نيفين أحمد
زهرة اللوتس المصرية ترمز عند المصريين القدماء إلى الحياة والموت والبعث، بنفس التناوب الجميل بين الزهرتين: الزرقاء التي تتفتح نهارًا، وتُغلِق عيونها في المساء، لتنام تحت المياه، والبيضاء التي تتفتح أزهارها ليلاً وتغلقها نهارًا.. كانت اللوتس من أهم القرابين التي يقدمها المصري للموتى في مقابرهم، كما كانت تُقدم كهدية تعبيرًا عن الحب.. هل كان هذا ما خطر ببال المهندس الراحل نعوم شبيب، حين قام بتصميم برج القاهرة على شكل زهرة اللوتس؟.
يقول المؤرخ العسكري جمال حماد، إن برج القاهرة له إسمان، الأول أطلقه المصريون، وهو "وقف روزفلت"، والثاني أطلقه الأميركيين، وهو" شوكة عبد الناصر"، والأخير يرجع إلى أن البرج تم بناؤه بمنحة، أو بالأحرى رشوة، قدرها 6 ملايين جنيه، بعث بها الأميركيون، إلى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر؛ لتغيير موقف مصر تجاه الثورة الجزائرية، إلا أن رده كان بليغًا، فأنشأ برج القاهرة بهذه المنحة، ليكون شاهدًا على رفضه للطلب الأميركي.
وكان برج القاهرة بمثابة أكبر" لا" في التاريخ؛ قام بكتابتها أكثر من 500 عامل ومهندس مصري على مدار خمس سنوات.
تم تجديد هذا الصرح العملاق، ليُعاد افتتاحه مرة أخرى في ثوب جديد، في 11 نيسان/ أبريل 2009 ليوافق يوم افتتاحه الأول في ذات التاريخ من العام 1961.. هذا الصرح ارتبط بزهرة كثرت الأساطير بشأنها ، ومن بينها أسطورة تقول إن هرقل هجر إحدى الحوريات، فألقت بنفسها في الماء حزنًا عليه، فتحول جسدها الى زهرة اللوتس، فهل كان لهذه الأسطورة صلة باختيار موقع البرج المميز على نهر النيل؟!
لم يكن برج القاهرة فيما مضى رمزاً فقط للكرامة المصرية أو عظمة الفن والفكر المصري أو حتى معلماً سياحياً خالداً، و إنما أيضًا كان مركزًا رئيسيًا لبث إذاعات سرية وعلنية لدعم حركات التحرر الوطني في العالم العربي في فترة حكم الزعيم جمال عبد الناصر.. حتى السحر مرتبط بالعمل الوطني.
هكذا الإنسان المصري، العمل لديه لا يتجزأ عن الفن .. يعمل بفن ويمارس الفن بإتقان. وقد وضعت أسطورة زهرة اللوتس لمساتها على قصة البرج، فإذا نظرنا الى بنيانه نجده وقد فاق هرم خوفو ارتفاعًا (187 متراً) ، كما أنه يقوم على قاعدة من الجرانيت الأسواني الوردي، الذي كان يستخدمه المصريين القدماء في بناء المقابر والمعابد والمسلات الضخمة.
هذا السحر لازمته مؤخرًا التكنولوجيا الحديثة، متمثله في استخدام الـ"L E D" في إضاءة البرج، وما لهذه التقنية من ميزات كثيرة تفوق الوسائل المعتادة للإضاءة، فهي تستهلك قليلاً من الطاقة الكهربائية، ولها القدرة على إصدار شعاع ضوئي ناصع متعدد الألوان، ما أضفى على البرج روعة، وظهر متأنقًا في زي ملون جميل، لقضاء سهرة رائعة في سماء ليل القاهرة.
أذكر زيارتي البعيدة جدًا لبرج القاهرة، وكان في مخيلتي أنه لا يعدو كونه مبنى خرسانيًا، ورحلة أسانسير( مصعد)، وصولاً إلى ساحة مستديرة واسعة، بها تلسكوب يمنحك المتعة في أن ترى كل القاهرة من هذه العين السحرية، ثم تنتهي الزيارة بغذاء رائع في المطعم الدوار.
الآن وفي زيارتي الأخيرة لبرج القاهرة بعد التجديدات أراه وقد اكتسى شباباً و نضارة لا تقاوم.. تلتفت يمنة فتجد مقهى فيلا الزمالك ، فيتراءى لك جلسة ودية مع أحد الأصدقاء أو شاب وفتاة مقبلان على الحياة، وحوار يدور عن خطط المستقبل، أو تبادرك فكرة عيد ميلاد في الهواء الطلق أو حفلة رائعة للأطفال.
تعاود النظر إلى هذا الصرح الشامخ ثانية، فتجده لازال أطول "لا" في التاريخ، ودليل على عظمة المصريين، فتنتابك الحيرة من أين تبدأ الرحلة؟.. الفضول لا يقاوم. تتساءل ماذا ينتظرني في هذا الجزء الغامض من سحر مصعد تعلوه شاشة عرض لقطات ساحرة للبرج من الداخل و الخارج .. يأخذك المصعد في لمح البصر إلى " الجاليرى"، وهو قاعة ساحرة تأخذ نفس تصميم البرج الدائري، وهناك جزء خاص لإقامة "سيمينار" صغير، والبقية عبارة عن جلسات منفردة، تتكون من 4 أفراد، بإمكانهم تبادل الحديث وتناول القهوة على هامش الـ"سيمينار".
يواصل مصعد البرج مشواره ليمر على روعة الخصوصية، وأعلى مستويات الرفاهية، وهو دور الـ "vip"، الذي يضم مطعم شديد الأناقة يرتدى اللون الأبيض المائل للإصفرار" الأوف وايت"، تأخذك تحفة الأناقة والرقى من كل جانب.. من الممكن تناول عشاء ينعم بالخصوصية و الرفاهية في آن واحد. يعلو المطعم "كوكتيل ريسبشن"، ولا يفصلهما عن بعضهما سوى سلم خشبي أنيق؛ يُشعرك بأنك في فيلا خاص.
تخرج من المطعم لتعاود رحلتك من جديد في المصعد الآخر الذي يحمل ذكرياتي ولم أُدرك موقعي في أدوار البرج إلا وهم يخبروننى أنه الطابق السادس عشر..
بعد رحلة طويلة مع الذكريات، أجد أنني لم استغرق سوى 45 ثانية، بعدها تحط أقدامي على السحاب، كما يبدو من وجوه تشع بابتسامة ترحاب شديد لا تملك سوى أن ترد عليها بابتسامة كتحية تلقائية.. تنتقل عيناك ما بين المطعم بأناقته الشديدة والمشهد الخلاب، فالقاهرة تُطِل عليها من بقعة ساحرة.. النيل بسحره، واللون الأخضر بروعته، وعدد من المباني المميزة.. القاهرة بتصميمها الخاص الذي يخبرنا عن مكنونها من الوهلة الأولى.. اذا تناولت غذاءك أو عشاءك، فأنت لن تنعم فقط بروعة المذاق أو الخدمة الرائعة ورحابة الاستقبال، وإنما أيضًا بهذا المشهد الخلاب للقاهرة بسحرها الذي يدور من حولك..
نعم يدور، أو بالأحرى أنت من تدور في هذا المطعم الأنيق، في دورة كاملة تستغرق حوالي 40 دقيقة، لتمتلئ بهذا السحر.
تناولت الطعام؟.. أتريد احتساء بعض القهوة أو مشروب خفيف؟.. يمكنك الانتقال الآن للدور العلوي، عبر سلم جانبي؛ يأخذك إلى كافيه له من نفس روعة المطعم.. تتملكك الرغبة في أن تصعد إلى أعلى، فتذهب إلى أجمل "بانوراما" في القاهرة .. أنت الآن في أعلى نقطة في برج القاهرة، أو بالأحرى أعلى نقطة في القاهرة .. لن يسرق نظرك فقط المشهد المباشر، بل قلبك أيضًا.. أنت هنا، لأول مرة دون حاجز زجاجي، والهواء الطلق له سحره الخاص على المشهد.. تدور لتقابل أربعة تلسكوبات موزعة؛ تسمح لك بمتعة لا تقاوم .. أنت الآن يمكنك أن ترى من هذه العين السحرية كل ما تود مشاهدته في القاهرة، وكأنه على بعد خطوات منك.
زهرة اللوتس المصرية، لها أنواع عدة، منها نبات الأبيض الذي يُعرف قديماً بعرائس النيل، لكن برج القاهرة لن يكون عروس نيل أخرى؛ لأنه سيبقى شامخًا على مرأى ومسمع من النيل، ليكون النيل هو حارسه الأمين وشاهد على روعته.
نبات اللوتس الأزرق، كان يُعرف عند المصريين القدماء، بأنه آكل النمل، لأنه يقتل النمل الذي يقترب منه، فهل كان برج القاهرة شوكة أو أكبر" لا " في التاريخ فقط، أم أنه يرمز أيضًا بأكل كل من تسول له نفسه الاقتراب من مصر؟.
في علم النفس يستخدمون عبارة "آكل اللوتس" للتعبير عن فاقد الذاكرة، أو إلى من يبنى قصورا ً في الهواء، ويرجع هذا إلى أسطورة إغريقية عن شعب كان من يأكل منه زهرة اللوتس ينسى أهله ووطنه وأصدقاءه .. فهل اعتمد المصريون على هذه الأسطورة أثناء تصميم برج القاهرة كنوع من الترهيب؟!
زهرة اللوتس في الأساطير كانت رمزا ً للراحة، والصحة، والجمال، والسحر، والحب والتفاؤل، فأغدقت من سحرها على برج القاهرة؛ فكان له ما لها من الرمز على مرمى العصور، فكان زهرة اتخذت عرشها الماء، ورفعت أكفها للسماء، وخلدها المصريين.