الحسابات الخاطئة في حرب السودان

الحسابات الخاطئة في حرب السودان

المغرب اليوم -

الحسابات الخاطئة في حرب السودان

عثمان ميرغني
بقلم :عثمان ميرغني

في الوقت الذي تقترب فيه جولة الحرب الراهنة في السودان من إكمال شهرها الرابع، لا تزال قطاعات من السودانيين، أو بالأصح من النُّخب، تواصل معاركها الكلامية الطاحنة حولها. ولا يزال الجدل محتدماً حول من أطلق الرصاصة الأولى، ومن المتسبب فيها، ولمصلحة من، وكل طرف يحاول غسل يديه وإلقاء المسؤولية على طرف آخر. فالحرب أصبحت للأسف ساحة جديدة للمناورات السياسية، وتصفية حسابات ليس هذا وقتها.

كثيراً ما أفكر في أن هذه النخب بجدالاتها البيزنطية، انسلخت عن الشارع السوداني وأحدثت شروخاً عميقة بينها وبينه. الناس لا يهتمون في هذه اللحظة بالجدل حول مَن أطلق الرصاصة الأولى، ولا يرون جدوى لمعركة الاتهامات المتبادلة بين قوى الحرية والتغيير - المجلس المركزي (قحت) وفلول النظام السابق من الإسلاميين (الكيزان)، فكل همهم هو وقف الحرب وطرد قوات الدعم السريع من بيوتهم وأحيائهم ومن المؤسسات الخدمية، ومن العاصمة كلياً حتى يعود الأمان، بل وبات أكثرهم يتمنون دحر القوات التي عانوا من ممارساتها وانتهاكاتها أشد المعاناة.

قوى الحرية والتغيير هي الخاسر الأكبر في تقديري، فموقفها من الحرب أفقدها تأييد قطاع مقدر من السودانيين ومنهم من كان يؤيدها بحماس في السابق، وباتوا يتهمونها اليوم بموالاة قوات الدعم السريع. لا يفهم الناس موقفها وهم يرون هذه القوات تعيث فساداً في البلاد وعاصمتها، تدميراً وقتلاً وترويعاً للناس، واحتلال بيوتهم ونهبها. تقشعر أبدانهم وينتفضون غضباً وهم يسمعون قصص وشهادات ضحايا الاغتصاب. يغلي الدم في عروقهم وهم يسمعون أحد قياديي «الدعم السريع» يقول كلاماً عنصرياً مستفزاً في مقطع فيديو بتاريخ الثلاثاء 25 يوليو (تموز) الماضي، ويهدد وهو محاط بالمقاتلين المدججين بالسلاح بأنهم لا ينوون مغادرة الأحياء وبيوت المواطنين التي احتلوها. يقول الرجل متوجهاً بكلامه لسكان أحياء في الخرطوم: «نحن أهل هذه الأرض. والخرطوم هذه حقتنا (ملكنا)... نطلع منها لماذا. نحن لن نطلع منها لأننا الساس والرأس».

يزعم الرجل أن قواتهم (الدعم السريع) ليس فيها تفلت ومتفلتون، بينما الناس في السودان، والعالم كله يعرفون الممارسات والانتهاكات البشعة التي تمارسها هذه القوات. ويزعم أيضاً أن قواتهم يمثل فيها كل أهل السودان وليست فيها تفرقة، و«زرق وحمر»، بينما يشهد العالم بأنهم يقتلون ويهجرون الناس في دارفور على أساس عرقي وقبلي، وينقلون خطابهم العنصري اليوم إلى الخرطوم بممارساتهم فيها.

بالطبع ليس هذا الشخص الوحيد من هذه القوات الذي خرج في تسجيلات صوتية بكلام من شاكلة أنهم لن يغادروا الخرطوم ولا منازل المواطنين التي «وجدوا فيها الراحات والهواء البارد»، على حد قول أحدهم.

الذين يرفعون شعار «لا للحرب» لا يقولون للناس ماذا سيعني هذا الأمر بالنسبة لمستقبل قوات الدعم السريع هل يعني ذلك عودتها للمشهد من جديد لكي تكون لاعباً فيه؟

وإذا كانوا يتحدثون عن دمجها في الجيش، هل سيكون ذلك مقبولاً ومعقولاً بعد كل الذي جرى، وبعد كل الدماء التي سالت؟ وهل يمكن أن تعود الثقة بين الطرفين؟ هذه ميليشيا قبلية لا عقيدة عسكرية لها، ولا تعرف سوى القتل والنهب، ولا تدين بولاء إلا لقيادتها.

وماذا سيعني الدمج الآن، هل يعني العفو عن هذه الميليشيا وقياداتها والتجاوز عن كل ما ارتكبته في الخرطوم ودارفور؟

الناس يرون قوات الدعم السريع ترتكب كل هذه التجاوزات والانتهاكات، بينما الجيش يقاتل لطردهم ويشترط في المفاوضات إخلاء بيوت المواطنين والمرافق العامة والخدمية. الجيش لا يتعرض للمواطنين. فكيف يستقيم إذاً أن نساوي بين الطرفين؟

محاولة البعض من المحسوبين على «قحت» تصوير الجيش وكأنه هو الطرف الذي يقتل الناس بالرصاص في الشوارع، ويقصف مساكنهم عمداً لتهجيرهم منها، هو قلب للحقائق، ومحاولة بائسة واضحة لتجريمه و«غسل» صحيفة «الدعم السريع» الملوثة بمختلف الانتهاكات والفظائع التي يشهد عليها القاصي والداني.

عداء الكيزان ليس مشروعاً سياسياً قائماً بذاته لبناء وطن، ولتبرير كل شيء، وهو بالتأكيد لا يبرر موالاة قوات الدعم السريع والوقوف ضد جيش البلاد في هذه الظروف.

قرأت، أول من أمس، موقفاً للقيادي بقوى الحرية والتغيير (قحت) ياسر عرمان، بمناسبة الاتصالات الجارية لتنظيم حوار وطني سوداني يفترض أن يعقد هذا الشهر في أديس أبابا تحت رعاية الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، يقول إنه لا يجب مكافأة حزب المؤتمر الوطني المنحل وواجهاته في المفاوضات لدورهم في الحرب. ومع اقتناعي بأن الشعب قال كلمته في تنحية «المؤتمر الوطني» في ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، واقتناعي أيضاً بأن الظروف تستدعي اليوم إشراك القوى الإسلامية التي خرجت على النظام السابق وقامت بمراجعة موقفها من سجل حكمه، في المساعي لتحقيق توافق وطني عريض للخروج من هذه المحنة، فإن السؤال الذي تبادر إلى الذهن وأنا أقرأ مقال عرمان هو: «هل نكافئ الدعم السريع وهو الذي دمر الخرطوم وارتكب أبشع الانتهاكات في الخرطوم ودارفور؟».

فإذا كنا نطلب عزل «المؤتمر الوطني» لدوره في الحرب، فكيف لا ندعو لعزل قوات الدعم السريع وهي التي تحارب وتقتل وتدمر وتحتل بيوت المواطنين والمرافق الخدمية؟

مكافأة قوات الدعم السريع بالتجاوز عن كل ما ارتكبته من انتهاكات وفظائع، وما أحدثته من دمار، وإعادتها إلى المشهد من جديد بوصفها طرفاً فاعلاً، ستكون مراهنة حمقاء عواقبها وخيمة وستشجعها وستشجع حركات مسلحة أخرى على محاولة «احتلال» الخرطوم مجدداً بشكل أو بآخر.

ومثلما نقول إنه لا يمكن مكافأة قوات الدعم السريع وقيادتها على ما ارتكبته في حق البلد وشعبه، فإنه لا يمكن أيضاً مكافأة أي طرف تسبب في إشعال هذه الحرب التي سيدفع السودان ثمنها الباهظ لسنوات طويلة مقبلة.

لا أعتقد أن أي إنسان عاقل يرفض وقف الحرب، لكن هذا ينبغي أن يحدث وفق معايير تضمن الأمن والاستقرار للسودان، لا صفقات ومناورات تؤدي إلى التفريط فيه، وتحمل في طياتها استمرار عدم الاستقرار واحتمالات حروب مستقبلية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحسابات الخاطئة في حرب السودان الحسابات الخاطئة في حرب السودان



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 16:56 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل
المغرب اليوم - مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل

GMT 08:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
المغرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:25 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان
المغرب اليوم - اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب

GMT 19:58 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة تكشف عن قدرات النمل في علاج نفسه والنباتات

GMT 16:57 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

تأجيل مباراة الرجاء البيضاوي ورجاء بني ملال

GMT 13:23 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لعبة SPIDER-MAN الأكثر مبيعا داخل اليابان في سبتمبر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib