بقلم : توفيق بو عشرين
قد تتشكل الحكومة برئاسة عبد الإله بنكيران، وقد يتخلى عزيز أخنوش عن كفالته لإدريس لشكر، وقد يكتفي عبد الإله بنكيران بإبعاد الوردة الذابلة عن بيته، ويسمح لحصان ساجد بدخول الحكومة تحت جناح الحمامة، وقد تجد هذه الخلطة الهجينة طريقة لاقتسام الوزارات، وإعمال مقص خاص لتفصيل القطاعات بين خمسة أحزاب سياسية، زائد حزب التقنوقراط الذي يستحوذ على الوزارات السيادية ويدبرها من خارج الحكومة. قد يقع كل هذا في أسبوع أو شهر أو أكثر، ففي النهاية، لا بد للحكومة أن ترى النور، لكن الأهم في كل هذا هو «روح السابع من أكتوبر» التي تعرضت لنكسة كبيرة، بعدما تركت نتائج الاقتراع تتعفن لمدة تزيد عن أربعة أشهر ونصف، دون أن تكون هناك مبررات منطقية غير «البلوكاج»، وغير الخوف من صناديق الاقتراع، وغير الخوف من عدم القدرة على السيطرة على الرأي العام الذي أصبح الوافد الجديد على الساحة السياسية. فالمغرب له تاريخ طويل في تشكيل الحكومات الائتلافية منذ الاستقلال إلى اليوم، ونمط الاقتراع فيه يجعل من المستحيل تشكيل حكومة من حزب واحد، حتى وإن كان حزب العدالة والتنمية قد هزم هذا النظام الانتخابي في انتخابات الجماعات المحلية سنة 2015، واستطاع الحصول على أغلبيات مريحة لإدارة كبريات المدن.
هو الخوف، إذن، من الديمقراطية، ومن تحرر صناديق الاقتراع، ومن اتساع رقعة التصويت السياسي في انتخابات كانت مراقبة دائما، سواء بشكل خشن عبر التزوير المفضوح، أو عبر أساليب ناعمة من خلال التحكم في نمط الاقتراع وشكل التقطيع، وضرورة فرض التسجيل في اللوائح الانتخابية على المواطنين، وغيرها من التقنيات التي لم تعد خافية على أحد.
الذين يستثمرون في الخوف من الديمقراطية والخوف من الشرعية التمثيلية لرئيس الحكومة، ما هي مبرراتهم الموضوعية؟ دعك من الذين يسوقون الخوف من الديمقراطية لحماية مصالحهم وامتيازاتهم، والاستفادة من فائض السلطة المتراكم على أبواب القصر الملكي.. دعك من هؤلاء، نحن نحدث هنا عن اتجاه محافظ جدا يرى أن الآلية الديمقراطية، إذا اتسعت داخل الحقل السياسي والانتخابي، وتجذرت ثقافتها في السلوك الانتخابي للمواطن، قد تفتح الباب لدخول الليبرالية السياسية إلى قلب نظام تقليدي عاش دائما على المزاوجة بين «الأصالة والمعاصرة»، وأن النظام، إذا فقد التحكم في اللعبة السياسية، لا يضمن أن تدور عجلتها بطريقة تجعل من المؤسسة الملكية فاعلا كباقي الفاعلين.. هذه الهواجس يمكن الرد عليها من خلال الدفوعات التالية:
أولا: الأسرة العلوية، التي يجلس ملوكها على العرش، مضى عليها أكثر من ثلاثة قرون، فهي من هذه الناحية متجذرة في التربة المغربية، ولها شرعية تاريخية لم يستطع حتى الاستعمار الفرنسي، بكل جبروته، أن يحدث قطيعة في حكمها، وحتى عندما ارتكب مولاي حفيظ خطيئة التوقيع على عقد الحماية، وأصبح مولاي يوسف يسمى سلطان النصارى، فإن محمد الخامس سرعان ما استعاد شرعية الحكم عندما تمرد على المقيم العام الفرنسي، وقبل الخلع عن العرش على الاستمرار في توقيع ظهائر المقيم العام. ولهذا، رأينا أن أول نقطة في جدول عمل مفاوضات الوطنيين مع فرنسا كانت هي عودة السلطان الشرعي إلى عرشه، ولم يكن آنذاك محمد الخامس سوى رجل معزول في جزيرة، انقلب عليه الفرنسيون والقياد والأعيان والزوايا والعلماء، وجزء من أسرته التي دفعت بابن عرفة ليغطي على جريمة نفي السلطان.
ثانيا: الجالس على العرش يحظى بسلط دينية مهمة تجعل منه قائدا روحيا للأمة، وهذا بمقتضى الدستور والقانون والأمر الواقع، حيث لا يجادل في هذه المهمة الاستراتيجية سوى الأقلية، وهذه المهام، التي يضطلع بها الملك في حقل رمزي قوي الدلالات، لم تعد مطلوبة لتبرير السلطوية، كما كان الأمر عليه في عهد الحسن الثاني، بل أضحت مطلوبة لحماية البلاد من التطرف الديني، ومن توظيف المشترك العقدي في الصراع السياسي، وهو ما نرى نتائجه المدمرة في العراق وسوريا واليمن، وغيرها من الدول.
ثالثا: الملكية في المغرب لم تكن تاريخيا تخشى الإصلاحات، بل كانت عموما، وخارج أوقات الأزمات والصراع على السلطة، تقبل بأجندة التغيير الذي يواكب العصر، ويجنب البلاد مخاطر الانعزال أو التخلف أو الفرقة. رأينا ذلك في تفاعل محمد الخامس مع وثيقة المطالبة بالإصلاحات سنة 1934، ومع وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، ومع مطالب إقامة مؤسسات للحكم وبرلمان ودستور في 1956، كما رأينا الحسن الثاني، الذي لم يكن بحال ميالا إلى نظام ديمقراطي، كيف كان يمد يده إلى أحزاب المعارضة كلما عصفت بالبلاد أحداث جسام (انقلابا السبعينات)، ومخاطر السكتة القلبية في التسعينات، وصولا إلى تشكيل حكومة التناوب التي كانت واعدة لو جرى الاستمرار في منطقها بعد وفاة راعيها سنة 1999. أما المبادرات الإصلاحية لمحمد السادس فلا يكاد المرء يحصيها، بدءا بهيئة الإنصاف والمصالحة، ومدونة الأسرة الجديدة، ودستور 2011 الذي شكل نقلة نوعية في المعمار الدستوري في البلاد، وأطلق دينامية سياسية هي التي حملت بنكيران إلى رئاسة الحكومة، وتوجت حزبه الأول في اقتراعين متتاليين.
رابعا: الذي يرى أن ثمن بناء الديمقراطية مرتفع، عليه أن يقارن هذا الثمن بكلفة الاستبداد، وسيرى الفرق. الأنظمة السياسية في العالم كله تتطور وتتغير حسب الظروف والأحوال. في فرنسا اليوم خمس «جمهوريات». في بريطانيا مر القصر بمراحل هائلة من التطور حتى استقر على ما نراه الآن. في اليابان، حيث الإمبراطور نصف إله، تغير الوضع فيها بعد الحرب العالمية الثانية. أسرار التغيير من سنة الله في الحياة، والحكيم من يركب موجة التغيير لا من يقف في وجهها.. اليوم أكثر من 70٪ من المغاربة يسكنون المدن وليس القرى. اليوم 18 مليون مغربي مربوط بالأنترنت عبر هاتف ذكي في جيبه. اليوم في المغرب أقل من 20٪ أميون، والباقون يكتبون ويقرؤون. اليوم 11 مليون مغربي يتوفرون على حساب في الفايسبوك يعبرون فيه عن كل أحوالهم، وآرائهم حول ما يجري في الداخل والخارج. هل هذه المتغيرات الجوهرية مجرد أصفار على الشمال؟
المصدر : جريدة اليوم 24