تأملات على هامش ستينية الاتحاد الاشتراكي

تأملات على هامش ستينية الاتحاد الاشتراكي

المغرب اليوم -

تأملات على هامش ستينية الاتحاد الاشتراكي

نور الدين مفتاح
بقلم - نور الدين مفتاح

عندما رجع السي محمد البريني، مدير جريدة «الإتحاد الإشتراكي» حينها، من آخر اجتماع للجنة المركزية ترأسه الراحل عبد الرحيم بوعبيد إلى الجريدة بزنقة الأمير عبد القادر، جمع على وجه الاستعجال هيئة التحرير ووضع مسجلة كانت حينها تشتغل بالكاسيط، وأسمعنا الكلمة المؤثرة لعبد الرحيم بوعبيد الذي كان يعيش أيامه الأخيرة في مقاومة المرض اللعين.

 

كان صوت الراحل متعبا، ولكن نبرته الصادقة كانت تكسر صمت القاعة الجنائزي: "إخواني، أخواتي، سواء كنت معكم، أو قدرت الظروف ألا أكون معكم، فإننا نشعر جميعا باطمئنان على أن ما أسديناه من أجل الوطن ليس هو الكمال، ولكن أن الذي أسديناه خرج من صميم الفؤاد، طاهراً، نقيا، يريد خدمة الشعب والأمة والمصلحة العامة". وعند هذا المقطع بالذات فاضت عينا السي محمد البريني الذي كان سريع الدمعة، وخيم جو حزين على المتحلقين حول طاولة الاجتماع وجزء كبير منهم رحل اليوم مثل السي محمد بوهلال والمهدي الودغيري وعمر المودن وعبد الله قانية وعبد الحميد بنداوود، وجزء منهم ينتظر وها هم شاهدون على حزب الاتحاد الاشتراكي العتيد في ذكرى تأسيسه الستين وقد تبدل تبديلا.

 

لم يكن ضروريا أن تكون منتميا تنظيميا للاتحاد الاشتراكي في هذا الوقت، فالفكرة الاتحادية كانت حينها فكرة مجتمعية، والأسرة، والحي، والعائلة، والمدينة لا يمكن أن تتأرجح إلا بين الاتحاد الاشتراكي، لسان حال الشعب، وحزب الاستقلال كجزء من النوستالجيا التاريخية آنذاك، وعلى الرغم من علو كعب الحسن الثاني سياسيا وفكريا، وعلى الرغم من السياسة القمعية التي كان وجهها الختامي بعد أوفقير ثم الدليمي هو إدريس البصري، فإن الكلمة الاتحادية ظلت في الشارع المغربي هي العليا، ولم يكن يهم حينها نسبة تمثيلية هذا الحزب الإداري أو ذاك في البرلمان أو الجماعات، لأن المسرحية كانت هزلية عنوانها الانتخابات البصروية.

 

لهذا وغيره كثير كانت جنازة عبد الرحيم بوعبيد، التي ساهمتُ في تغطيتها لصالح الجريدة، من أضخم الجنازات لرجل سياسة مغربي على الإطلاق، وبكل صراحة، لقد فوجئ الاتحاديون أنفسهم بهذه الأمواج البشرية التي تلاطمت من شارع محمد الخامس إلى مقبرة الشهداء قبالة الشاطئ، وبقدر ما أحس الاتحاديون بجسامة المسؤولية التي يحملها لهم الشعب من خلال هذه الجنازة، والتي يمكن ترجمتها بثقة من أجل الإصلاح الجذري، بقدر ما وجدوا أنفسهم وقد بدأ التحكم في أداتهم الإصلاحية يضعف والعربة -كما سماها عبد الرحمان اليوسفي من بعد- تهترئ.

 

مرّت الكثير من المياه فوق الجسر، مما جعل أعمدته تتشقق، وتعمق الخلاف الذي تفجر في المؤتمر الخامس بين تيار الأموي وتيار بوعبيد، وتزاحمت التطاحنات في لحظة مفصلية من تاريخ المغرب المستقل، حيث كان الحسن الثاني يعرض صفقة مصالحة سياسية، واستقال اليوسفي ثم رجع، وخرج رموز الشبيبة الاتحادية في ما سموه بـ "الوفاء للديموقراطية"، وعاد الفقيه البصري ليؤجج هذه الفوضى العارمة قبل أن يخرج نوبير الأموي بنقابته، وتوج كل هذا بالدخول في صفقة التناوب التوافقي برئاسة السي عبد الرحمان اليوسفي، ثم جاءت بداية نهاية أخرى من النهايات المتعددة لهذا التنظيم عندما استمر الاتحاد في الحكومة على الرغم من الانقلاب على المنهجية الديموقراطية وتعيين إدريس جطو وزيرا أول بدل اليوسفي، الذي احتل حزبه المرتبة الأولى وإن بفارق ضئيل حيث رواحت مقاعده في البرلمان الستين.

