عبد الباري عطوان
الاتّصال الهاتفي الذي أجراه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بالرئيس التركي رجب طيّب أردوغان عشيّة انعِقاد قمّة مجموعة الدول العشرين التي بدأت أعمالها اليوم السبت “افتراضيًّا” في الرياض وتمّ خلال المُكالمة الاتّفاق على حلّ الخِلافات العالقة بين البلدين بالحِوار، لا نعتقد أنّه يعكس فقط الحِرص على مُشاركة الرئيس التركي شخصيًّا بهذه القمّة باعتِبار بلاده الدولة الإسلاميّة الوحيدة فيها إلى جانب المملكة، وإنّما أيضًا مُحاولةَ تقليص أخطار الدّور التركي المُتنامي في العالم الإسلامي، وبِما يُؤثّر سلبًا على مصالح المملكة وقِيادتها المُفترضة، خاصّةً في ظِل هزيمة الحليف الأوثق للبَلدين دونالد ترامب، ومَقدَم إدارة ديمقراطيّة لا تَكُن الكثير من الودّ لهما، علاوةً على الانتِصار الكبير لتركيا في الأزمة الأذربيجانيّة الأرمنيّة الأخيرة.
***
العُلاقات السعوديّة التركيّة تعيش حاليًّا مرحلةً غير مسبوقة من التأزّم مُرشّحةً لتفاقمٍ في الفترة القادمة من الجانب التركيّ خاصّةً، ويعود ذلك إلى خمسة تطوّرات رئيسيّة:
الأوّل: إعلان المملكة العربيّة السعوديّة مُقاطعةً كاملة للبضائع التركيّة، وتحذير المُواطنين السّعوديين من شِرائها، أو السّفر إلى تركيا بهدف السّياحة، الأمر الذي ألحق أضرارًا بالاقتصاد التركيّ وفي هذه المرحلة الذي يُواجه فيها ظُروفًا صعبةً، الأمر الذي قد يَدفَع إلى ردٍّ انتقاميٍّ تركيّ.
الثّاني: إصدار هيئة كبار العُلماء السعوديّة فتوى تضع حركة “الإخوان المُسلمين” المدعومة تُركيًّا على قائمة الإرهاب، والقول بأنّها حركة “مُنحرفة” لا تُمثّل نهج الإسلام وغايَتها الوصول إلى الحُكم والتّستّر بالدّين ونشر الفِتن للوصول إلى أهدافها، وهذا خَطٌّ تُركيٌّ “أحمر” لأنّ الحركة تُشَكِّل الذّراع السّياسي الأهَم لتركيا في العالم العربيّ.
الثّالث: “نجاح” التدخّل التركيّ في أزَمَة قرةباخ لصالح الحُكومة الأذربيجانيّة وضدّ أرمينيا التي كانت تدعمها المملكة بطريقةٍ غير مُباشرةٍ، الأمر الذي يُعطي تركيا أردوغان ورقةً رابحةً في العالم الإسلاميّ.
الرّابع: مُساندة تركيا لقطر في خِلافها مع السعوديّة وحُلفائها في مِصر والإمارات والبحرين، وإقامة قاعدة عسكريّة في شريطِ العديد القطريّ تَضُم حواليّ 30 ألف جندي ومعدّاتهم الثّقيلة حسب بعض التّقارير الغربيّة في توازٍ مع قواعدٍ أُخرى في الصّومال وليبيا وقبرص التركيّة.
الخامس: استِخدام تركيا قضيّة اغتيال الصحافي السّعودي جمال خاشقجي كورقة تصعيد ضدّ المملكة بين الحِين والآخَر وإحراجها، وهزّ صُورتها أمام العالم على أرضيّة انتِهاك حُقوق الإنسان.
أكثر ما يُقلِق المملكة العربيّة السعوديّة، وبعد الانتِصار التركيّ في أذربيجان تدخّل الرئيس التركيّ في مِلفّين أساسيين، الأوّل، هو الحرب في اليمن، والثّاني، زعامة المملكة للعالم الإسلامي باعتِبارها راعيةً للأماكن المُقدّسة في مكّة والمدينة والمِلفّان مُترابِطان على أيّ حال.
قبل ثلاثة أيّام نشر السيّد ياسين أقطاي، مُستشار الرئيس أردوغان، وأحد إكثر الشخصيّات قُربًا منه، مقالًا في صحيفة “يني شفق” التي تنطق باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، وجرى تعميمه على جميع مواقع وأجهزة الإعلام المُوالية لتركيا تحت عُنوان “كما أنقذت ليبيا وأذربيجان.. هل تتدخّل تركيا لإنقاذ الشّعب اليمني من “عاصفة الحزم”؟
هذا المقال من وجهة نظرنا هو رسالة تهديد مُزدوجة للمملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتحدة على درجةٍ كبيرةٍ من الخُطورة، وتُشكّل خريطة طريق للخطوة التركيّة القادمة، لأنّ إلقاء تركيا بثقلها في الحرب اليمنيّة قد تُغيّر كُل المُعادلات السياسيّة والعسكريّة فيها، بعد أن اكتسبت تركيا خُبرات كبيرة من جرّاء تدخّلاتها العسكريّة في ليبيا وسورية والصّومال وأخيرًا أذربيجان.
الدكتور أقطاي، وبعد أن امتدح إنجازات تدخّل بلاده في الدّول المذكورة آنِفًا، قال “إنّ التدخّل السّعودي الإماراتي في اليمن مُنذ أكثر من 5 سنوات أدّى إلى تعقيد الأزَمة، وإيصالها إلى نقطة غير قابلة للحَل”، وأضاف “عاصفة الحزم في اليمن بقِيادة السعوديّة والإمارات جاءت بهدف الدّفاع عن الحُكومة الشرعيّة ضدّ الحوثيين الذين انقلبوا عليها، ولكنّهم أثبتوا، وبعد كُل هذه السّنوات، أنّهم عاجِزون عن هزيمة الحوثيين، وأضعفوا في الوقتِ نفسه القوّة الأُخرى، والسّبيل الوحيد لتحقيق الاستِقرار في اليمن هو الاعتِراف بالأطراف الأُخرى كافّةً، وفتح الطّريق أمام الحِوار الذي من شأنه أن يجلب السّلام للجميع”، وختم مقاله بالقول “لو كان هُناك نيّة حقيقيّة في تحقيق حل واستِقرار في اليمن فإنّ اتّباع تجربة تركيا وسورية في ليبيا والصّومال وأذربيجان سيكون مُفيدًا جدًّا، هذا إذا كان هُناك نيّة حقيقيّة لتَأسيس حلٍّ وسلام”.
***
إنّ ما كتبه الدكتور أقطاي، أحد أبرز مُنظّري مشروع العُثمانيّة الجديدة، والذي حلّ محل نظيره الدكتور أحمد داوود أوغلو، الذي انشقّ عن الحِزب الحاكم وأسّس حزبه الخاص (المُستقبل)، لا يُمكن النّظر إليه إلا أنّه رَسمٌ للدّور التركيّ المُقبل في الجزيرة العربيّة، ومُحاصرة المملكة في حاضِنتها الجنوبيّة الرّخوة، والخطيرة، أيّ اليمن، حيث لا تستطيع حسم هذه الحرب سِلميًّا أو عَسكريًّا، وربّما تُواجه على هذه الجبهة في المُستقبل المنظور عدوّين إقليميّين شَرِسَين هُما تركيا وإيران معًا.
هل القيادة السعوديّة الحاليّة على وَعيٍ بمِثل هذه التطوّرات، ومُستعدّةٌ لها بالأحرى؟ وما هي السّياسات والمواقف التي ستتّخذها لمُواجهتها؟ خاصّةً بعد غُروب شمس حليفها ترامب، وتدهور عُلاقاتها مع مُعظم القِوى الإقليميّة والإسلاميّة الفاعِلَة، وخسارة الرّأي العام بشقّيه العربيّ والإسلاميّ؟
أمام السعوديّة ثلاث خِيارات لا رابع لهم: الحِوار مع تركيا وتسوية الأزَمات، الانفِتاح على سورية ومحور المُقاومة على وجه الخُصوص، التّطبيع والتّحالف مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي على نَهجِ حليفتها الإمارات، وتحمّل تَبِعات مخاطر هذه الخطوة، فأيّ من الخِيارات ستَختار؟