وقف رجل صغير تبدو عليه علامات المكر في صباح أحد الأحيان في منتصف كانون الثاني/يناير لعام 2015 يرتدي سترة سوداء على الجانب التركي من الحدود مع سورية في قلعة أقجة، وبعد ان حملق في جميع الأرجاء إقترب من كناس الشوارع في بذلة زرقاء، وقال له "أريد ان أعبر على الجانب الآخر، ماذا أفعل", وطلب منه كناس الشوارع 75 ليرة تركية وأشار إلى وجود ثقب صغير في الجدار في مكان ليس بعيد من البوابة الرئيسية, ودفع الرجل الصغير المال ولكنه تردد، فبعد أن قطع شوطًا طويلًا أصبح بالكاد على بعد 10 أمتار من وجهته وهي التلال الترابية البنية في شمال سورية، حيث بدأت داعش حربها، فتابع " ماذا عن الحراس؟" فأجابه الكناس "لا توجب مشكلة، اذهب فقط."
ومشى الرجل نحو ثقب الجدار وانحنى ودخل من خلاله الى الجانب الآخر، وبدأ بعدها الركض، فصاح فيه أحد الحراس الاتراك، ولكنه لم يتردد، ويحمل هذا الوافد الجديد اسم أبو علي ويبلغ من العمر 38 عامًا من الأردن، وكان لديه اسم آخر وحياة أخرى، ولكن كمعظم المنضمين إلى داعش ترك كل شيء، وأراد لنفسه حياة جديدة.
وظهرت سيارة بعد أن مشى الرجل نحو ساعة، وإذا برجل من داعش يقود أبو علي الى منزل لاستقباله ليس بعيد كثيرًا، منزل كبير مكون من طابق واحد مع حديقة خلفية، يتشارك فيه عشر وافدين جدد أخرين.
ويشير أبو علي, " كان المكان مثل المطار، رأيت أميركيين، وإنكليز وفرنسيين وأناس من بلدان أخرى، وسوري واحد." وخلال الخمس أيام المقبلة كان ينام على الفراش ويتحدث الى ما لا نهاية مع غيره من المنضمين في الغالب باللغة الانكليزية، فيما اعضاء داعش يتحققون من خلفياتهم، وكانت الحديقة عامرة بالدجاج، فيما الأمير يصر على الأميركيين والأوروبيين بذبحها دائما كتدريب على قتل الكفار فيما بعد.
وقيل للمجندين بعد خمس أيام أن الوقت حان للمغادرة، فركب أبو علي مع 15 آخرين في حافلة صغيرة اتجهت الى جبال بالاس الى الشرق من مدينة حمص, وكان الرجال يستيقظون قبل الفجر على مدى الأسبوعين اللاحقين، ليؤدوا صلاة الفجر، ثم يذهبون الى الركض وممارسة الرياضة، وبعدها تبدأ دروس الشريعة التي كانت بالأصل ترتكز على الفرق بين المسلمين وغير المسلمين وحالات محاربة الكفار والمرتدين، وأخبرهم أميرهم في احدى الليالي وهو مدرس تاريخ سابق أصلع من حمص أن حدث خاص سيحدث، وبمجر أن جلس الرجال في أماكنهم شغل لهم شريط فيديو لرجل عربي في حلة برتقالية اللون داخل قفص تشتعل فيه النيران بعد أن سكب عليه البنزين.
وأتى التعليق الصوتي على الفيديو ان هذا كان الطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي ألقت داعش القبض عليه بعد أن تحطمت طائرته وأعدمته بشكل بشع في شباط/فبراير عام 2015 في فيديو جذب اهتمام العالم، وحتى أن بعض المتطرفين وصفوه بالعمل غير الأخلاقي، وبعد أن انتهى من عرض الفيديو وقف الأمير وأوضح أن هذا الطيار قصف المسلمين بالقنابل، وكان لا بدل من وقوع القصاص العادل به بموجب القانون الاسلامي، فيما كل الرجال يستمعون له بصمت, وحول أبو علي في هذه اللحظة عيناه عن المشهد وكان هو الأردني الوحيد، ولم يقل أي شيء، ولكن الرعب الذي القاه الفيديو في قلبه كان ظاهرًا عليه لدرجة أن الأمير نفسه حدق في وجهه مرارًا.
وكان يهدف الأمير من عرض هذا الفيديو اختبار الولاء، ورأى أبو علي أن عيون أميره مسلطة عليه، وبدأ يهز رأسه، وكان يعلم أبو علي منذ صغره أن حرق الناس حتى الموت حرام في الاسلام، فصرخ " فليساعدني الله" فأخذه حارسان من داعش من ذراعيه وقاداه إلى خارج القاعة، التي إقتحهما الأمير في وقت لاحق وجلس على الصخور مع أبو علي مستفهما عن سبب نطقه بهذه الكلمات، واذا كان يشك فيما فعله التنظيم، فقال أبو علي بانه صرخ بهذه الكلمات لأن الناس استفزوه، فبدى على الامير الرضى بهذه الاجابة، وقال له " في بداية الدورة كنت كافرًا، اما اليوم فأنت مسلم."
وشعر الرجل بالارتياح لأنه هرب من العقاب، ولكن منذ تلك اللحظة بدأ يشك في كل من حوله، كان قد انضم الى داعش على أمل الحصول على وظيفة مكتبية وليكون مسلمًا جيدًا، فقد تردد في حياته قبل داعش على الحانات وسهر عدة ليال في الأسبوع، ولم يكن يملك الاطفال بسبب عقم لدى زوجته.
وخسر والده الذي يعيله العمل في عام 2012، وأصبح يعيش على صدقات الأسرة والاصدقاء في الخارج، وطلق زوجته، وشعر بعدها ألا شيء يخسره، فقرر الإنضمام إلى داعش.
وانتهت دورة الشريعة لمدة أسبوعين، ونقل معظم الرجال الى مجموعة أخرى في الكهوف الجبلية الرطبة على بعد بضعة أميال حيث بدأت الدورة العسكرية، وكان أبو علي يتعب جدًا بسبب كونه مدخنًا، وطالما صاح المدربين في وجهه وأجبره على الركض، وهو يردد " أريد أن أقوم بأعمال مكتبيه وليس القتال." وحصل بالتالي على سمعة المتقاعس
واستدعيَ الرجال في اليوم الأخير للدورة إلى الكهف في الصباح وطلب منهم أن يتلوا يمين الولاء، ووجد ابو علي نفسه واقفا مع حوالي ثلاثة عشر رجلًا قرب حافلة، وقال القائد السوري الذي كان يرتدي زي المعركة أنهم في طريقهم الى الخطوط الأمامية في العراق، فسارع أبو علي للقول " يا سيدي لا أريد أن أذهب الى خط المواجهة، لقد قالوا أن بإمكاني الحصول على وظيفة في الأمور الادارية في الرقة", فنظر إليه القائد مع وجه مثل الحجر وقال له " لقد حلفت اليمين، وعليك السمع والطاعة وإلا الموت هو العقوبة", فصدم الرجل ثم مشى إلى الحافلة، وبعد بضعة أيام من السفر وصل الى الكرمة وهي قرية صغيرة تقع غرب بغداد بالقرب من خط المواجهة.
وأخبره مجند آخر أن عدد من الرجال جرحى من أرض معركة مرعبة، واضطر هو وشخص آخر لإسعافهم، فيما أزيز الرصاص يسمع على مقربة منهم، وفي صباح اليوم الثالث مشى أبو علي وصديق له يسمى أبو حسن في المقر الرئيسي في الكرمة في مواجهة القائد العراقي وأخبراه , "لا نريد أن نحارب، لم يجبر الرسول صلي الله عليه وسلم الرجال على القتال ضد إرادتهم", وكان يعلم أن هذا التصريح مخاطرة، ولكن سرعان ما نقل في حافلة إلى سورية للعقاب، وبعد أن وصولوا الى الرقة نقلوا الى معلب كرة قدم معروف باسم النقطة 11 وهو السجن الرئيسي لداعش.
وأتى إليهم رجل لدى وصولهم وطلب منهم, "ايها الأخوة، لا تقلوا أنكم لا تريدون أن تحاربوا، بل قلوا أنكم تفضلون أن تحاربون في سورية فنعطيكم فرصة أخرى", وبعد يومين وجد أبو علي نفسه وحيدًا في منزل في بلدة منبج في مكان ليس بعيد عن خطوط القتال، وكان البيت المجاور له مقهى للإنترنت، وفي تلك اللحظة أتته رسالة من زوجته على واتس اب فقفز فرحًا.
وكانت قد كتبت له رسالة بتعبير يحبه كليهما تقول له فيه, " اذا كنت تحب شيئًا فدعه يذهب، فان كان يحبك فسيعود اليك وسيكون لك الى الأبد." ووجد الرجل نفسه في عاصفة مع العاطفة واعتذر لها عن اخطائه وقال أنه يريد العودة.
وقال, "في اللحظة التي رأيت رسالتها بدأت في كرههم كلهم، وكنت أسأل نفسي ما الذي أفعله؟" وسمع اشاعات عن أحد رفاقه في معركة في العراق وهو رجل من المغرب قد فر إلى تركيا، فبعث له رسالة على "واتس اب" يسأله عن الطريقة.
وكتب له صديقه المغربي بسرعة " إذا إلى الرقة" فسجل طلب لحصوله على إجازة مرضية، وركل في اليوم التالي الحافلة إلى المدينة، وكان يرتدي عباءة على غرار الرجال الأفغان، وبحلول التاسعة صباحًا وصل إلى تل أبيض، ووجد مقهى للإنترنت لداعش يمتلئ بالرجال ذو اللحى الطويلة والبنادق على الكتفين.
وكان أحد الرجال يتطلع اليه بريب، وأتى موعد الاجتماع الساعة الحادية عشر واعتقد ابو علي أن أمره قد كشف ولكن في تلك اللحظة وصل شخصين على دراجة نارية وصرخا باسمه قائلين له " أبو علي لقد وصل الطعام، نعتذر عن التأخير." فوقف أبو علي واستعد للذهاب، فأوقفه الرجل الذي كان يحدق به وسأله " من أي بلد أنت؟"
فأجاب عليه ابو علي بلهجة أهل حلب فاعتقد الرجل الآخر بأنه مقاتل محلي وليس أجنبي فاعتذر منه أبو علي بضرورة ذهابه، وعندما خرج من الباب تنفس الصعداء، وصعد على متن الدراجة النارية التي انطلقت به، وفي اليوم التالي وبعد ليلة بلا نوم وجد نفسه في منطقة نائية على الحدود التركية، فزحف أبو علي من خلال ثقب في السياج الحدودي نحو الحرية في ليلية 25 ايار/مايو بعد اكثر من أربعة اشهر من دخوله أراضي داعش لأول مرة.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر