رغم أنَّ المشروع المجتمعي للحركة الأمازيغية مشروع قائم تتناول، فصوله الفعاليات الأمازيغية في محاضراتها وندواتها، إلا أنه يبقى موغلا في العموميات ويفتقر إلى التفصيل والدقة، خصوصا أنه غير مدون بشكل علمي ومفصل يتيح للقوى المدنية والسياسية والنشطاء من المواطنين الإطلاع عليه بشكل سلس وسهل.
إن تصور الحركة الأمازيغية للمجتمع المغربي متحضر وحداثي، ويتجاوز الهفوات التي تسم غيرها من المشاريع المجتمعية التي تروج، خصوصا أنه يستمد أسسه بشكل تام من القيم الكونية ومبادئ حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا. فيما يتعين على الحركة الأمازيغية أن تبذل قصارى جهدها للترويج لخطابها الذي لا شك أن يستجيب للخصوصية الثقافية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية للمغاربة، وتجاوز منطق "الغيتو" الذي تحاول الدولة ومعها الخصوم "الأيديولوجيون" فرضه عبر الحصار المضروب على الناشط الأمازيغي مجتمعيًا وسياسيًا.
في الشق الهوياتي، تظل الهوية المغربية هوية الأرض التي تعتبر الثابت الواحد من بين متغيرات يريدها البعض محددات للهوية، فالمعطى الإثني واللغوي والعقدي يطالهم التنوع والتحول، بينما تبقى هوية الأرض ثابثة لا تتغير بتغير المعطيات المذكورة سلفا، وبهذا المنطق تكون هوية الدولة المغربية أمازيغية، تسمو عن الانتماءات الضيقة الأخرى التي تقصي هذا أو ذاك، ولا يستقيم فهم الهوية الأمازيغية للمغاربة في دائرة "العرق الخالص" أو "اللسان المقدس"، بل إننا أمازيغ هوية، تتنوع أعراقنا وتتعدد ألسنتنا وتختلف معتقداتنا.
وفي هذا الإطار، نشير إلى أن كثيرا من الانتهاكات الحقوقية التي يكون المغاربة عرضة لها، إنما أصلها ابتداع هوية دخيلة ومزيفة للمغاربة تروم إقحامهم في "قومية" تنتصر للأنساب التي لم تعد تعني شيئا في زمن المواطنة الكونية.
يظل مبدأ الاختلاف والنسبية الذي يروج له الخطاب الأمازيغي جوابا شافيا كافيا لعدد من الإشكاليات والتناقضات المجتمعية للمغاربة، فالاختلاف واقع وحتمية طبيعية في المجتمع الإنساني، وتظل مآل محاولات قولبة مجتمع ونهج طرح "توحيدي- تأحيدي" ذي غاية تنميطية الفشل والاندحار، وكثيرا ما تروج مؤسساتنا المجتمعية أن المغاربة مجتمع غني بتعدده، إلا أن هذا الشعار يرفع لمجرد الاستهلاك الإعلامي الساذج، حيث أننا كمغاربة في الحقيقة لا نتعايش مع اختلافنا ولا نقبل نسبية أفكارنا ومواقفنا ونسعى في فرض الإمامة وسن الحجر والوصاية على الأغيار، ولعل التسليم بمعطيات ووضعها في خانة الثوابت والمقدسات أعظم دليل.
تعتبر الدولة المدنية من أبرز المطالب التي يطرحها المشروع المجتمعي الأمازيغي والمشهود له بالجرأة في الطرح والعمق في التفكير، ذلك أن الدولة المدنية تقوم على أساس المواطنة كشعار كبير وشامل، وتستند أطروحتها على 3مداخل: المدخل الفلسفي، ويقتضي إعمال العقل في تدبير العلاقات والنوازل داخل المجتمع، والمدخل الإجتماعي وعبره يثمن الاختلاف حيث لكل فرد الحق في أن يختلف مع غيره في إطار الاحترام الواجب للحقوق والحريات، وأخيرا المدخل السياسي ويستلزم جعل الدولة المواطنين على المسافة ذاتها، بغض النظر عن انتماءاتهم وقناعاتهم وخصوصياتهم كيفما كانت، والتركيز على ثنائية الحق والواجب في التعامل مع المواطنين.
إلى جانب ذلك نجد السؤال العقدي مطروحا في النقاشات العمومية، وهو السؤال الذي يجيب عنه المشروع الأمازيغي في تجرد ومسؤولية، فيطرح لذلك جعل المسألة الروحية للأفراد حرية واختيارا شخصيا يربط العبد مع ربه، وحفظ قدسية المعطى الروحي عبر تجاوز تسييسه والمتاجرة به، وهو منظور عميق يتجاوز بكل تأكيد الارتزاق السياسي لأطراف مجتمعية معينة باسم الدين.
في المعطى اللغوي، يتميز الطرح الأمازيغي بانفتاحه خصوصا أن اللغة الأمازيغية كانت أكبر ضحايا الديكتاتورية اللسانية لعقود طويلة في دولة ورثت الفلسفة اليعقوبية في تعاطيها مع التنوع والتعدد، لذلك نجد أن إنصاف المواطن لسانيا ضرورة حتمية، ويتعين الفخر بالتنوعات اللسانية التي تكون السوق اللغوية، والقطع مع السياسة التقديسية للغات باسم الدين، فكل الألسن إرث وإنتاج انساني يتعين حفظها وتثمينها و والتعامل معها بشكل منصف يحقق العدالة اللغوية ويستتيب السلم الاجتماعي.
علاوة على ذلك، يطرح المشروع الأمازيغي فكرة "الفيدرالية" في الشق السياسي، وذلك قبل أن يتم الحديث عن الحكم الذاتي والجهوية الموسعة التي نسمع بها اليوم في بلادنا، نظام يضمن حفظ الخصوصيات الإقليمية وتحقيق العدالة المجالية، ويبقى هذا الطرح الأمازيغي طرحا أصيلا لكونه يستند على النظام السياسي الذي اعتمدته القبائل الأمازيغية ومكنها من تدبير شؤونها بنفسها، وكذا طرحا متقدما لكونه يتقاطع في كثير من أسسه مع أقوى الأنظمة الفيديرالية الناجحة والمعروفة عالميا.
وفي الملف القضائي، يعتبر استقلالية القضاء وكذا تمكين المواطنين من الترافع بلغتهم الأم في منظومة القضاء ضرورة ومطلبا ملحا للحركة الأمازيغية، ذلك أننا لا نستطيع أن نتجاهل تضرر المتقاضين وغياب العدل في كثير من الحالات بسبب لغة التقاضي المتداولة في المحاكم المغربية، إلى جانب ذلك، فإن ضرورة إحياء الأعراف الأمازيغية في الترسانة القانونية المغربية مطلب آني لكونها تظل الجواب الأوحد لعدد كبير من النوازل التي ترد على المحاكم المغربية.
في الشق الثقافي، يتعين على الدولة المغربية الكف عن نهج المفاضلة بين المظاهر والأشكال الثقافية التي يزخر بها المغرب، بل أن تثمن الأشكال المتأصلة والمتجذرة بدل تعريضها للموت البطيء والفلكلرة البغيضة، فالحديث عن ثقافة المركز أو ما يصطلح عليه بالثقافة الرسمية في مقابل ثقافة الهامش أو ما يصطلح عليه بالثقافة الشعبية تناول تمييزي تفاضلي لا نجده في الدول التي تحترم كينونتها وبه يتعين على الدولة أن تعطي للثقافة المغربية على تنوعها وغناها فرص الاستمرارية والتثمين.
إن مسألة إعادة كتابة التاريخ المغربي تظل من بين الأمور التي تركز عليها الحركة الأمازيغية وتستميت في تبنيها وطرحها والتشبث بها مع الإلحاح، فهي الكفيلة بدحض الكثير من الترهات التي يعتبرها مسلمات وبالتالي، التمكن من إظهار حقيقة المغرب دون مساحيق. إن الدولة المغربية ومنذ الحماية الفرنسية كانت ضحية سياسات بربرية قاتلة، وعجينا مِطواعا تتسلى به التيارات ذات الولاء للمشرق من جهة، ومن جهة ثانية، تلك التي لا تخفي ولاءها للغرب، ويظل اطلاع المغاربة على حقيقة تاريخهم وتجذره نقطة لا تقل أهمية عن غيرها من العناصر.
أخيرًا، وفي المجال الإقتصادي، لابد أن نشير إلى ضرورة إحقاق العدالة المجالية والتوزيع العادل للثروات، خصوصًا أننا نجد أغنى الجماعات المحلية المغربية من حيث مواردها الطبيعية تظل من أفقر الجماعات من حيث مؤشرات التنمية والبنية التحتية، ثم القطع مع أشكال الريع الذي ينخر جسد الاقتصاد المغربي ويفوت عليه فرص البناء الحقيقي.
تلكم إذا وبإيجاز أهم محاور المشروع الأمازيغي التي تظل متكاملة مترابطة، والتي يتعين على الحركة الأمازيغية العمل الجاد على بلورتها بشكل أوضح وتمكين المغاربة من التوضيح الشافي والتفسير الكامل لها، لتجاوز النظرة الاختزالية للقضية الأمازيغية بقصد أو دونه.