الموت الذي لا يعترف بفعلته‎

الموت الذي لا يعترف بفعلته‎

المغرب اليوم -

الموت الذي لا يعترف بفعلته‎

بقلم - أمينة التباث

كان الموتُ يقف جانِبا، يقضم أظافره و يحدّق في الساعة باستمرار، بدا متوتراً، لعلّه سببُ هذه الفعلة، أو لعله ينتظرُ شخصا ما، ربما هو شريكه في الجريمة. لكن أحدا لم يلاحظ هذا الارتباك، الجميع دخلوا الصالة و تحلقوا حول المرء الذّي يئن، ظلّوا يتساءلون عن سبب  الجرح في معصمه. قال أحدهم: جرحٌ صغير، لا داعي للخوف. أما أنا، فقد آثرت البقاء على الباب، بدا أنه غير آهل لي المشاركة في حفلة الاهتمام  الدسمة تلك. انتبهتُ للموت، في ذهوله و ريبته، لم يكن صعبا علي إدراك السر، أو لنسميها -إن أردنا أن نقرب للقارئ ما نرمي إليه- "الفعلة". الدقيقة الصحيحة هي الحقيقة، هي الوميض الذي مهما لمحناه بعيداً، إلا أنه علينا و بكل اليقين الممكن أن نستعد لوصوله. هكذا أدركت ما وراء وجه الموت المصفر، تمتمتُ في نفسي: إنه ينتظر الدقيقة الصحيحة.  إلا أن السيدة سمعتني فردّت: لا تتفوهي بمثل هذا الكلام يا ابنتي. 

المرء المستلقي على الأريكة، غيرُ مهتم، رغم أنه أكثر شخصٍ يأمن له الموت ألا يفضح "فعلته". غير مهتم، لا زال كذلك حتى بعد أن تقدم صاحبُنا و دلف وسط الجموع. توجه مباشرة نحوه و وشوش له في أذنه، قهقه المرء، حتى تكسرتْ عيناه البلوريتين، سقطتْ الشظايا في راحته فأحكم قبضته عليها، تقاطر الدم من يديه، و مع هذا لم يتوقف عن قهقهته. كنت أنظرُ إلى المشهد في بلادة، تفرستُ في وجوه الحضور، لكنّ أحدا لم يلاحظ هذا الارتباك..ّ أحدا لم يلاحظ الفعلة.

تعالت الأصوات، و ما بين ابتسامات الاطمئنان و أسئلة الاهتمام اختبأت قهقهة المرء، كأنها كائن وُلد لتوه خارج الزمن، تتضخم في طبقاتٍ مختلفة الهيئة فوق معصمه، و اذا ما ركزنا الرؤيا: تحديدا على الجرح.. الصغير و العادي. 

ألا ترون أني أبدو لكم حمقاء أهذي بكلام لا معنى له. حسنا هذا ما حاولتُ فعله وقتها، الانخراط في الحفلة و تصديق جملة المرء عندما خاطبني: اقترِبي عزيزتي.. ما من داعٍ للخوف.. هذه أشياءٌ تحصل. اقتربت، و من بعيدٍ رد الموت: هذه أشياءٌ تتداعى. حينها وخزتني الحقيقة من جديد. 

الموت، الذي كان واقفا قبل قليل عند الباب، لم يكن شخصا غريبا.. هو واحدٌ من الوجوه التي اعتدنا وجودها خلال يومنا دون أن نلتفت مرة لهيئتها. تتكلم معنا، تلقي نكتة كلما شعرنا بالملل، تحرّك حساء الخضار، تخبرنا كم الساعة أو تناولنا قلما لنسجل عنوان أحدهم.. كذلك يفعل الموت كل هذه المهام بمهارة، أو لنكن منصفين: يكلّف ظلّه الأحمق ليقوم بكل هذا. و نحن نتعامل مع الظل، لا نتذكر أن نقول: اه يا الهي لقد نسيتُ أن أسألك من أنت.. 

و الحقيقة أني كنت الشخص الذي وقعت عليه اللعنة، لينكشف لي النصف الآخر من الظل. "الخد المشوه للحياة" قلت، نطقت عينا المرء:الختم الأخير فوق إمضاء موظف أحيل على المعاش.  تفرق الحشد وقتها و شارفت الحفلة على النهاية، لفظ المريض (صاحب الجرح الصغير) قهقهته اللزجة، وضع عينيه جنب طقم الأسنان فوق الطاولة، و جلس ينظر نحو الباب. الموت الذي يسند ظهره إلى المرآة، عدّل جلسته و نفخ صدره. لقد رأيته في تلك اللحظة وحدها أكثر استعدادا و مسؤولية، بدا على أهبة قول الحقيقة. نحن الذين نأمن للموت بسهولة، نعتقد عادة أنه شفاف و حيادي إزاء ما يفعله، و عن نفسي لطالما نظرتُ له من هذه الزاوية فعاملته بما تفتضيه الرهبة و الخوف منْ كل ما هو حقيقي.. كبير.. يبلع ظلالنا الصغيرة. إلا أنه و كما لو أن هذه الحفلة أقيمت لألتقي به وجها لوجه، و أغير اعتقاداتي المسبقة. أستطيع الجزم الآن بأنه طفلٌ كبير خرج يلعب ذات أصيل، فوجد الحقيقة الوحيدة التي سقطت من يد الحياة، وجدها ملقاة على الأرض، وضعها في جيبه دون أن يدرك ماذا تكون.. و هكذا مضى القدر في التصرف وفق هذه الواقعة: الموت الجبانُ يحمل الحقيقة في جيبِ سرواله.                     

لنعد إلى حفلتنا الآن،  قالت سيدة في الجوار: أنتِ فتاةٌ سيئة، مدّي صحن الحساء للمرء. لكني عوض الاستجابة لها، وضعتُ السماعات في أذني و رفعت صوت الموسيقى متسمرة في مكاني، و المرء يئن، أشرتُ له إلى قلبي.. أدرك أني عرفت الحقيقة و رأيت ما لم يره الجميع.  لأنه في الناحية الأخرى كانت الدقيقة الصحيحة قادمة، صاحبة الدور الرئيسي في المسرحية كلّها. اقتربت، انتصب الموت، طلب المرء صحن الحساء لأنه شعر بالجوع فجأة، ضحك الجميع و في ظنهم أنه استرد عافيته.. و من بعيد توسعت حدقة الزمن، ليركز في المشهد أكثر. 

(مهلا ألم تلاحظوا أني خلال كل هذا، لم أقل حرفا، حسنا لابد أن أجعل لي جملة في الحوار)
نطقت: العاصفة. 
الموت(بنفس ارتباكه الأول): لننهي الأمر و حسب                               
الدقيقة الصحيحة: بسرعة. 
نظر أبي في عيني، ابتلع جملته في هدوء " هذه أشياء تحصل، هذه أشياء تتداعى"
أمي: فتاةٌ سيئة، لم تقدمي صحن الحساء.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الموت الذي لا يعترف بفعلته‎ الموت الذي لا يعترف بفعلته‎



GMT 22:54 2023 الجمعة ,18 آب / أغسطس

هل للطفل مطلق الحرية ؟

GMT 14:15 2023 الخميس ,20 تموز / يوليو

كلماتك الإيجابية أعظم أدواتك

GMT 11:37 2023 الأربعاء ,17 أيار / مايو

كبار السن بين الألم و الأمل

GMT 09:43 2023 الأحد ,05 شباط / فبراير

المدخل الجانبي

GMT 09:35 2023 الأحد ,05 شباط / فبراير

وما أدراك ما أشباه الرجال!

GMT 14:32 2022 الأربعاء ,28 كانون الأول / ديسمبر

إيه فيه أمل!

GMT 18:51 2022 الخميس ,03 آذار/ مارس

الطلاق التعسفي

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 10:10 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شروط المملكة المغربية لإعادة علاقاتها مع إيران
المغرب اليوم - شروط المملكة المغربية لإعادة علاقاتها مع إيران

GMT 18:36 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
المغرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 01:49 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

المغربية عزيزة جلال تعود للغناء بعد توقف دام 30 عامًا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib