بقلم : عبد الباري عطوان
آخِر شيء يحتاجه لبنان هذه الأيّام هو الحرائق التي اندلع لهيبها في جنوبه، وكان على درجةٍ من الاتّساع بحيث أدّى إلى التهام الأخضر واليابس، وكان لافتًا عدم عرض أيّ دولة شقيقة، أو غير شقيقة المُساعدة لإطفائها بعد عجز عربات الإطفاء المحليّة، لسَببٍ بسيط، وهو أنّ هذه الحرائق تجتاح منطقة تُدين مُعظم قُراها وبلداتها بالولاء لحزب الله.
تُجمِع الغالبيّة السّاحقة من آراء الخُبراء والسياسيين الذين اتّصلنا بهم في لبنان، أنّ هذه الحرائق مُتعمّدة، وبفعل فاعل، كأحد وسائل الضّغط على “حزب الله” وحاضنته الجنوبيّة، وتُشير أصابع الاتّهام إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبعض الحُكومات العربيّة المُتحالفة معها، وتلتقي مع أهدافها ومُخطّطاتها في لبنان وغير لبنان.
توقيت هذه الحرائق، واتّساع نطاقها يأتي مع حِصار خانق، ومُقاطعة اقتصاديّة ودبلوماسيّة، وعلى أرضيّة أزمة سياسيّة مع المملكة العربيّة السعوديّة وثلاث دول خليجيّة أُخرى تضامنت معها، وسحبت سُفراءها من بيروت وطردت السّفراء اللبنانيين من عواصمها، والذّريعة تصريحات أدلى بها وزير الإعلام جورج قرداحي حول عبثيّة الحرب في اليمن.
المملكة العربيّة السعوديّة باتت تُجاهر بعدائها للبنان، وتقود حملة ضدّ الحُكومة الحاليّة فيه، تُجيّش فيها العديد من الدول الخليجيّة وبعض العربيّة، وكان الأمير فيصل بن فرحان آل سعود وزير خارجيّتها واضحًا في مُقابلةٍ أجراها مع محطّة تلفزيون “فرانس 24” بثّتها يوم السبت الماضي قال فيها “لا نرى أيّ فائدة من التواصل مع الحُكومة اللبنانيّة الحاليّة حتى تتخلّص الطّبقة السياسيّة من الهيكل السّياسي الحالي الذي يُعَزِّز هيمنة “حزب الله” المُتحالف مع إيران على الدولة اللبنانيّة”.
هذا الطّلب السعودي الرسمي يبدو تعجيزيًّا ويستعصي على التّحقيق، حتى من خلال تدخّل عسكري من قبل دول غربيّة بزعامة أمريكا، لأنّ القضاء على “حزب الله” و”هيمنته” تبدو أكثر صُعوبةً من تنفيذ المقولة السعوديّة التي تردّدت على مدى عشر سنوات “سيَسقُط الأسد سلمًا أو حربًا”، فمثلما صمد الرئيس الأسد بفضل حُلفائه في روسيا وإيران واستَعاد جيشه السّيطرة على مُعظم المناطق السوريّة، وباتت السّلطات السعوديّة تتفاوض معه سِرًّا وعلانية، سيَصمُد “حزب الله” أيضًا، ولا نستبعد أن تتفاوض السعوديّة معه في نهاية المطاف، مثلما تتفاوض حاليًّا مع إيران.
السيّد عبد الله بوحبيب وزير الخارجيّة اللبناني كان الأكثر وضوحًا في ردّه على هذه المطالب السعوديّة بإخراج “حزب الله” من المُعادلة السياسيّة اللبنانيّة عندما قال “حزب الله مُكوّن أساسي في المُعادلة السياسيّة اللبنانيّة ولا يُمكن استِبعادها”، والرّجل ليس من أنصار “حزب الله”، ولم يَقُل غير الحقيقة، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود.
عدّة مُحاولات تحريضيّة لإشعال فتيل الحرب الأهليّة اللبنانيّة مُنيت بالفشل لسببين رئيسيين، الأوّل حكمة زعيم “حزب الله” السيّد حسن نصر الله وحليفه نبيه بري، رئيس البرلمان، وصلابة الرئيس ميشال عون وتيّاره، وسياسة ضبْط النفس التي اتّبعها هذا المُثلّث الحريص على أمن لبنان واستِقراره، والثانية أنّ الشعب اللبناني الذي عاش تجربة مُؤلمة مع حرب أهليّة استمرّت 15 عامًا، وما زالت آثارها الدمويّة مزروعةً في جيناته، لا يُمكن أن ينقاد مفتوح العينين إلى أُخرى أكثر شراسةً ودمويّة، ولكن سياسة ضبْط النفس هذه، ومن قِبَل الطّرف القوي، والمُستَهدف، ليست مفتوحة النّهايات.
فإذا كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي التي هزمت العديد من الحُكومات العربيّة في ساعاتٍ معدودة، أُهينت مرّتين على أيدي “حزب الله” ومُقاتليه الأولى في حرب تحرير الجنوب عام 2000، والثانية في حرب تموز (يوليو) عام 2006، فهل تستطيع القوى المُحرّضة على هذه الحرب وعلى رأسها إسرائيل، الانتِصار في أيُ حرب أهليّة أو غير أهليّة الآن، وبعد أن أصبح الحزب قوّة إقليميّة كُبرى، يملك قوّة ردع تضم 150 صاروخًا ومِئات الطّائرات المُسيّرة، ومئة ألف مُقاتل، وخبرة قتاليّة عالية في الحرب التقليديّة، أو حرب العصابات، اكتسبها خِلال الحرب السوريّة التي خاضها إلى جانب حليفه السوري، وينتمي إلى محور وأذرع مُقاومة قويّة في أكثر من خمس دول؟
المُقاومة في لبنان راسخةٌ ومُتجذّرة ولا تستطيع أيّ قُوّة إلغاء أو تحجيم دورها، والأزمة الحاليّة مع السعوديّة باتت مسألة كرامة وطنيّة لا يُمكن التّنازل عنها، أو التّفريط بها، مهما تعاظمت الضّغوط والمُؤامرات، ومن المُؤلم أنّ من أساء التّقدير وتورّط في حربٍ مفتوحةِ النّهايات في سورية واليمن يُكَرِّر الخطأ نفسه في لبنان بطَريقةٍ أو بأُخرى.
نستغرب أن تتصاعد هذه الأزمة بين لبنان والمملكة العربيّة السعوديّة، ويدفع لبنان بكُلّ طوائفه وأعراقه ثمنها غاليًا، جُوعًا ومرضًا وحِصارًا، في وقتٍ يُؤكّد الأمير الفرحان نفسه أنّ جولة خامسة من المُفاوضات مع إيران في بغداد باتت وشيكةً، ويلتقي رئيس مُخابرات بلاده الجِنرال خالد الحميدان نظيره السوري حسان لوقا على هامِش المُنتدى العربي الاستخباري في القاهرة، الزّمن يتغيّر والسّعيد من اتّعظ، واستخلص الدّروس والعبر سواءً من تجاربه، أو تجارب غيره، وإذا أردت أن تُطاع فاطلب المُستطاع.. والأيّام بيننا.