جدة ـ وكالات
يعتمد امن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي الست على افتراض اساسي.أبرمت حكومات هذه الدول التي تديرها اسر حاكمة عقدا اجتماعيا مع شعوبها يقضي في ابسط اشكاله بالشرط الآتي: "في مقابل امتثالكم سنوفر خدمات الصحة والتعليم والمياه والطاقة والخدمات الاخرى بالمجان".لكن ماذا يحدث إذا لم تصبح هذه الحكومات قادرة على الوفاء من طرفها بما جاء به هذا التعاقد؟ ماذا يحدث لو اصبحت تكلفة دعم كافة هذه الخدمات باهظة جدا بما يحول استدامتها؟ لفت هذا التساؤل انتباه جيم كرين، محلل شؤون الخليج في جامعة كامبريدج لدى اطلاعه على الارتفاع الكبير للغاية في سعر الكهرباء في الكويت.وقال كرين لبي بي سي "في عام 1966 خفضت الكويت رسوم الكهرباء من 27 فلسا لكل كيلووات الى فلسين فقط، ومنذ ذلك الحين ثبت السعر دون تغيير، وهو ما يعادل نحو سنت امريكي واحد". وفي بريطانيا تصل تكلفة الكهرباء الى نحو (0.19 دولار) للكيلووات.في غضون نحو 50 عاما ومنذ تثبيت سعر فلسين للكيلووات في الكويت، مثل دول اخرى بمجلس التعاون الخليجي، انتقلت البلاد من حالة الانعزال ونمط الحياة البدوية لتكون بلدا يتمتع بتكنولوجيا فائقة يضم الكثير من الاسواق التجارية المنتشرة والابراج الشاهقة و المساكن الفسيحة فضلا عن انتشار السيارات وبناء صناعات عملاقة لاستخراج وتكرير الهيدروكربون.ويتمتع الكويتيون بأحد اعلى مستويات المعيشة في العالم، نظرا لما لديهم من مرافق صحية وتعليمية ممتازة.وفي وسط الصحراء لديهم وفرة في المياه الرخيصة للغاية، كما يعيش الكويتيون في بيئة مكيفة الهواء دائما.ويتطلب الحفاظ على هذا النمط من الحياة المريحة استمرار الدعم الكبير لاسعار الطاقة.تشهد دول مجلس التعاون الخليجي – السعودية والكويت والبحرين وعمان وقطر والامارات العربية المتحدة – اسرع معدلات للنمو السكاني في العالم.ويقول تقرير لوحدة المعلومات الاقتصادية انه بحلول عام 2020 من المتوقع ان يسجل اجمالي عدد سكان دول الخليج، بما في ذلك اليمن، زيادة بواقع الثلث، ليصل الى 53 مليون نسمة، وستكون شريحة السكان الغالبة لمن هم دون سن الخامسة والعشرين. ويخالج اولئك السكان في دول مجلس التعاون الخليجي توقعات كبيرة بأن حكوماتهم ستبذل قصارى جهدها للوفاء باحتياجاتهم، وهي توقعات تتعلق بتوفير فرص عمل وسكن مدعومة من الدولة واستمرار تقديم خدمات مجانية أو شبه مجانية لهم ولاطفالهم.ومن اجل الوفاء بهذه التوقعات، يرى محللو الطاقة أن هذه الحكومات سينبغي عليها الاستمرار فيما دأبت علي فعله خلال السنوات الماضية: وهو خفض صادرات الهيدروكربون في السوق العالمية.ونشر مصرف "دويتشه بنك" تقريرا في فبراير/شباط الماضي يحلل العلاقة بين الدعم والطلب الداخلي في شتى ارجاء العالم، مشيرا الى ان "الدعم كان عاملا أساسيا في حدوث زيادة ملموسة للغاية في الطلب الداخلي".ويتزايد لجوء الاسر الحاكمة الى استخدام بعض النفط والغاز المخصص للتصدير من اجل تغذية محطات توليد الطاقة بالوقود لدعم الكهرباء التي تساعد في الوفاء بالتعاقد الاجتماعي بين الحكومة والشعب.ومع خفض الاسعار بصورة مصطنعة، سجل الاستهلاك نموا بقفزات سريعة. كما ان دول الخليج لا تتمتع بعقلية الترشيد الاستهلاكي.