هو الآن طيف، يلوح في ذهنك ثم يتمدد إلى عقلك، فإلى قلمك، فإلى الناس، فإذا هو في جمعهم، في إرادتهم التي تتوحد بزخم الدعوة وقدسية الإيمان: إنه الإمام القائد. إنه السيد موسى الصدر.
ربما لهذا، لا يغادر وجداني ذلك اللقاء الذي جمعنا مع سماحة السيد موسى الصدر، القائد فكراً وعملاً بلا موعد، وحيث لم نكن نتوقع: في فندق الشاطئ بطرابلس الغرب في ليبيا.
أما أنا فكنتُ مع فريق من «السفير» ذهبنا على موعد «لحوار فكري» مع العقيد الذي لا كان يفتأ يفاجئ الناس بأفكار مبتدَعة، تخرج بمجملها عن السائد، إن على المستوى الديني أو على المستوى الثقافي، وصولاً إلى تعديل التأريخ بالهجرة إلى وفاة الرسول، خلافاً للمعتمد منذ قرون. وهكذا أجبر الناس على اعتماد تاريخ مفرد لا يُقره غيره، إلا أن الليبيين كانوا مجبَرين على استخدامه وإلا أهملت معاملاتهم الرسمية وصولاً إلى ما يتصل بالراتب.
أما «السيد» فقد جاء في زيارته الأولى (والأخيرة) إلى ليبيا، ليطرح مع العقيد معمر القذافي موضوع الوجود الفلسطيني المسلّح في جنوب لبنان بفوضاه القاتلة بانعكاساتها على أهل الجنوب، من موقع الحرص على المقاومة وترشيدها إلى ضرورة مراعاة أسباب حياة الجنوبيين في بلداتهم وقراهم، ليظلوا، كما كانوا دائماً، عوناً لهم، يقدمون لها الدليل والطريق الآمن إلى قواعد العدو عبر الحدود، بديلاً من فوضى السلاح التي تؤذي الجنوبيين وتفسد العلاقة مع الفدائيين وتريح العدو الإسرائيلي.
ولقد تمّت تلك الزيارة بترتيب خاص تولاه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، حين أصرّ على القذافي على ضرورة الاستماع باهتمام إلى شكاوى الإمام الصدر من تجاوزات الأخوة الفلسطينيين.
رحّب بنا «السيد» بدماثته المعروفة ولياقته التي لا تجارى... وتقبّل هدية بسيطة حملها المدير العام لـ «السفير» آنذاك الزميل الراحل أسعد المقدم: بعض عناقيد العنب الخالي من البزر.
دار الحديث بداية حول «الزيارة» التي رأيناها مفاجئة، وتأتي من خارج السياق الذي تعوّدناه من «الإمام»... خصوصاً واننا نعرف رأي القذافي في رجال الدين عموماً، لأي مذهب انتموا، لا فرق عنده بين «السني» و «الشيعي» أو «الدرزي»، مع ملاحظة أنه يرى في رجال الدين المسيحيين «أجانب» حتى لو كانت أصولهم من العرب العاربة.
قال الإمام بلكنته المحببة، التي يختلط فيها بعض العامية العراقية بلهجة لبنانية أقرب إلى الفصحى، دون أن يغيب الأثر الإيراني عن «اللكنة»، إنه جاء مضطراً، بعد زيارة إلى الجزائر طلب خلالها من الرئيس الراحل هواري بومدين أن يتدخل ضاغطاً على الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بتخفيف وطأة «رجال المقاومة»، من «فتح» أساساً وسائر المنظمات، على أهل الجنوب... إذ إنهم لم يعودوا يتخذون من بعض بلدات الجنوب المحاذية للحدود مع فلسطين معبراً، ومن الجنوبيين أدلاء.. بل صاروا يأتون بالصواريخ فيطلقونها من خلف الحدود، وغالباً بلا تحديد للهدف، ثم يتراجعون عائدين إلى بعض قواعدهم في أنحاء متفرقة من جبل عامل وصولاً إلى صيدا... وهكذا يردّ العدو على مصدر الصواريخ فيدمر منازل الفلاحين من أهل الأرض في الجنوب... وهم هم الفلاحون الذين كانوا يستقبلون «الفدائيين» ويستضيفونهم لبعض الوقت، ثم يرسمون معهم الطريق إلى أهدافهم في الأرض المحتلة، وهي أهداف عسكرية محدّدة.
علق بعضنا مستذكراً حوادث معينة ذهب ضحيتها العديد من أهالي القرى الجنوبية، ليس فقط نتيجة القصف الإسرائيلي المضاد، بل أساساً بسبب الحملات التأديبية التي كان يشنها جنود العدو على البلدات ـ الأهداف والتي لا تملك ما ترد به دفاعاً عن أهلها أو تأديباً للعدو المتفوق بسلاحه بما لا يُقاس..
عاد «السيد» إلى الكلام فعرض لأوضاع لبنان الدقيقة بل الحساسة، وإلى ضعف دولته عسكرياً، وإلى ضرورة الحفاظ على أهل الجنوب في قراهم وبلداتهم «حتى لا نكون أمام «نكبة» جديدة إذا ما نزحوا عنها وأخلوها بحيث يمكن أن يتقدم إليها العدو أو يهدمها مشرداً أهلها الذين لن يجدوا من يوفر لهم حياة جديدة في ضواحي بيروت أو أي مكان آخر..».
وقال السيد: أنا لا أعرف «الأخ العقيد» شخصياً، وإن كنت أعرف له مواقفه القوية، بل والتي تتجاوز أحياناً حدود المألوف... لذا طلبت إلى الرئيس الجزائري الذي أعرفه ويعرفني أن يتوسط لنا معه فيساعدنا في الضغط على الرئيس الفلسطيني الذي أقدر له جهاده، الأخ ياسر عرفات، لكي يحاول ضبط عناصر المقاومة بحيث لا يتسبّبون في الإضرار بأهل الجنوب أكثر بما لا يقاس من نتائج قصفهم العشوائي لبعض مستعمرات العدو في الجهة المقابلة من الحدود...
وسألنا عما نعرف عن القذافي الذي يقدّر له دعمه للأخوة الفلسطينيين وحقهم في الجهاد من أجل تحرير أرضهم، ولكنه يتمنى أن يساعد لبنان ويساعدهم في ترشيد كفاحهم المسلح حتى لا يؤذي لبنان أكثر بما لا يُقاس مما يؤذي العدو الإسرائيلي.
سردنا له بعض ما نعرف عن طباع القذافي وتنقلاته المفاجئة بين العقائد والأفكار وصولاً إلى صياغة نظريته الخاصة التي باشرها في «الكتاب الأخضر» ثم اجتهد لإكمالها في كتب أخرى تتضمّن استخلاصات صاغها على شكل نظرية جديدة، تشمل الموقف من الدين ومن الأوضاع المعيشية وكل ما يرتهن حرية الإنسان في الاختيار.
روينا له أيضاً طُرَفاً من مفاجآت «الأخ العقيد» وتحولاته وضيقه بالشعب الليبي الذي يراه صغيراً ومتخلفاً وتنقصه التجربة والمعرفة بالعالم والعقائد والأفكار، وتمترسه خلف معتقدات وبدع منقولة تفسد عليه دينه، وهو يريد إنقاذ الدين الحنيف ليس فقط في ليبيا بل في العالم جميعاً.
طالت السهرة التي أمتعنا فيها الحوار مع «سماحة السيد» الذي كان حاسماً في أنه لن يبقى إلا يومين في ليبيا وسيغادرها قبل الثلاثين من آب، إذ «لا أريد أن أجلس على المنصة خلفه، وأسمعه وهو يفاجئ العالم بمواقف قد يكون مقتنعاً بها، ولكنها غير مألوفة عند الناس وقد تكون صادمة».
ثم ختم السيد كلامه بالقول: سأغادر قطعاً في الثلاثين من آب كحد أقصى، أي بعد يومين. وأتمنى أن يتوفر له وقت لسماع مطلبي، مفترضاً أنه يهتم لأمر الشعب في جنوب لبنان بقدر اهتمامه بحق الأخوة الفلسطينيين بالعمل لتحرير أرضهم، ونحن معهم، ولكننا نريد لهم أن ينجحوا وسيكون أهل الجنوب الأدلاء والمرشدين، كما سيحمون ظهرهم ولكن بوجودهم في أرضهم وليس بتركها خالية لمن يأخذها..
قمنا لنودّع سماحة السيد، فبادرنا بلهجة يختلط فيها الجد بالطرافة:
ـ مَن يلتقي الأخ العقيد أولاً عليه أن يذكره بالآخر... ولكم عليّ أن أذكّره بوجودكم في انتظار موعده، لتخرج تصريحاته مع عيد الفاتح. أما إن التقيتموه أولاً فلا تنسوا أن تذكّروه بأنني لا أفعل شيئاً هنا سوى انتظار موعده، بينما تنتظرني في لبنان المهمات الثقيلة التي تعرفون.
في اليوم التالي لم نلمح للسيد وصحبه (الشيخ حسن يعقوب والزميل عباس بدر الدين) أي أثر، لا سيما وأننا غبنا عن الفندق لساعات أمضيناها في حوارنا مع العقيد معمر القذافي.
وحين ذكّرناه بأن سماحة السيد ينتظر لقاءه، سألنا عنه فأوجزنا له قدر الإمكان ما يدلّ على مكانة السيد موسى عند اللبنانيين جميعاً، مسلمين ـ سنة وشيعة ـ ومسيحيين كما عند الدروز، وهي مكانة رفيعة يختلط فيها الاحترام بالتقدير العالي لدوره في تدعيم الوحدة الوطنية وكذلك في نصرة القضية الفلسطينية، مع شرح لأسباب اختلاط الأعراق في سماحة السيد كما في أعراق الأغلبية من الدارسين في النجف الذين يتصادقون ويتخاصمون وقد يتصاهرون من فوق هوياتهم المختلفة (أكانوا لبنانيين وعراقيين وإيرانيين وربما أذريين وأفغاناً أيضاً) وهكذا تختلط في العائلة الواحدة هويات عدة، بينها العربية والفارسية والأفغانية الخ...
وعند الباب، قال لنا السيد موسى الذي وقف لوداعنا: رجاء، لا تنسوا أن تذكّروا الأخ العقيد، إذا ما قابلتموه قبلي بأنه لا يجوز أن يتركنا ننتظر، خصوصاً وقد عرف ما كان ينقصه من المعلومات عنا، مع أن الرئيس الجزائري بومدين لا بد أنه شرح له أهمية الموقع وفرادة الشخصية بعلمه وخلقه ومكانته في بلاده وما يجاورها..
عُدنا إلى الفندق، وبينما نحن نتجه إلى المصعد، لمحنا الزميل عباس بدر الدين يركض في اتجاه مكتب الاستعلامات، وحين لمحنا أشار محيياً وهو يقول: لعل الفرج قد جاء... لقد طلبوا سماحة السيد، وها أنا أركض لأجيب على الهاتف، عسى أن يكون الخبر مفرحاً.
وشُغلنا بتفريغ الحوار، وإعداده للنشر. وفي اليوم التالي، الواقع فيه الثلاثون من آب 1978، لم نسمع من الإمام، ولم نلمح أثراً لمرافقَيه الشيخ حسن يعقوب والزميل عباس بدر الدين، فافترضنا أن الإمام قد نفذ ما انتوى فغادر... ولم يكن ثمة سبيل لنتأكد ما إذا كان قد قابل العقيد أم لا.
في الثاني من أيلول 1978 عُدنا إلى بيروت.
وفي الثالث من أيلول انهالت علينا الاتصالات تسألنا عن الإمام، وكيف تركناه في طرابلس، ومتى سيعود..
كنا نردّ بما سمعناه من الإمام عن عزمه على ترك ليبيا قبل «الفاتح»، وبالتحديد في الثلاثين من آب، حتى لا يسمع ما لا يعرف من مواقف قد تكون مفاجئة يطلقها «الأخ العقيد» في حضوره، فيتحمّل شيئاً من مسؤولية السماع، دون رأي في ما يُقال، وأننا فعلياً لم نلمح أي أثر للإمام ومرافقَيه بعد الثلاثين من آب، ولا نحن عرفنا هل قابل العقيد أم انصرف مغضباً، كونه لم يحظ بالمقابلة الموعودة، وإن كنا افترضنا أن القذافي لا يمكن أن يرفض «شفاعة» بومدين، وأنه لا بد التقى الإمام واستمع إلى ما يريد أن يبلغه مما يقلقه ويقلق أهل الجنوب، بل لبنان عموماً.
عوّض الله لبنان، والعرب، هذا القائد ذا الثقافة المدنية الواسعة، وذا النهج الفكري الواضح، فضلاً عن إيمانه العميق الذي يتّسع على قاعدة إسلامه للحوار مع المؤمنين بالأديان الأخرى، لا سيما المسيحيين، وسائر الملل والنحل في هذا البلد الكوني: لبنان!