 

معذرة عن هذه الإطالة، ولكنها ضرورية للحكم على ما يجري اليوم في حزب يقوده إدريس لشكر وغابت عنه ليس القوة والحضور والامتداد الشعبي فقط، ولكن غابت عنه كرامة التنظيم وأنفة المناضل الاتحادي كما عرفناه إلى حدود بداية التسعينيات، ويكفي ما جرى في السنوات القليلة الماضية لنرى إلى أي حضيض نزل هذا الحزب العتيد في الماضي، حيث تحالف ادريس لشكر مع رجل من فصيلة حميد شباط ومع حزب من فصيلة البام، وبعد ذلك مع حزب الأحرار، لتنتهي هذه المهزلة بآخر الإهانات وأكبرها، وهي حجم ما اقترح على حزب الوردة الحزينة في الحكومة الجديدة والقبول بذلك في شخص وزير واحد لا علاقة له بالحقيبة الوحيدة التي أنيطت به أو أنيط بها.

 

أين الفكرة الاتحادية التي كانت لها أجنحة وتطوف على المغاربة في أحواز المدن وفي المداشر والقرى وفي قلوب الضعفاء والمظلومين؟ أين القامات؟ أين الهامات؟ إن الأحياء من الاتحاديين الذين انزووا ليحسون اليوم بألم أفظع من إحساس الفقد بالنسبة للذين رحلوا. فأن تكون في عداد الراحلين أهون من أن تتابع هذا النفخ في الأساطير من قبيل وجود الحزب في وضعية سفينة التيطانيك وربّانه يدعو الناس للاحتفاء بالمصالحة!!

 

والسيد إدريس لشكر عندما يدفع اليوم بكون وضعية الاتحاد هي جزء من تقهقر عالمي لليسار لا يعرف أن العالم يمكن أن يتقهقر إلى مجرات أخرى، ولكن لا يمكن أن يقارن بحال الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي لم تؤثر فيه تحولات فكرية واتجاهات مجتمعية بقدر ما أثر فيه الهدم الذاتي والدسائس والمناورات والتخلي عن جوهر تلك الكلمات الذهبية التي قالها السي عبد الرحيم بوعبيد في وصيته الأخيرة، وهو أن يخرج عمل المناضل من أجل الوطن من صميم الفؤاد طاهرا نقيّاً!

 

وللأسف، في الذكرى الستين لتأسيس حزب المهدي بنبركة وعمر بنجلون، لا نرى من عمل يخرج في الغالب إلا من صميم المصلحة الذاتية باهتا ملوثا اللهم إلا من رحم ربّك.

 

وعلى الرغم من كل هذه الصورة السوداء، مازال في نظري المتواضع هناك أمل في أن تعود الأمجاد لحزب يساري شعبي ليكون كفة التوازن الحقيقية مع تيار محافظ موجود في المجتمع وهذا الحزب المتجدد والجديد لا يمكن أبدا أن يصنعه الخلص من أبنائه بأدوات قديمة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأملات على هامش ستينية الاتحاد الاشتراكي تأملات على هامش ستينية الاتحاد الاشتراكي



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 15:27 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

هنغاريا تدعم مخطط الحكم الذاتي المغربي لتسوية نزاع الصحراء
المغرب اليوم - هنغاريا تدعم مخطط الحكم الذاتي المغربي لتسوية نزاع الصحراء

GMT 09:19 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن
المغرب اليوم - فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن

GMT 14:44 2024 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

العلماء يكتشفون أصل معظم النيازك التي ضربت الأرض

GMT 05:21 2016 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

أفضل بيوت الشباب والأكثر شعبية في العالم

GMT 11:00 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"السر المعلن"..

GMT 10:52 2023 الأربعاء ,18 كانون الثاني / يناير

مرسيدس تبدأ تسليم السيارة الأقوى في تاريخها

GMT 22:54 2019 الأربعاء ,13 آذار/ مارس

"فيسبوك" تنفي تعرض الموقع لاختراق

GMT 15:46 2019 الجمعة ,04 كانون الثاني / يناير

فضيحة "شاذ مراكش" تهدّد العناصر الأمنية بإجراءات عقابية

GMT 11:56 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

الحجوي يؤكّد أن تحويل الأندية إلى شركات يتطلب مراحل عدة

GMT 15:09 2018 الإثنين ,24 أيلول / سبتمبر

أحمد عز يواصل تصوير الممر في السويس

GMT 06:39 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

تمتعي بشهر عسل رومانسي ومميز في هاواي

GMT 08:50 2018 الأحد ,11 شباط / فبراير

بيور غراي يعدّ من أفضل المنتجعات حول العالم

GMT 21:34 2017 الثلاثاء ,13 حزيران / يونيو

فريق "وداد تمارة" يتعاقد مع المدرب محمد بوطهير

GMT 02:42 2017 الثلاثاء ,22 آب / أغسطس

قمر في فستان أبيض قصير على "إنستغرام"

GMT 09:35 2023 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

محرك البحث "غوغل" يحتفل بيوم المعلم العالمي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib