لم ولن يكون مستغرباً أن تتعرض أي تجربة نجاح إماراتية لسيل من التشكيك والتكبر الأجوف عليها. فهذه الدولة الصغيرة مستفزة. مستفزة بسبب إدمان الإنجاز والنجاح والتميز والريادة. آخر إنجازات الإمارات، الذي حرصت أن تهديه لكل العرب، هو «مسبار الأمل». مشروع تولى مركز محمد بن راشد للفضاء ووكالة الإمارات للفضاء عمليات التنفيذ والإشراف على مراحله كافة، وتوّج بإيصال المسبار إلى مدار كوكب المريخ.
أربعة طعون رئيسية تمحورت حولها حملة التشويش الظالمة على هذا المنجز الإماراتي والعربي والعالمي، بأبعاده العلمية والحضارية.
1 - مهمة استعراضية؟ كلا.
يكفي النظر إلى المهمات المرتقبة لـ«مسبار الأمل» حتى يتأكد المرء أن تهمة الاستعراض، وانقطاع صلة هذا الحدث بالمنجز العلمي الفعلي، هي مجرد اتهامات باطلة.
لكن قبل ذلك، لنلاحظ أن 50 في المائة من البعثات البشرية قبلاً فشلت في أن تدخل مدار كوكب المريخ؛ ما يعني أننا ببساطة بإزاء مهمة بالغة التعقيد وليس أمام مناورة استعراضية.
عبر هذا المسبار سيتم جمع بيانات، بعضها غير مسبوق، تساعد على فهم مناخ المريخ من خلال جمع وتحليل بيانات الغلاف الجوي السفلي للكوكب. كما سيكون ممكناً فهم المتغيرات المناخية التي أصابت الكوكب وأسبابها من خلال رصد المتغيرات التي طرأت على مستويات الهيدروجين والأكسجين في غلافه الجوي العلوي. وأهمية ذلك تكمن في أن كوكب الأرض شهد ويشهد متغيرات مناخية تتقاطع في بعض مواصفاتها مع ما طرأ على الكوكب الأحمر؛ ما يجعل من مهمات مسبار الأمل مصدراً لمادة استراتيجية تفيد البشرية في ابتكار سبل وكيفيات استدامة استقرار واقع كوكب الأرض ومستقبله.
كما أن مهمة «مسبار الأمل» امتداد لمسار طويل من الهم الفضائي الذي عبّرت عنه الإمارات وراكمت في مجاله عدداً من المنجزات الاستراتيجية التي جاءت مهمة مسبار الأمل تتويجاً أول لها.
فقد أسفر التعاون بين دولة الإمارات وعدد من اللاعبين الرئيسيين في مجال علوم الفضاء ككوريا الجنوبية، عن إنتاج وتنفيذ وإطلاق مجموعة من الأقمار الصناعية مثل «دبي سات 1» و«دبي سات 2» عامي 2009 و2013، بالإضافة إلى القمر الصناعي النانوي «نايف - 1» عام 2017.
وفي عام 2019 أصبح هزاع المنصوري، رائد الفضاء الإماراتي الأول الذي ينطلق إلى الفضاء في مهمة علمية.
لا ينتقل المرء من الصفر ليصل إلى المريخ على صهوة الاستعراض. فرحلة «مسبار الأمل» هي تتويج لرحلة إماراتية نحو الفضاء لا تزال في بداياتها.
2 - كل ما قدمته الإمارات هو التمويل. خطأ.
دعونا نتأمل في تكلفة المشروع التي ما تجاوزت 200 مليون دولار على مدى ست سنوات، أي ما يزيد بقليل على 33 مليون دولار في السنة. لا أحد في العالم يحتاج من الإمارات إلى مثل هذه الأرقام «البسيطة» بالمقارنة مع ما بوسع الإمارات تقديمه من مغريات مالية للشركات والمستثمرين. ولا أحد لديه الاستعداد أن يبيع الإمارات «سمعة فضائية» مقابل هذا المبلغ البسيط بالمقارنة مع العائد المعنوي الهائل لوضع الإمارات على خريطة الدول المالكة لإمكانات فضائية في العالم. 200 مليون دولار، أي ما يعادل 0.05 في المائة من تكلفة إعمار سوريا التي هدمها بعض من المشوشين على نجاحات الإمارات. أو ما يعادل 1.6 في المائة من فاتورة العجز المترتب على فساد وتخلف قطاع الكهرباء في لبنان... أو حصيلة عشرة أيام من عائدات النفط التي كانت تخصصها حكومة نوري المالكي لقاسم سليماني، وهو 20 مليون دولار يومياً بحسب مقالة ديكستر فيلكينز في مجلة «نيويوركر» الأميركية.
دعونا ندقق الآن في تصريحات الجهات الفضائية الدولية.
نشرت وكالة «ناسا» من خلال صفحة مركبة «بيرسيفيرينس روفر» المتجهة إلى المريخ والتابعة للوكالة، تغريدة موجهة لمهمة «مسبار الأمل» كتبت فيها «تهانينا على وصولك إلى المريخ! كما قال الشاعر المتنبي: إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُوم، فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ».
كما غرد حساب «اليابان بالعربي» صوراً تظهر الفرق بين «المسبار الإماراتي» و«الصاروخ الياباني» الذي يحمله إلى الفضاء فقط، في محاولة لتوضيح كون المسبار إماراتياً وليس أجنبياً أو يابانياً. كما صدرت من الهند، وهي الدولة الأولى في آسيا والرابعة عالمياً التي تنضم إلى الدول التي أرسلت مهمات لاستكشاف الكوكب الأحمر، تصريحات لكبار العلماء فيها تشيد بالمهمة الإماراتية وريادتها، في حين اعتبر رئيس المركز الفرنسي للفضاء، جان إيف لوغا، أن العالم أصبح ينظر إلى دولة الإمارات بعد إطلاقها «مسبار الأمل» في يوليو (تموز) الماضي، «كقوة صاعدة على المستوى العالمي»، لافتاً إلى أنه أصبح لها موطئ قدم في المجال الفضائي.
فهل تم شراء ذمم هذه الكوكبة من العلماء والمرجعيات المحترمة في كل أصقاع العالم بمائتي مليون دولار فقط!
3 - مهمة المسبار قامت على خبرات ومشغلين غربيين استأجرتهم الإمارات. غير صحيح.
لقد أعلن بشكل شفاف وعلى مرأى ومسمع من كل المرجعيات الفضائية في العالم، أن 200 مهندس وخبير إماراتي شاركوا في تطوير «مسبار الأمل»، 34 في المائة منهم من النساء، وهي النسبة الأعلى في العالم في مشروع مماثل.
وقد ساهمت هذه النخبة العلمية الإماراتية في تطوير 200 تصميم تكنولوجي علمي جديد وتصنيع 66 قطعة من مكونات المسبار في الإمارات إلى جانب نشر 51 بحثاً علمياً متخصصاً وورقة عمل. ما نتحدث عنه هنا مساهمة إماراتية رائدة في منتجات تكنولوجية شديدة التعقيد تدخل في مهمات التصوير عالي الدقة والقياس عبر تكنولوجيا الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية، وقياس العمق البصري للغلاف الجوي السفلي للمريخ، وقياسات الحرارة والغبار والاتربة في الغلاف الأوزوني للكوكب.
مرة أخرى تجدر العودة إلى المسار العلمي الذي أوصل إلى لحظة المريخ، للتأكد من أننا أمام منجز علمي هو حصيلة تراكم معرفي وتراكم منجزات ساهمت في توسعة البنية المعرفية التحتية في مجال علوم الفضاء. ففي عام 2018، أطلق مركز محمد بن راشد للفضاء، أول قمر صناعي للاستشعار عن بعد صُمم وصُنّع في دولة الإمارات بنسبة 100 في المائة هو القمر «خليفة سات». وهذا ما كان من غير الممكن الوصول إليه من دون الرؤية الاستراتيجية لدولة الإمارات التي عكفت منذ عام 2006 عبر وكالة الفضاء الوطنية، التي يديرها مركز محمد بن راشد للفضاء على برنامج نقل المعرفة بداية من كوريا الجنوبية. كما ينبغي التوقف أمام التنوع الثري في علاقات دولة الإمارات مع مختلف أقطاب عالم الفضاء على ما يدل عليه مثلاً التعاون الروسي - الإماراتي الذي سمح بإيصال أول رائد فضاء إماراتي إلى الفضاء الخارجي.
4 - مهمة مسبار الأمل مهمة سياسية لتحسين صورة الإمارات. افتراء.
يبدو لي أن الهم السياسي الوحيد الذي يمكن ربطه بمهمة «مسبار الأمل» هو ما يدل عليه الاسم من أن الإمارات تتحول بسرعة لأن تكون بوصلة أمل لشباب العربي أولاً وللعالم، ومختبرات للحداثة والعلم، وأن تقود بالمثال والتجربة كتلة شبابية هائلة نحو الاهتمام بالعلم سبيلاً وحيداً للتقدم وعلاجاً فريداً لأمراض العصبيات المقيتة. فنحن نتحدث هنا عن إشراك 60 ألف شخص من البرامج العلمية والتعليمية للتعريف بمهمة مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ، والذي ينطوي على مشروع بناء مستوطنة للبشر على الكوكب الأحمر، ما يعني أننا لسنا أمام لحظة فضائية معزولة، بل أمام دولة ساعية لخلق بيئة حاضنة ومحفزة على الشغف بمروحة واسعة من العلوم والمعارف في مجال علمي كان مجهولاً إلى حد كبير في الدولة والمنطقة ككل.
السياسي في تجربة «مسبار الأمل» شديد البساطة وبالغ التعقيد. ثمة من يقول في هذه البقعة من العالم إن الصراع الحقيقي هو الصراع بين من يريدون المستقبل وبين من يريدون الماضي لا أكثر ولا أقل.