى المطلق بأن مشروع إسرائيل لتفتيت العالم العربى لن ينجح، فإن الوضع فى العام العربى خطير، وخطير جداً، ويحتاج إلى الحذر والانتباه، خاصة من جانب الفصائل الإسلامية.
نقلاً عن جريدة "الشرق الأوسط"