من "الصراع على سوريا" عنوان كتاب البريطاني باتريك سيل في منتصف ستينات القرن الماضي الى كتاب "الصراع على السلطة في سوريا" للهولندي نيكولاس فان دام في سبعينات ذلك القرن، كانت هناك عودة في السنة 2020 الى مزيج من الصراعين. ثمة صراع على سوريا وثمّة صراع على السلطة في سوريا في الوقت ذاته في هذه المرحلة. ثمّة ما هو ابعد من ذلك. ثمّة أسئلة مرتبطة بمصير سوريا التي عرفناها والتي صارت تحت خمسة احتلالات: الايراني والروسي والتركي والأميركي والإسرائيلي.
جاءت تلك العودة الى الصراعين بعد نصف قرن على قيام النظام السوري الحالي الذي لم يعد من مجال للشكّ في انّه كان منذ بدايته نظاما عائليا قبل أي شيء آخر. في السنة 2020، بقي النظام عائليا، لكنّ تغييرا أساسيا طرأ على تركيبته في ظل صعود نجم أسماء الاخرس الأسد، زوجة بشّار الأسد، وافول نجم رامي محمّد مخلوف. من نظام الأسد – مخلوف، الذي دام طويلا، الى نظام الأسد - الاخرس الذي انتهى قبل ان يبدأ في بلد يغيب فيه الحد الأدنى من الوعي لما آلت اليه سوريا في ظلّ التجاذبات الدولية والإقليمية.
لم يستمر صعود نجم أسماء ابنة العائلة السنّية (من حمص) طويلا. جاءت العقوبات الاميركية على والدها ووالدتها وشقيقيها فراس وايّاد لتؤكّد ان الإدارة الأميركية مصرّة على التغيير في سوريا وان الامر لم يعد مرتبطا بإدارة دونالد ترامب، بل يتعدّى ذلك نظرا الى ان اللاعب الأساسي في هذا المضمار هو الكونغرس بمجلسيه (مجلس الشيوخ ومجلس النواب) حيث يحظى التغيير الجذري في سوريا بتأييد كبير من الشيوخ والنواب الديموقراطيين والجمهوريين على حدّ سواء.
كان لا بدّ من انتظار وفاة محمّد مخلوف قبل ثلاثة اشهر لاكتشاف انّ الرجل كان ابن خالة حافظ الأسد وان شقيقته انيسة زوجة الرئيس السوري الراحل لم تكن من طبقة اجتماعية مختلفة. كلّ ما روّج له النظام طوال نصف قرن عن دور محمّد مخلوف في تسهيل زواج اخته من حافظ الاسد كان غير صحيح. كلّ ما في الامر انّه كان هناك، منذ البداية، توزيع للأدوار بين الأسد الاب وابن خالته الذي وضع يده على الاقتصاد السوري بغطاء منه وذلك من اجل السيطرة على الطائفة العلوية وتطويعها عن طريق صناديق مالية خاصة.
أسس حافظ الأسد للنظام القائم الى الآن. كان ذلك في 16 تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1970. انقلب حافظ الأسد، وزير الدفاع منذ العام 1966 والذي احتلت إسرائيل الجولان خلال توليه هذا الموقع في حزيزان – يونيو 1967، في ظروف اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها غامضة، على رفاقه البعثيين والعلويين. تفرّد بحكم سوريا بعد وضعه العلوي الآخر صلاح جديد في السجن مع السنّيين نور الدين الاتاسي ويوسف زعيّن وآخرين. ما لبث ان تخلّص من الضابط العلوي الكبير الآخر محمّد عمران عندما ارسل من يغتاله في طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني في العام 1972. كلّف ذلك تحوّل رئيس الوزراء اللبناني وقتذاك صائب سلام الى شخص غير مرغوب به في سوريا بسبب إصراره على التحقيق في جريمة اغتيال محمّد عمران.
يمكن وصف ما حصل في 2020 بتطور في غاية الاهمّية، بل بمنعطف، على الصعيد السوري وذلك بعد اقل بقليل من عشر سنوات على اندلاع الثورة الشعبية في آذار – مارس من العام 2011. ففي ظلّ الصراع الإقليمي والدولي على سوريا، تغيّرت طبيعة الصراع الدائر داخل العائلة الحاكمة. خرج رامي محمد مخلوف الذي ورث الدور الذي كان يلعبه والده وحلت مكانه أسماء الاخرس الأسد المرأة التي تمتلك شبقا ليس بعده شبق الى السلطة والنفوذ المالي.
استطاعت أسماء في 2020 تدمير امبراطورية آل مخلوف الاقتصادية والاجتماعية والطائفية والسيطرة عليها بالكامل وتفتيت ما بقي منها لمصلحة مشروع خاص بها. بذلك صارت العائلات العلوية ولقمة عيشها وخبزها اليومي تحت رحمة مؤسسات "الامانة السورية للتنمية" التابعة مباشرة لأسماء الاخرس بعد ان كانت تحت سيطرة آل مخلوف منذ سبعينيات القرن الماضي حين سمح حافظ الاسد لمحمد مخلوف بالسيطرة على الاقتصاد السوري واستخدام هذا المال للسيطرة على ابناء الطائفة العلوية وتطويعهم وتحويلهم الى عبيد للعائلة الحاكمة. كذلك، استطاعت اسماء تحويل نفسها الى ركيزة اساسية في معادلة اقتصاد الحرب السورية لضمان ديمومة النظام الاسدي.
تأمل اسماء بنقل السلطة الى ابنها حافظ الصغير. باتت تسيطر اليوم على 70% من اقتصاد القطاع العام السوري عبر ما يسمى "صندوق شهداء وجرحى الجيش العربي السوري". تشارك أسماء ايضا بطريقة مباشرة في الاقتصاد السوري الخاص. كذلك، تسيطر اسماء على موارد المؤسسات الدولية الانسانية ومنظمات الامم المتحدة العاملة في سوريا عبر تحكّمها بوزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة الهلال الاحمر السوري واجبار كلّ المؤسسات الدولية العاملة في سوريا على العمل حصرا عبر هاتين الجهتين الخاضعتين لها مئة في المئة.
تركت أسماء الاقتصاد "القذر" لماهر الأسد وحيّدته في المواجهة الناجحة التي خاضتها مع رامي مخلوف ومجموعته. إضافة الى ذلك، استطاعت فرض سيطرة أقارب مباشرين لها على قطاعات اقتصادية معيّنة.
لم يكن في حسابات اسماء الاخرس الاسد انّه سيأتي يوم تستهدف فيه عائلتها بعقوبات "قانون قيصر" الاميركي. كانت تظن ان الجنسيات البريطانية والدور "السياسي الخفي"، الذي ظن والدها الدكتور فواز الاخرس انه يلعبه، سيوفّر لهم حماية من العقوبات الأميركية التي سبق ان طالتها شخصيا كما طالت نجلها الأكبر الذي ما زالت تحلم بتوريثه الرئاسة.
اثبتت العقوبات ان وضع العائلة على لائحة العقوبات الاميركية جاء بتنسيق كامل بين واشنطن ولندن. اكثر من ذلك، جاءت العقوبات لتثبت انّ التغيير في سوريا سياسة أميركية بغض النظر عن الشخص الموجود في البيت الأبيض، اكان دونالد ترامب او جو بايدن.