بقلم : عريب الرنتاوي
أقفلت السنة الفائتة على عودة الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، بعد سنوات ست عجاف من الترك والنسيان … بدأت القصة بالمبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي في باريس يهدف إطلاق عملية سياسية تنتهي بـ “حل الدولتين”، ومرت بالقرار الصادر عن مجلس الأمن بخصوص الاستيطان، وامتناع واشنطن لأول مرة عن التصويت على مثل هذا النوع من القرارات الأممية، وهو قرار محمّل بعناصر الحل وأسس ترسيم الحدود، وتلا ذلك، ما صدر عن جون كيري من توضيحات للموقف الأمريكي من القرار المذكور، استغرق عرضها ساعة كاملة، وحملت أشد الانتقادات لحكومة اليمين واليمين المتطرف بزعامة نتنياهو، وأعادت التذكير بقواعد الحل كما وردت في “ورقة كلينتون” بالأساس.
ويبدو أن العام 2016، يأبى أن ينصرم، قبل أن تبادر موسكو بدورها، إلى الدخول على خط المصالحة الفلسطينية الداخلية، دافعها ذلك حاجة الفلسطينيين للاتفاق على وفد موحد ورؤية مشتركة، عندما تحين ساعة التفاوض في باريس أو غيرها، وهو تطور يعبر عن الدور الإقليمي المتزايد لروسيا من جهة، ويعكس من جهة ثانية، قناعة الكرملين بالحاجة إلى حل القضية الفلسطينية من ضمن جهد دولي أوسع وأشمل لمحاربة التطرف والإرهاب، واستعادة الأمن والاستقرار على الساحة الإقليمية.
يحار المراقبون في فهم كنه هذا الحراك الدولي الطارئ والمفاجئ … منهم من ذهب للقول بأنه “مجرد تقطيع وقت” بانتظار مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة … ومنهم رأى أنه محاولة لرسم حدود مسبقة لما يمكن أن يقوم الرئيس المنتخب دونالد ترامب، وهو الذي ذهب بعيداً في دعم الاستيطان والتأكيد على نقل السفارة الأمريكية من تل ابيب للقدس … منهم من رأى أن هذه “الصحوة” تعكس إدراكاً متأخراً لحاجة المجتمع الدولي لحل القضية الفلسطينية إن هو أراد تجفيف منابع الإرهاب ومصادره، وسحب الذرائع من أيدي الجماعات المتطرفة، حتى لا تعود لاستخدامها من جديد في تجنيد الشباب ونشر ثقافة الكراهية والعنف.
وآخرون آثروا ربط هذا التحرك بما يجري في الإقليم ككل، ليس من باب “الحرب على الإرهاب” فحسب، بل ومن منطلق الحاجة لإنجاز سلسلة مترابطة من التسويات لنزاعاته وصراعاته وحروبه، في ظل معطيات ميدانية وسياسية، تشي بأن الأطراف الإقليمية والدولية قد استنزفت وأنهكت، وأنها باتت أميل لإبرام الصفقات والوصول إلى التسويات على مختلف الجبهات وساحات المواجهة، ويربطون بين ما يجري من تحرك على المسار الفلسطيني من جهة، وما شهده لبنان من تسويات رئاسية وحكومية مفاجئة ومتسارعة من جهة ثانية، وما تشهده سوريا من محادثات واتفاقات و”رعايات” إقليمية ودولية لوقف الحرب وولوج مرحلة البحث الجدي عن تسويات قابلة للحياة من جهة ثانية، فضلاً بالطبع، عن تبلور أسس الحل السياسي للأزمة اليمنية، كما ورد في مبادرة جون كيري وورقة إسماعيل ولد الشيخ من جهة ثالثة.
ترابط مسارات الحل والحرب على جبهات الصراع الإقليمي وساحاته المختلفة، لا يعني بالطبع تلازمها، فقد يتقدم الحل السياسي لهذه الأزمة على تلك، وقد تتأخر المعالجات لبعض الملفات المتفجرة بسبب شدة تعقيدها … لكننا كما قلنا ذات مقال في هذه الزاوية، نرى أن ما يجري في الإقليم عموماً، هو حرب واحدة موزعة على عدة جبهات وساحات، وبات الأمر أقرب إلى صورة “الأواني المستطرقة”، فأية “حلحلة” هنا، قد تفضي إلى تفكيك العقد المتشابكة هناك، سيما وأن المحتربين على مختلف هذه الجبهات، هم أنفسهم تقريباً.
يدفع ذلك للاعتقاد يأن الاضطرابات الإقليمية الكبرى، التي كانت سبباً في إزاحة القضية الفلسطينية إلى الخلف، والدفع بها إلى آخر سلم الأولويات، هي ذاتها الاضطرابات التي قد تعيدها إلى دائرة الضوء وتدفع بها للأمام من جديد، إن توفرت قراءة “موضوعية” و”عقلانية” لجذر الصراعات ومصادرها … لكن تاريخ القضية الفلسطينية على امتداد المائة عامٍ الماضية، لا تسمح بالوصول إلى استنتاجات متسرعة.
فالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو الصراع الأطول في هذه المنطقة، نمت على جذعه وتفرعت منه وتأثرت به، صراعات ونزاعات عديدة، بعضها لقي طريقه إلى الحل الدائم، وبعضها الآخر وجد مساره إلى تسويات مؤقتة وانتقالية، بيد أنه – الصراع الفلسطيني الإسرائيلي – ظل على حاله من دون حلول أو تسويات … حدث ذلك مرات ومرات في السابق، وقد يحدث مرة أخرى في المستقبل القريب.
وتزداد جرعة التشاؤم التي تسري في عروقنا، عندما نستحضر تطورات المشهد الإسرائيلي الداخلي، والتي لا تحمل على التفاؤل أبداً في إمكانية قيام “شريك” إسرائيلي راغب أو قادر، على اتخاذ قرارات تاريخية بحجم “حل الدولتين” … أو عندما نستذكر حالة الترهل والاهتراء التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية بجناحيها “الوطني” و”الإسلامي”، وتفشي حالة الانقسام وتجذرها، بل وارتفاع أصوات وازنة في حماس، تدعو لمأسستها و”دسترتها” كما ورد في تصريحات موسى أبو مرزوق الأخيرة.
لا شك أن عودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأخبار والاهتمام الإقليمي والدولي، أمرٌ يسعد الفلسطينيين ويحفزهم على تكثيف كفاحهم العادل والمشروع من أجل حريتهم واستقلالهم … لكننا نخشى أن تتحول هذه “الصحوة” إلى مجرد “إبراء ذمة” تقوم بها أطراف عديدة، أو أن تنتهي إلى ما انتهت إليه “صحوات” سابقة … وإن كانت هناك أسباب وجيه لهذه الخشية مبثوثة في الحالتين الفلسطينية والعربية، إلا أن مصدرها الرئيس يتركز في واشنطن، التي تستعد لاستقبال الساكن الجديد للبيت الأبيض ومعه طاقم لا يدعو للتفاؤل أبداً.
المصدر: صحيفة الدستور