بقلم: عبد الحق بلشكر
كلما صدر تقرير للتنمية البشرية، من لدن الأمم المتحدة، تسابقت الصحف إلى نشر معطياته، وإبراز تحسن أو تأخر ترتيب المغرب. لكن قليلة هي المعطيات والتحليلات التي تذهب إلى أبعد من التقرير لفهم التحديات الكبرى للتنمية البشرية في المغرب بكل تعقيداتها. وخلال نهاية الأسبوع الماضي، كانت هناك فرصة نادرة لمجموعة من الصحافيين لفهم أعمق للإشكالات والتحديات، من خلال لقاء مع مسؤولي «المرصد الوطني للتنمية البشرية»، الذي يعد بحق أحد أبرز المؤسسات الوطنية التي تشتغل على تقييم برامج التنمية بالمغرب. هناك الكثير من المعطيات المهمة التي استُعرضت في اللقاء، لكني أود التركيز على ثلاثة تحديات أثارت انتباهي. أولها، تحدي تحسين ترتيب المغرب في مؤشرات التنمية التي تعتمدها الأمم المتحدة، والذي يتبين حسب خبراء المرصد أنه لن يعرف تحسنا في السنوات المقبلة. قد تبدو هذه الحقيقة صادمة بالنظر إلى الجهود التي بذلها المغرب منذ سنوات، وصرفه ما يزيد على 27 مليار درهم على برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ما بين 2005 و2015، لكن، منذ سنوات، يدور المغرب في الحلقة نفسها؛ في العام الماضي كان ترتيبه 123 من أًصل 189 دولة، وفي 2019 أصبح في المرتبة 121. لماذا؟ لأن الأمم المتحدة تعتمد ثلاثة مؤشرات لقياس التنمية البشرية في الدول؛ أولها، عدد سنوات الدراسة بالنسبة إلى الفرد، حيث يواجه المغرب عائقا هيكليا منذ سنوات، ويتعلق بنسبة 65 في المائة من السكان الذين تفوق أعمارهم 25 سنة، ولا يتعدى عدد سنوات دراستهم 5 سنوات أو أقل أو هم أميون (على الأقل يجب أن يكون عدد سنوات الدراسة 7 سنوات للفرد)، وهذا العائق بمثابة «خزان» يؤخر المغرب كثيرا في الترتيب مقارنة بدول أخرى مشابهة، ونحتاج لتجاوزه إلى عشرين سنة. والثاني، هو مستوى الدخل، حيث إن معدل دخل الفرد في المغرب لا يتعدى 7500 درهم شهريا، وهو أقل من دخل الفرد في دول مثل ليبيا والعراق، والسبب هو أن الاقتصاد المغربي ضعيف، وموارد ميزانيته محدودة. أما المؤشر الثالث، فهو الصحة، خاصة بالنسبة إلى المرأة والطفل، وهنا فإن المغرب حقق تقدما من حيث تحسين نسب وفيات الأمهات والأطفال، لكن، حسب ما يقوله خبراء المرصد الوطني للتنمية البشرية، فإن الأمم المتحدة لم تعتمد معطيات محينة. وبالطبع، يطالب المغرب بدمج مؤشرات أخرى، مثل الأمن والاستقرار، لأنه لا معنى لمستوى جيد في الدخل والتعليم في دول عربية، مثلا، تعيش مشاكل أمن واستقرار.
التحدي الثاني، هو تحدي الانتقال الديموغرافي، ويعني أن المغرب سيعرف تغيرا هيكليا في هرمه السكاني خلال العشرين سنة المقبلة، ستهمين عليه الشيخوخة. فحاليا، يعيش المغرب «فترة ذهبية ديموغرافيا»، تتميز بهرم سكاني تهمين عليه ساكنة واسعة تتراوح أعمارها ما بين 15 و50 سنة، لكن خلال العقدين المقبلين ستكون فئة الشيوخ هي المهيمنة. لماذا؟ وما أثر ذلك؟ السبب هو أن المغرب «عاش نقلة ديموغرافية سريعة»، ففي الستينيات والسبعينيات، أدى ارتفاع الخصوبة إلى ضغط ديموغرافي كبير، حيث كان معدل عدد الأطفال لدى الأسرة الواحدة يصل إلى 6 أطفال، وهو وضع كان من شأن استمراره أن يضاعف عدد السكان خلال عشرين سنة، لكن بعد إطلاق برامج تحديد النسل وتنظيم الأسرة، تراجعت الخصوبة، فأصبح معدل الوفيات يعادل معدل الولادات. أدت هذه الوضعية بالمغرب إلى تحقيق انتقال ديموغرافي سريع خلال مدة لا تتجاوز 40 سنة، ما أدى إلى تقلص قاعدة الهرم السكاني، أي المواليد والأطفال، وتضخم وسط الهرم أي الأشخاص ما بين 15 و50 سنة، نتيجة تراجع الخصوبة. هذه الفترة التي يعيشها المغرب يعتبرها الخبراء «ذهبية»، خاصة إذا جرى استغلال طاقات الشباب في خلق الثروة، واستغلال هذه الفرصة، لكن الواقع الحالي لا يبعث على التفاؤل، لأن معدل الإنتاج يتراجع، ولا تُخلق ثروات بالمستوى الكافي للمستقبل. والأخطر هو أن دخول المغرب عصر الشيخوخة سيعني مزيدا من الفقر والهشاشة، لأن هذه الفئة في معظمها هشة، وليست مثل الشيوخ في الدول الغربية، الذين لهم ادخار وتأمين ومستوى معيشي مقبول. وهنا يمكن التوقف عند ظاهرة مثيرة للقلق وتتعلق بـ«شبان الشارع»، أو من يسمون بـ«الحيطيست»، أي الشبان الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 سنة، والذين يوجدون خارج المدرسة ولا شغل لهم، يقضون وقتهم في التسكع. هؤلاء يشكلون حاليا 30 في المائة من مجموع الشباب في هذه السن، أي حوالي مليوني شاب.
التحدي الثالث، هو الفقر والفوارق في المغرب. صحيح أن المغرب قلص نسبة الفقر المدقع، من 20 في المائة قبل عشرين سنة، إلى 2 في المائة حاليا، أي الذين يعيشون بمعدل دولارين في اليوم. لكن الإحساس بالفقر، أو ما يسميه الخبراء بـ«الفقر الذاتي»، يزداد بقوة. فنصف المغاربة يعتبرون أنفسهم فقراء، ويعود ذلك لعدة أسباب منها الفوارق الاجتماعية. مثلا، الشخص الذي لا يستطيع أداء رسوم تمدرس أطفاله في مدرسة خاصة أصبح يعتبر نفسه فقيرا، والأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مقصيين ومهشمين يصنفون أنفسهم في خانة الفقراء، وربما يزيد من تعميق هذا الإحساس أن مطالب الناس وحاجياتهم تزايدت. أما الفوارق بين الجهات والمناطق فهي كبيرة. مثلا، تحتاج مدينة مثل الخميسات إلى 15 سنة لتصل إلى مستوى مدينة مشابهة كالصخيرات، حتى لا نقارنها بمدن كبرى. وهناك ثلاث جهات غنية بالموارد والمؤهلات، لكنها ضعيفة جدا (جهات مراكش-آسفي، وتادلة-أزيلال، ودرعة-تافيلالت)، وهي تحتاج إلى 42 سنة لتلحق بمستوى الجهات الأخرى.. هذه فقط بعض تحديات التنمية البشرية بعيدا عن مؤشرات الأمم المتحدة، وهي تحديات لا تحتاج فقط إلى ضخ أموال، إنما إلى تعبئة برامج شاملة وطاقات محلية وحكامة للنهوض بقضايا التعليم والصحة والتشغيل لرفع التحديات في السنوات المقبلة.