بقلم - عبد الباري عطوان
لسنا من الكتّاب الذين يتسارعون للكِتابة في الذّكرى السنويّة للأحداث، والمفاصل التاريخيّة الهامّة، تَجنُّبًا للتّكرار، واستِخدام العِبارات نفسها، ولكن نَجِد مِن الصّعوبة تجاهل مُرور الذّكرى السنويّة العِشرين للانتِصار الكبير للمُقاومة اللبنانيّة يوم 25 أيّار (مايو) عام 2000، وخُروج القوّات الإسرائيليّة مهزومةً مُهانةً تقليصًا للخسائر، ومِن المُفارقة أنّ الجِنرال غابي أشكنازي وزير الخارجيّة الحالي في حُكومة نِتنياهو كان آخِر ضابِط إسرائيلي ينسحب من الأرض اللبنانيّة في حينها.
إنّه الانتِصار الأوّل الذي يُؤرِّخ لتحرير أرضٍ عربيّةٍ مِن الاحتِلال الإسرائيلي من خِلال حرب التّحرير الشعبيّة، وعلى أيدي رجال المُقاومة اللبنانيّة، ويُجبِر الاحتِلال على الهُروب، ومن طرفٍ واحد، ودون توقيع أيّ اتّفاقات، أو مُعاهدات سلام، ليتلوه انتصارٌ آخَر، في صيف عام 2005، وبالأُسلوب نفسه في الجنوب الفِلسطيني المُحتل، أيّ قِطاع غزّة.
عام ألفين، كان نقطة تحوّل رئيسيّة في تاريخ ثقافة المُقاومة، عُنوانها تحوّلها، أيّ المُقاومة، إلى بديلٍ للجُيوش العربيّة التقليديّة، أو مُكمِّل لها، واتّباعها استراتيجيّةً فاعلةً ومُثمِرةً، أوّل أبجديّاتها رفع كُلفَة الاحتلال من خلال إلحاق أكبر قدر مُمكن من الخسائر الماديّة والبشريّة في صُفوف قوّاته بحيث لا تستطيع القِيادتان العسكريّة والسياسيّة تحمّلها، ممّا يدفعهما إلى الرّضوخ للضّغوط الشعبيّة، ورفع راية الاستِسلام، والتّقاعد في سلّة زبالة التّاريخ.
***
الجِنرال أشكنازي الذي تحوّل إلى رئيس الدبلوماسيّة الإسرائيليّة، وهو تَحوّلٌ لا يُمكن أن يحدث إلا في دولةِ الاحتلال العُنصريّ، اعترف أمس في تصريحاتٍ صحافيّةٍ بأمرين: الأوّل أنّ المُواجهة لم تنتهِ في الجبهة الشماليّة، وأنّه ترك أفضل زملائه وقادة جُنوده على الأرض اللبنانيّة، وكان مُصيبًا في الحالين، لأنّ عدد القتلى من الإسرائيليين طِوال عُمر احتِلالهم لجنوب لبنان الذي استمرّ 18 عامًا بلغ 1200 عسكريًّا، علاوةً على أكثر من عشرة آلاف جريح إن لم يَكُن أكثر، وكان يسقط جندي إسرائيلي كُل أربعة أيّام برصاص المُقاومة، ونحنُ هُنا لا نُحصِي آلاف القتلى من العُملاء من قوّات الجِنرال أنطوان لحد، وقبله سعد حداد، الذين خانوا أمّتهم وقَبِلوا أن يكونوا أدوات لاحتِلال أرضهم، وانتهى بهم المطاف باعَة فلافل منبوذين في شوارع فِلسطين المُحتلّة، ونحنُ نتحدّث هُنا عن الجِنرال لحد تحديدًا، وهذا هو المصير نفسه الذي ستُواجِهه قوّات الأمن الفِلسطينيّة وقِيادتها إذا استمرّت في التّنسيق الأمنيّ مع دولة الاحتِلال.
المُقاومة اليوم غير المُقاومة قبل عشرين عامًا، فبعد سِت سنوات من هذا الانسِحاب الإسرائيلي المُهين، حاول إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن يُعيد الاعتبار لجيشه، وغسل عار هزيمته بشنّ عدوانٍ على جنوب لبنان، ولكنّ النّتائج جاءت أكثر من كارثيّةٍ، والهزيمة مُضاعفة وواجَه الجيش الإسرائيليّ الذي لا يُهزَم الهزيمة الأكبر في تاريخه حتّى الآن، والهزيمة القاصِمَة لظهره قد لا تكون بعيدةً.
شاءت الأقدار أن أزور متحف “مليتا” الذي أقامته حركة المُقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة بزعامة “حزب الله” في جنوب لبنان، وأعترف أنّ دموعي سالت فرحًا وأنا أرى العَتاد العسكريّ الإسرائيليّ مُنكَسِرًا في زواياه، ودبّابة “الميركافا” فخر الصّناعة الإسرائيليّة ذليلةً مُحطّمةً بضربةِ صاروخٍ مُقاومٍ مُباركٍ، ولم تقم لها قائمةٌ مُنذ ذلك التّاريخ.
المُقاومة اليوم، سواءً في جنوب لبنان، أو قِطاع غزّة، باتت الرّقم الأصعب لما تملكه من خبراتٍ قتاليّةٍ، ومنظومات صواريخ وطائرات مسيّرة، ومُقاتلين أشدّاء، وقيادة صُلبة قادرة على اتّخاذ القرار بالحرب، ويَحسِب لها الاحتِلال الإسرائيلي ألف حِساب، لأنّها تَستَعجِل الشّهادة.
لم يجرؤ الجيش الإسرائيلي، ولا طائِراته ودبّاباته الأمريكيّة الصّنع التقدّم مِترًا واحدًا في جنوب لبنان أو قِطاع غزّة لأنّ قِيادته تُدرِك جيّدًا أنّ الرّد الصّاروخي سيكون مُزلزِلًا، وسيَدفع بملايين المُستوطنين الإسرائيليين للهرولة إلى المَلاجِئ إيثارًا للسّلامة، وهُنا تتجسّد عظمة المُقاومة.
***
في المُواجهة الأخيرة التي انفجَرت كردٍّ على اغتِيال القوّات الإسرائيليّة المُجاهد إيهاب أبو العطا أحد أبرز القادة الميدانيين في حركة الجهاد الإسلامي في قِطاع غزّة، أطلقت الحركة مِئات الصّواريخ والقذائف لضرب أهدافٍ إسرائيليّةٍ انتِقامًا، وأحدثت حالةً من الشّلل في نِصف مُستوطني دولة الاحتلال، وحوّلت بنيامين نِتنياهو إلى أُضحوكةٍ بعد تداول أشرطة مُصوّرة له وهو يهرب هلعًا مِثل “الأرنب” من حفلٍ خِطابيٍّ انتخابيٍّ له في عسقلان.
أكثر من مئة وخمسين ألف صاروخ من النّوع الدّقيق والمُتطوّر جدًّا باتت تزدحم بها ترسانة أسلحة “حزب الله” المُخزّنة في قلب جِبال جنوب لبنان الشمّاء، أنتجتها مصانع محليّة، وعلى أيدي خُبراء لبنانيين، ولا نَعرِف عدد مثيلاتها في قِطاع غزّة الذي لم يركع رغم الحِصار التّجويعي المُستمر مُنذ عشر سنوات إنْ لم يَكُن أكثر.
في خِطابه الأخير الذي ألقاهُ السيّد حسن نصر الله في ذِكرى استِشهاد مصطفى بدر الدين أعاد التّأكيد على إيمانه بأنّه سيُصلّي في المسجد الأقصى بعد تحرير القدس وفي ظِل هذه المُقاومة الباسِلَة سيتحقّق هذا الوعد بإذنه تعالى، ونتضرّع إلى الله أن نكون في صُفوف المُصلّين خلف إمامته، وليس ذلك على اللهِ بكثير.. والأيّام بيننا.