قبل ايّام قليلة من عودة الرئيس ايمانويل ماكرون الى لبنان لتفقد الوحدة الفرنسية العاملة في اطار القوّة الدولية في جنوب البلد، وهي عودة لم تعد اكيدة بعد إصابة الرئيس الفرنسي بفيروس كورونا (كوفيد – 19)، هناك ملاحظات تستأهل التوقف عندها. من بين هذه الملاحظات احتمال طي صفحة المبادرة التي حملها ماكرون في زيارتين سابقتين الأولى مباشرة بعد تفجير ميناء بيروت في الرابع من آب – أغسطس الماضي والثانية في الأوّل من أيلول – سبتمبر وذلك في الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير من قصر الصنوبر، مقرّ إقامة السفير الفرنسي المعتمد لدى الجمهورية اللبنانية.
ما يوحي بإمكان طيّ صفحة المبادرة الفرنسية، التي كان يمكن ان توفّر فرصة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من البلد، العجز عن تشكيل حكومة وفق خارطة طريق وضعتها باريس. في أساس خارطة الطريق هذه، تولّي حكومة اختصاصيين القيام بالإصلاحات المطلوبة بغية تمكين لبنان من الحصول على مساعدات هو في اشدّ الحاجة اليها. ليس سرّا ان لبنان لن يستطيع الحصول على أي مساعدات من ايّ نوع من دون إصلاحات تلبي شروطا معيّنة لصندوق النقد الدولي. مثل هذا الامر ليس سرّا في غياب ايّ اهتمام عربي بلبنان. يعود ذلك الى أسباب عدّة من بينها ان دول الخليج العربي التي كان يمكنها مساعدة لبنان تعتبر البلد ساقطا عسكريا وسياسيا في ظلّ "العهد القوي" الذي يرأسه ميشال عون والذي هو في الواقع "عهد حزب الله".
هل يمكن القول انه لم تعد هناك فائدة من المبادرة الفرنسية؟ الجواب انّ مجرّد الفشل في تشكيل حكومة، تحلّ مكان الحكومة التي استقالت بعد تفجير مرفأ بيروت، يعكس ازدراء بكل الجهود التي بذلها الرئيس الفرنسي من جهة ورغبة إيرانية في بقاء لبنان ورقة إيرانية يفاوض بها الإدارة الأميركية الجديدة. هذا ما بدا واضحا من توقف مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل. بدأت المفاوضات بضوء اخضر إيراني وتوقفت بضوء احمر إيراني. بات كلّ الوضع اللبناني معلّقا. فجأة لم يعد رئيس الجمهورية مهتما بتشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري. صار همّه المستقبل السياسي لصهره جبران باسيل، وهو مستقبل شبع موتا في ضوء العقوبات الأميركية التي فرضت على صهر رئيس الجمهورية الذي يرأس "التيّار الوطني الحر"، أي "التيّار العوني" المتحالف في العمق مع "حزب الله" منذ شباط – فبراير 2006.
لا يمكن التوفيق بين مصلحة لبنان ومصلحة شخص معيّن ما كانت الإدارة الأميركية لتفرض عليه عقوبات، بموجب قانون ماغنتسكي المرتبط بالفساد، لولا امتلاكها ما يبرر مثل هذه الخطوة. عون ليس مجرّد شخص طارئ على السياسة يمتلك القدرة على لعب لعبة التذاكي، أي الانتقال من المساهمة في صدور "قانون محاسبة سوريا واستعادة لبنان سيادته"، عن الكونغرس، في العام 2003 والانتقال الى توقيع وثيقة مار مخايل مع حسن نصرالله الأمين العام لـ"حزب الله" في شباط – فبراير 2006 مع ما يعنيه ذلك من تغطية طرف مسيحي لبناني لسلاح مذهبي ميليشيوي موجود في تصرّف "الحرس الثوري" الإيراني.
من الطبيعي ان يصاب الرئيس الفرنسي بصدمة بعدما اكتشف ان الطبقة السياسية في لبنان غير معنيّة بإنقاذ لبنان. بل أنّ لبنان يغرق مثل سفينة "تايتانيك" التي غرقت في العام 1912، "ولكن من دون موسيقى"، على حد تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان لوي لودريان في حديث ادلى به أخيرا الى صحيفة "لو فيغارو".
يستفيد "حزب الله" الى ابعد حدود من اعتقاد رئيس الجمهورية أنّ في استطاعته إعادة تعويم جبران باسيل. ليست إعادة التعويم هذه، التي تجري على حساب البلد، سوى تتمّة منطقية لسياسة إيرانية تقوم على فكرة ان لبنان ورقة إيرانية وان في الإمكان الاستفادة من هذه الورقة، بين أوراق أخرى، في أي مفاوضات مع الإدارة الأميركية الجديدة من اجل العودة الى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني.
هل أصبحت فرنسا خارج اللعبة اللبنانية كلّيا، علما انّها مرتبطة بالبلد تاريخيا من زوايا عدّة وعلما انّها طرف من بين الأطراف الستة التي وقّعت الاتفاق في شأن الملفّ النووي مع ايران صيف العام 2015 في عهد باراك اوباما؟
لا شكّ ان نفوذ فرنسا تقلّص الى حد كبير خصوصا انّها لا تمتلك الوسائل التي تسمح لها بتنفيذ سياستها اللبنانية. لا تمتلك سوى النصائح التي اسداها ايمانويل ماكرون والتي كانت بالفعل صادقة. لكنّ المشكلة تكمن، بكلّ بساطة، في ان الرئيس الفرنسي وكبار مساعديه الذين يتعاطون مع الازمة اللبنانية يعرفون البلد ولا يعرفونه. يعرفون تفاصيل التفاصيل عن ملفّات الفساد في لبنان، خصوصا في قطاع الكهرباء ولديهم سيّدة طرحوا اسمها لوزارة الطاقة التي يصرّ جبران باسيل على الاحتفاظ بها. يصرّ على ذلك، برغم فشله الذريع في تحسين وضع الكهرباء في لبنان، وهو وضع كان تحت سيطرته الكاملة طوال ما يزيد على عشر سنوات.
ما لا تعرفه فرنسا، او ما لا تريد ان تعرفه يتمثّل في ان "حزب الله" الذي يتحكّم بالبلد لواء في "الحرس الثوري" الإيراني ولا شيء آخر غير ذلك. ينحصر الاهتمام الإيراني في الوقت الحاضر بفتح خطوط تفاوضية مع إدارة جو بايدن وذلك تحقيقا لحلم قديم. يقوم هذا الحلم على فكرة العودة الى الوضع الذي كان سائدا في العام 2015 عندما كان باراك أوباما يعتقد انّ الملفّ النووي الإيراني يختزل كلّ مشاكل الشرق الأوسط والخليج.
سيبقى هذا الحلم حلما، لا لشيء سوى لان العالم تغيّر. اميركا نفسها تغيّرت، لكنه ليس معروفا بعد الى ايّ حد حصل مثل هذا التغيير بعدما اثرت العقوبات التي فرضتها إدارة دونالد ترامب تأثيرا كبيرا على "الجمهورية الإسلامية". ما هو معروف انّ أوروبا نفسها تغيّرت وباتت تعرف ايران بطريقة افضل وترفض ايّ مفاوضات معها لا تشمل الصواريخ الباليستية والسلوك الإيراني في المنطقة، بما في ذلك لبنان.
قبل الذهاب الى الجزم بانّ فرنسا فشلت كلّيا في لبنان، لا يمكن تجاهل انّ إدارة بايدن حريصة كلّ الحرص على إعادة مدّ الجسور مع أوروبا، مع فرنسا وألمانيا تحديدا. ستكون مختلفة، في هذا المجال، عن إدارة ترامب. يفترض في مثل هذا التطوّر دفع "العهد القويّ" الى التفكير مرتين قبل اتخاذ قرار نهائي بان المبادرة التي طرحها ماكرون صارت من الماضي وانّ لا خيار امامه سوى ان يستمرّ في لعب دور الغطاء المسيحي لـ"حزب الله" وسلاحه المذهبي، أي لإيران و"الحرس الثوري" فيها.