واسعار الكهرباء في الكويت منخفضة جدا ولا يضيق الشعب حتى من دفع تكلفتها، لكن الدولة ببساطة تتحمل اعباء سدادها.ويقول مارك لويس، عضو مجلس الادارة المنتدب لابحاث السلع في دويتشه بنك إن جميع الاشياء تدار باحكام بحسب النموذج.وقال لبي بي سي "نظرا لارتفاع تكلفة الدعم، تبرز زيادة سريعة في الاستهلاك الداخلي، كما أن الكويت لديها ميزة تثير الريبة تتمثل في تسجيلها اعلى سعر للوقود الحفري المدعوم مقارنة باي منطقة اخرى في العالم."ووصف لويس، وهو مشرف مشارك على تقرير دويتشه بنك، الوضع بأنه "حلقة مفرغة" حيث ان زيادة الطلب الداخلي الهائل على الطاقة بفضل زيادة الدعم يعني تراجع تصدير النفط والغاز للسوق الاجنبية.وهذا يؤدي أيضا إلى تراجع العائدات بالنسبة لحكومات الخليج التي سجلت زيادة كبيرة للانفاق الاجتماعي في سبيل الوفاء بعقدها الاجتماعي.وثمة تقديرات في الوقت الحالي تشير الى انه من اجل الوفاء ببنود العقد الاجتماعي يجب على دول مجلس التعاون الخليجي احتجاز 80 دولارا من مجموع 110 دولارا هي سعر كل برميل نفط تحصل عليه هذه الدول. اشار جيم كرين خلال تحليل سياسة الطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي الى ان عائدات النفط تمثل "أساس" هذه الدول. وقال إن الاسر الحاكمة تواجه معضلة، فمن الناحية السياسية لا يرغبون في معاداة شعوبهم، لذا كانت واحدة من الإجراءات التي اتخذتها هذه الأسر كرد فعل على ثورات الربيع العربي هي فتح خزانات البنوك وزيادة الانفاق العام بصورة كبيرة الى جانب زيادة الرواتب والمساعدات والوظائف الحكومية.فعلى سبيل المثال استطاعت سلطنة عمان رفع الدعم وزيادة الرواتب والمساعدات وتوفير 50 ألف فرصة عمل – اغلبها في القطاع الحكومي – بتكلفة قدرت بنحو 2.6 مليار دولار.لكن كرين يقول إن هذا النهج يمثل دليلا على ان دول الخليج "تفكك قاعدتها الاقتصادية وتقوض هيكلها السياسي".واضاف "انه فخ صنعوه بايديهم".معظم الاقتصاديين في منطقة الخليج، حتى اولئك الذين يعملون لحساب الاسر الحاكمة، لا يتفقون مع هذا التحليل. وعلى الرغم من ذلك فان الجهود المبذولة للحد من الاستهلاك الداخلي من خلال خفض الدعم ناقصة في أحسن الأحوال.فعلى سبيل المثال لدى دبي تناقض من حيث فرض الرسوم، اذ تعمد الى فرض رسوم اعلى على الاجانب مقارنة مع مواطنيها. لكن ذلك استثناء عن القاعدة.وقال احد المسؤولين الكويتيين لبي بي سي "لقد ضاعت جميع الفرص حتى الان. فثمة حاجة لجرأة سياسية شديدة، وحتى الان نحن لا نشهد ذلك". احرزت الكويت، من بين كافة دول الخليج، تقدما كبيرا على طريق الديمقراطية. لكن من المرجح ألا يتفق برلمان منقسم ومضطرب يضم أعضاء ذوي توجه شعبوي قوي على خفض الدعم حتى ان كان لدى حكام البلاد رغبة في ذلك.اذن ما هي الخيارات المتاحة امام الاسر الحاكمة للوفاء بتحديات الطاقة التي تشكل بالفعل ضغوطا شديدة على العقد الاجتماعي؟تمثل مصادر الطاقة البديلة، مثل الطاقة الشمسية، احد الخيارات.لكن اذا لم يتفق المخزون الحالي من المساكن والمخزون التجاري مع اعلى معايير كفاءة الطاقة، فستستمر دول مجلس التعاون الخليجي على طريق عدم الاستدامة. قال مايك وود، المستشار لدى وزارة الكهرباء والمياه الكويتية، ان عقودا من الدعم، الذي يسجل حاليا ما يزيد على 90 في المئة من تكلفة الانتاج، دمرت كافة الحوافز الاستهلاكية لبناء وتشغيل المباني بكفاءة.وأوضح في تصريح لبي بي سي ان ما يزيد على 10 في المئة من انتاج النفط القومي للكويت يوجه حاليا الى الاستخدام الداخلي ومن المتوقع ان يرتفع هذا الرقم الى ما يزيد على 20 في المئة بحلول عام 2030.واضاف "ثمة حاجة ملحة، لا تدعمها حتى الان آليات التنظيم والتمويل، لتحديث وبناء مخزون جديد وتحسينه ليكون بأفضل كفاءة ممكنة".يغطي الترشيد المحتمل ما يزيد على 50 في المئة من الأبنية الجديدة و 25 في المئة من تلك القائمة منذ فترة.وتعد اجراءات الطاقة البديلة الخاصة بالمعروض أقل أهمية، لكن الكويت حاليا تتبع نهج مصادر الطاقة المتجددة، لاسيما الطاقة الشمسية، بهدف توليد 15 في المئة من حاجة البلاد بحلول عام 2030.لكن الوقت يمثل عنصرا هاما للغاية.وقال وود ان زيادة الانفاق الحكومي على المساعدات الاجتماعية المقدمة للمواطنين وخطط التنمية المستمرة تدفع باسعار النفط، المطلوبة لتحقيق توازن في الميزانية، إلى مستوى قريب جدا من سعر السوق في الوقت الحالي، وهو الوضع الذي يصفه بأنه "مقلق وغير مستدام." وتمثل الطاقة النووية احد الخيارات الاخرى. فالسعودية تسير بفاعلية على هذا النهج كما ان دولة الامارات العربية المتحدة سيكون لديها محطة طاقة نووية في عام 2017. لكن الامر في الكويت يختلف بعد أن تم بشكل مفاجئ إرجاء خطط محكمة بشأن انشاء محطات نووية بعد وقوع كارثة محطة فوكوشيما اليابانية العام الماضي، حيث وصف مصدر كويتي شعور الحكومة إزاء هذا الأمر بانها "مذعورة".يدرك جيدا المخططون الاقتصاديون في منطقة الخليج الحاجة الى معالجة معضلة الدعم التي تواجه هذه الدول.غير ان الحكومة فيما يبدو لا تسير على ارجح التقديرات في هذا الاتجاه طالما كانت اسعار النفط العالمية تسجل ارتفاعا، لاسيما ان معظمها مازال لديها احتياطيات مالية كبيرة تستفيد منها.ومن المفارقات ان يكون خفض الهيدروكربون المتاح للبيع في السوق العالمية مساعدا لدول الخليج كي تضمن بقاء الاسعار مرتفعة.وهذا يعني ان القرارات الحاسمة يمكن تأجيلها، حتى عندما تكون هناك تقديرات محسوبة.وقال صندوق النقد الدولي ان الكويت ستستنزف جميع مدخراتها بحلول عام 2017، اذا استمرت في انفاق الاموال بهذا المعدل الراهن.وفي حال تعرضت اسعار النفط الى انخفاض مستدام، حينئذ ستجد دول مجلس التعاون الخليجي نفسها، باستثناء قطر الغنية بالغاز، مضطرة الى خفض الدعم وخفض الانفاق العام أو استنزاف الاحتياطيات النقدية للوفاء بالالتزامات الاجتماعية.وقال مارك لويس، لدى بنك دويتشه بنك، ان الخفض المستدام لاسعار النفط "قد يكون مضرا في الواقع" لكن ذلك قد لا يحدث.ويؤكد اخرون، من بينهم مايك وود، ان الفائض العالمي للنفط وزيادة العرض، من العراق والولايات المتحدة في الاساس، من المحتمل ان يدفع الى تراجع السعر.وحتى الان على الاقل تسمح اسعار النفط العالية للاسر الحاكمة في دول الخليج بلعب مباراة قصيرة.والوضع المثير للقلق يتمثل في أنه في حال لم تبدأ الحكومات بوضع رؤية طويلة الأمد، فان الاسر الحاكمة قد تواجه عن قريب انتفاضات نجحت في تفاديها حتى الآن بصورة كبيرة.