دعيت قبل أيام، من زميلي العزيز جمال المحافظ رئيس المركز المغاربي للدراسات والأبحاث في الإعلام والإتصال، لأنضم لنخبة من الأساتذة والباحثين، تواجدوا جميعهم بالمعهد العالي للإعلام والإتصال، بغاية تخصيب النقاش حول واحدة من القضايا الكبرى التي تستأثر بالإهتمام في مشهدنا الإعلامي بمختلف أجناسه وتشكلاته، فقد اختصت الندوة بتفكيك محور «الخدمة العمومية في الإعلام السمعي البصري»، ومن جنس الإشتغال، فقد دعيت لأن أتحدث عن الخصوصية الرياضية في الخدمة العمومية الي يقدمها الإعلام المرئي والمسموع لعموم المغاربة.
وقد انطلقت عند وضع أرضية للعرض من قناعة كاملة بأن التعاطي مع إشكالاتنا الإعلامية الكبرى، بمهنية، باحترافية وبعلمية، وأيضا باستحضار روح المواطنة، من خلال ملتقيات وندوات من هذا الجنس، هو سبيلنا الوحيد لإنتاج إرث فكري يستثمر فيه ويشتغل عليه، من أجل خلق أفضل البدائل.
ويشفع لي معيشي الإعلامي الذي يصل لسنته الأربعين، بأن أتعاطى مع موضوع الندوة من زاوية الصحفي الرياضي، لأطرح سؤالا جوهريا:
هل إعلامنا السمعي البصري في مواكباته وتغطياته للأحداث الرياضية الوطنية والدولية، يقدم فعلا الخدمة التي ينتظرها منه عموم المغاربة؟
إن طرحنا للسؤال بهذه الخصوصية، مرده المكانة التي باتت تحتلها الرياضة في النسيج الإعلامي بشكل عام، والإعلام المرئي والمسموع على الوجه القبلي، فالقنوات التلفزية والمحطات الإذاعية وكل وسائل الإعلام البديل المرئي على الخصوص، تتسابق وبشكل شرس وفي كثير من المرات بشيء من الشراهة، من أجل نيل السبق لتغطية الحدث الرياضي الذي يجلب ملايين المشاهدين.
ولست بحاجة هنا، لأن أعرض أمامكم الأرقام الفلكية التي وصلتها حقوق البث الإذاعي والتلفزي لكبريات التظاهرات الرياضية حول العالم، لأدلل على أن الأحداث الرياضية تفوق، عند بيع حقوقها تلفزيا، عشرات المرات ما دونها من أحداث وتظاهرات، ويمكن أن نستدل على ذلك بالقفزة النوعية التي حدثت على مستوى بيع حقوق البث التلفزي لكأس العالم، فقد تضاعفت بأكثر من 15 مرة خلال العقدين الأخيرين، لتصل اليوم إلى أرقام توصف بالفلكية، وهذا الإرتفاع المهول لبيع الحقوق لكل التظاهرات الرياضية ذات الإستقطاب الجماهيري الكبير، يجد تفسيره في التسابق الرهيب على اقتناء هذه الحقوق من قبل القنوات التلفزية الوطنية، بفعل التزايد في نسب المشاهدة، فمتوسط المشاهدة خلال منافسات كأس العالم، وصل إلى 30 مليار مشاهد.
وما طفا على السطح في العقد الأخير من ظواهر الإحتكار والتشفير، مرده أساسا هذا التسابق الشرس على اقتناء حقوق بث المنافسات الرياضية ذات التكلفة العالية.
ننتهي إذا، إلى أن مواكبة الأحداث الرياضية من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، تمثل بالفعل مطلبا عموميا وشعبيا ملحا، في كل دول العالم، وأكثر ما يلح عليه المشاهد عبر العالم هو أن تضمن له القنوات التلفزية والمحطات الإذاعية الوصول إلى المنافسات الرياضية الكبرى، ويكبر هذا الإلحاح عندنا في المغرب، لشغف وولع المغاربة الكبيرين بالرياضة، وكيف لا يكون هذا الولع قد وصل حد الجنون، ونحن نشاهد بأم العين كيف يعبر المغاربة عن فرحهم الجماعي بالإنجازات الرياضية الكبرى، عندما يندفعون تلقائيا بالملايين إلى الشوارع للإحتفال، فرح يقوي اللحمة الوطنية ويعمق الإلتحام بالرموز الكبرى للوطن، لذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو:
هل إعلامنا المرئي والمسموع، العمومي منه والخاص، يقدم بالفعل الخدمة الرياضية التي ينتظرها المغاربة والتي تلبي حاجاتهم وتشفي غليلهم؟
والمقصود طبعا بالخدمة الإعلامية التي ترضي المغاربة، هو كل ما يسهم في إخبارهم بكل ما يشفي غليلهم، وكل ما يضعهم في بؤرة الأحداث الرياضية التي يكون فيها المغرب مشاركا ومنافسا.
وقد كان محزنا بالفعل أن يشهر الإعلام الوطني العمومي المرئي والمسموع، عجزه وعدم قدرته على ربح السباق نحو نيل حقوق بث عدد من التظاهرات الرياضية الكبرى، ما تسبب في عزوف شبه جماعي للمتلقي المغربي الذي هجر قنواته الإعلامية المرئية على الخصوص، وقد وجد ضالته في قنوات تلفزية أجنبية نجحت في إحكام قبضتها على الأحداث الرياضية الكبرى وحققت له مبتغاه بفرض سلطة المال.
وبرغم أن وسائل إعلامنا المرئية والمسموعة، تدرك جيدا ما للرياضة من حظوة لدى عموم المغاربة، وما لها من ثقل في منتوجها الإعلامي، إلا أنها لا تعاملها بما يتناسب وهذه الأهمية التي تستحقها، فلا تضع ضمن أولوياتها، تجنيد ما تستطيعه من إمكانيات مالية لنيل حقوق بث التظاهرات الرياضية الكبرى، بخاصة تلك التي يكون المغرب طرفا فيها، ولا ترصد بالخصوص الرأسمال البشري الكافي لإنتاج مادة رياضية تشفي غليل المغاربة، ما يفرض فرض عين أن تتغير المقاربات ويقلع الإعلام السمعي البصري عن النمطية التي تسود تعاطيه مع المادة الرياضية، لنحول دون هجرة العقل والفكر المغربيين إلى عوالم إعلامية أجنبية، هجرة تهدد الإنتماء والهوية والولاء لما هو منتوج مغربي خالص.
وإذا كانت غايتنا الجماعية والتي هي من صلب الخيارات الإستراتيجية لمغرب اليوم والغد، هو تجويد الخدمات الإعلامية في كل أجناسها، بغاية تطوير مغرب المعرفة، وبهدف تسليح المغاربة بكل الأدوات المعرفية التي تساعدهم على كسب رهان البقاء في عالم تسوده منافسة رهيبة على مراكز الريادة، فإن ذلك يستوجب من كل الفاعلين في مجال الصحافة والإتصال والمعرفة الإنكباب على وضع استراتيجية جديدة تنزل كل مضامين الدستور المغربي وتؤطر حدود وأبعاد الخدمة العمومية التي يضطلع بها الإعلام المرئي والمسموع تحديدا، في ظل اتساع جغرافيا الإعلام البديل أو ما يصطلح عليه بالإعلام الحديث.
ولا تنتابني ذرة شك واحدة في قدرتنا على بلورة هذه الإستراتيجية الرامية إلى تجويد الخدمة الإعلامية الوطنية، ما دامت هناك أرضية خصبة في دستورنا وفي ميثاقنا الإعلامي تساعد على إبداع أنماط جديدة، في مرفق نعرف أهميته البالغة في التعبير عن ممكنات المغرب، وفي هندسة الشخصية المغربية المتفاعلة مع كل محيطاتها وفي الدفاع عن هويتنا الوطنية.
جميعا من أجل إعلام وطني مصداقي وموضوعي ومهني يخاطب ذكاء المغاربة ولا يستبلدهم، يعبر عن ممكناتهم ولا يسحبهم إلى الرداءة، إعلام يلهب الخيال وينمي المقدرات ويصنع الشخصية.
عن صحيفة المنتخب المغربية