التراجيديا اللبنانية  وطن في خدمة الزعيم

التراجيديا اللبنانية .. وطن في خدمة الزعيم

المغرب اليوم -

التراجيديا اللبنانية  وطن في خدمة الزعيم

باسم البكور
بقلم : باسم البكور

لم يكن خيال فيكتور هوغو واسعاً بما يكفي ليُضيف إلى أحد فصول روايته "البؤساء" المشهدَيْن الدراميَيْن التاليين: عائلتان تتشاجران على كيس حليب "مدعوم" في متجر شهير، ومجموعة أشخاص يتقاتلون على بضع عبوات من الزيت "المدعوم" في متجر آخر.يختصر هذان المشهدان السورياليان اللذان انتشرا على مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، الأسبوع الماضي، المأساة التي يعيشها اللبنانيون اليوم.

أراد الأديب الفرنسي أن ينتقد في روايته الشهيرة الظلم الاجتماعي الذي ساد في فرنسا بين سقوط نابليون بونابرت عام 1815 والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب عام 1832.لكن الظلم الاجتماعي السائد في لبنان مطلع القرن الحادي والعشرين أشد فداحة، إذ يبدع النظام اللبناني، الفاسد والفاشل، في رسم مشاهد واقعية مؤلمة تفوق في تفاصيلها وصورها تلك الموجودة في رواية هوغو الشهيرة.

فقد نجحت "الدولة العميقة" في تحويل الصراع السياسي على السلطة وحماية مكاسب الطوائف إلى حرب على لقمة العيش، بغية إجهاض الانتفاضات الشعبية التي اندلعت شرارتها في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 مطالبة بإسقاط "نظام الفساد" المتغلغل في مفاصل الحكم وإدارة البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية قبل ثلاثة عقود.

ثمة من يقول، في هذا السياق، إن الحرب اللبنانية (1975-1991) لم تضع أوزارها، وإنما اختلفت أدواتها، فبعدما كانت الأسلحة المستخدمة بالأمس تقتصر على النار والبارود، باتت المدافع اليوم على شكل شاشات وإذاعات وصحف ومواقع إلكترونية تقع غالبيتها في قبضة الطوائف، وزعماء الأحزاب والتيارات المتصارعة.

وهؤلاء تناوبوا على اغتصاب ما تبقى من سلطة قاصر، لم تبلغ سن الرشد بعد. إلى ذلك، فإن لكل حزب أو تيار أو جهة سياسية في لبنان ولاء لدولة أجنبية، عربية أو إقليمية أو غربية.وهو ولاءٌ عميق يفوق بأشواط الولاء للوطن.

وكم من أزمة سياسية داخلية شهدتها البلاد خلال فترة ما بعد الحرب لم يُفتح باب الحل لها إلا بأصابع خارجية "تمون" على هذا الزعيم أو ذاك، فينصاع لإرادتها بلا تردد أو نقاش.ويصحّ القول، هنا، إن الحرب اللبنانية (التي سقط فيها 144240 قتيلاً، وخُطف 41517 شخصاً، إضافة إلى نحو 300 ألف جريح ومعوّق، وهُجّر بسببها أكثر من مليون نسمة في بلد كان عدد سكانه ثلاثة ملايين، ونزح نحو 600 ألف شخص من 189 بلدة وقرية مسيحية وإسلامية، أي ما يعادل 21.8 في المئة من مجموع السكان) ما زالت مستمرة منذ 46 سنة، بأساليب أخرى.

تلك الحرب وصفها ناشر جريدة "النهار" البيروتية الصحافي الراحل غسان تويني، ذات يوم، بأنها "حرب الآخرين على أرضنا".لكن "الآخرين"، الذين تحدث عنهم تويني، ما كانوا لينجحوا في "حروبهم" على أرض لبنان لو لم يتوافر عملاء محليون مستعدون لبيع بنادقهم أو تأجيرها "لمن يدفع أكثر".

وبدلاً من تحقيق العدالة عبر مساءلة مجرمي الحرب، بعد انتهائها، تسلّق هؤلاء هرم السلطة، وراحوا يتقاسمون المغانم، من مناصب سياسية وإدارية ومرافق اقتصادية حيوية حتى باتوا يتحكّمون بمقدّرات البلاد وينهبون مواردها، بأشكال مختلفة، متحصّنين داخل قلاعهم الطائفية وامتيازاتهم السياسية وولاءاتهم الخارجية.لا بل أصبح هؤلاء "زعماء مقدّسين" لدى جماهيرهم المصابة بالعمى أو الغباء الموروث.

وبعدما شرب كلٌ منهم دم أخيه بالكأس حتى الثمالة، أصبح اليوم يُحاضر بالعفة والطهارة، لا بل يجد آلاف المناصرين الذين يرون فيه المنقذ أو المُخلِّص.وإذا جرى التسليم، جدلاً، بادّعاء غالبية اللبنانيين أنهم "يتميّزون" عن سواهم من العرب، بالثقافة والذكاء والعلم والانفتاح، فإن ذلك كله يسقط تحت "حذاء الزعيم"، طواعية وليس غصباً عنهم.

وبالتالي، فإن شخصية اللبناني الفرد، وميزاته التفاضلية على أشقائه العرب، تتلاشى حين يكون جزءاً من جمهور طائفته، فلا ذكاؤه ينفعه ولا علمه يمكّنه من اتّخاذ قرارات منطقية سليمة.

فعمامة رجل الدين، أياً كان لونها أو شكلها، أهم من الدين نفسه. وكلام الواعظ في المسجد أو الحسينية أو الكنيسة يسمو فوق الكلام المقدّس في القرآن أو الإنجيل. وهكذا، تحوّل كل لبناني، تقريبا، إلى مشروع شخص مخطوف، بالعقل، من جانب زعيمه السياسي الطائفي. إنه التجسيد الأسوأ لنظرية سيكولوجية الجماهير التي تحدث عنها الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "روح الجماعات".

من المشاهد المستغربة للغاية التي تعرضها شاشات التلفزة في لبنان، بين حين وآخر، هتاف بعض اللبنانيين جماعياً بأنهم مستعدون للموت فداءً "لحذاء الزعيم". وهذه الشريحة موجودة لدى الطوائف كافة.فالزعيم في المنطق اللبناني الطائفي الجماعي أكبر من الوطن، لا بل هو الركن الأساس الذي تقوم عليه الدولة، فإذا سقط الزعيم سقطت الدولة. وأصبح الزعيم هو الخيمة التي تحمي الوطن من "غدرات الزمان"، لا العكس.أما الفاسدون وناهبو أموال الشعب، من سياسيين أو موظفين حكوميين كبار أو أصحاب مصارف، فلا عقاب يطاول جرائمهم.

لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي يعطي المجرمين "حق الحصانة الطائفية"، فمعاقبةُ شخصٍ على جرمٍ ارتكبه تستوجب موافقة مرجعيته الطائفية، التي لها حقّ القبول أو الرفض، وغالباً ما ترفض حفاظاً على سمعة الطائفة التي ينتسِب إليها المُرتكِب، وفق تعبير وداد حلواني، مؤسِّسة "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان".وقد اختصر السياسي اللبناني الراحل سمير فرنجية القضية حين قال: إن "الأزمة اللبنانية مسألة أخلاقية قبل كل شيء".

من هنا، فإن المأساة الاقتصادية المعيشية البيئية الصحية السياسية الأمنية، المترابطة والمعقدة، التي يعانيها اللبنانيون اليوم، يتحمّلون هم أنفسهم مسؤوليتها.إنها نتيجة منطقية لما اقترفته أيديهم طوال سنوات من الإذعان للطبقة السياسية التي نجحت في ترويضهم وتدجينهم خدمةً لمصالحها الشخصية، "فالشعب الذي ينتخب الفاسدين ليس ضحية، بل شريك في الجريمة"، على ما يقول جورج أورويل، الكاتب والروائي البريطاني الشهير.وهذا ما اعترف به الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط حين قال في مقابلة تلفزيونية شهيرة: "لو ثمة محاسبة حقيقية في لبنان... لَما كنا، أنا والزعماء الآخرون، موجودين في الحكم اليوم".

وهكذا، أصبح لكل طائفة لبنانية زعيم تفتديه بدمائها. لم يتعلّم "أحفاد الفينيقيين" دروساً ممَّا جرى مع جيرانهم العرب الذين هتفوا عقوداً طويلة "بالروح بالدم...". هتف الليبيون في عهد معمّر القذافي "بالروح بالدم نفديك يا معمّر" طوال 42 سنة. سقط القذافي في خريف 2011، إلا أن أحداً لم يتقدم مضحياً بروحه أو بقطرة من دمه فداءً له.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التراجيديا اللبنانية  وطن في خدمة الزعيم التراجيديا اللبنانية  وطن في خدمة الزعيم



GMT 14:20 2023 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

العراق فاتحاً ذراعيه لأخوته وأشقائه

GMT 12:23 2023 السبت ,29 تموز / يوليو

أعلنت اليأس يا صديقي !

GMT 05:17 2023 الأربعاء ,05 إبريل / نيسان

اليمن السعيد اطفاله يموتون جوعاً

GMT 00:59 2022 الإثنين ,14 آذار/ مارس

بعد أوكرانيا الصين وتايون

GMT 11:30 2021 الإثنين ,20 كانون الأول / ديسمبر

عطش.. وجوع.. وسيادة منقوصة

GMT 12:34 2019 الجمعة ,19 تموز / يوليو

يحدث عندنا.. ذوق أم ذائقة

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 11:19 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
المغرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:20 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 15:47 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل
المغرب اليوم - منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل

GMT 16:06 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجات لم يشفع لها الذكاء الاصطناعي في 2024

GMT 08:33 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الطقس و الحالة الجوية في تيفلت

GMT 00:40 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

حطب التدفئة يُسبب كارثة لأستاذين في أزيلال

GMT 05:45 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

بنغلاديش تعتزم إعادة 100 ألف مسلم روهينغي إلى ميانمار

GMT 07:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

نادال يُنهي 2017 في صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib