الرئيسية » مراجعة كتب

دمشق ـ وكالات

في نصّه السردي "رحيل إلى المجهول" الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار نشر "أكت سود" بعنوان "13 عاما في السجون السورية" يسرد لنا  الكاتب آرام كارابيت رحلة عذابه في السجون السورية التي دامت ثلاثة عشر عاما على أثر اتّهامه بالتآمر مع آخرين لقلب النظام بالقوة. وكارابيت هو مهندس كان يعمل في مدينة الحسكة ويناضل سلميا داخل منظمة يسارية تدعو إلى تغيير ديمقراطي في البلادن، وقد أوقفته المخابرات السورية بتاريخ ٢٤ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٨٧ واحتجزته في مركز الأمن السياسي بالقامشلي. وفي الأيام الأولى من اعتقاله، يقرّ كارابيت بأنه لم يتم ضربه أو تعذيبه، لكنه استُجوِب بمعدل ١٥ ساعة يوميا بشأن انتمائه لحزبٍ "عدو"، ومصادر تمويل هذا الأخير وعدد المنتمين إليه والدول التي تدعمه، قبل أن يمنحه مستجوبه الذي "تعكس ملامح وجهه فورا اعتياده على الرذيلة" فرصة إخلاء سبيله مقابل الوشاية برفاقه. ونظرا إلى عدم إفصاح كارابيت عن أي اسم، تم نقله إلى سجن الحسكة في ٧ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٨٧. وخلال هذه الرحلة، سعى بنظره إلى معانقة مدينته المألوفة، كما لو أنها المرة الأخيرة، وإلى استكشاف الوجوه في الشوارع، التي بدت له فجأة غريبة وغير مبالية، كما وجد نفسه يبحث بين هذه الوجوه عن وجه حبيبته. أما داخل هذا السجن فاستسلم لعملية تذكّر شعرية لماضيه." وفي ٣ ديسمبر/كانون الأول ١٩٨٧، نُقل كارابيت إلى سجن عدرا المركزي بدمشق حيث أمضى ثماني سنوات من حياته يخصّص لها فصلا طويلا في كتابه، يتوقف فيه أولا عند استقبال السجناء الحار له، على رغم علامات الحزنٍ العميق البادية على وجوههم، ثم يكشف لنا عن عملية توزيعهم داخل هذا السجن وفقاً لانتماءاتهم السياسية، قبل أن يسترسل في وصف حياتهم الخاضعة إلى تنظيم دقيق نظرا إلى فترات الاعتقال الطويلة لمعظمهم.وفي هذا السياق، يتبيّن لنا أن كل سجين كان يعيش منطويا على ذاته، تلفّه طبقة سميكة من العزلة والتوتر والقلق، ويحاول عبور الأيام بأقل حد من الخسارة المعنوية، مستعينا بأدوات دفاعية معقدة تساعده على حماية نفسه من الانهيار وعلى المحافظة على توازنه، كما يظهر لنا أن لكل سجين قصة مطوية بين صفحات النسيان، سفرا مطوّقا بالألم، وتعاسة مدفونة في القلب.ومع أن معظم نزلاء هذا المعتقَل أوقفوا بسبب آرائهم السياسية، وبالتالي لا يستحقّون السجن يوما واحدا، لكن ثمّة بينهم مَن اعتُقل لأقل من ذلك بكثير، كالسجناء الثلاثة الذين ألقي بهم خلف القضبان لتعبيرهم يوما عن اختفاء البيض من السوق، أو السجين الذي أمضى ١٢ عاماً في السجن فقط لأن أخاه كان ينتمي إلى منظمة معارضة للنظام، أو الفتى القاصر الذي أمضى ثمانية أعوام في السجن لسقوطه عن دراجته أمام مركز للشرطة وعثورهم في جيبه على عدد من جريدة "العلم الأحمر" المعارضة.. ولا يُهمل كارابيت كوابيس السجناء في الليل أو الأمراض الجسدية النفسية التي كانت تقتك بهم الواحد تلو الآخر، بل يصوّر لنا كل شيء حتى تتشكّل أمامنا فكرة واضحة عن مناخ هذا السجن المشؤوم الذي يظهر مشحونا إلى ما لا نهاية "بآمال نائمة وأحلام مؤجّلة". بعد ذلك، يتوقف كارابيت عند مناورات النظام السوري العديدة لإقناعه هو ورفاقه، عبثا، بالتخلي عن حقوقهم السياسية مقابل الإفراج عنهم، ثم ينتقل إلى محاكمتهم التي لم تبدأ قبل فبراير/شباط ١٩٩٣، أي بعد مضي سنوات طويلة على اعتقالهم، وكانت نتيجتها الحُكم على كلّ منهم بسنوات إضافية من السجن، بدلا من إخلاء سبيلهم. وفي هذا السياق، يشير إلى جرأة عدد من السجناء خلال المحاكمة على التشكيك في شرعيتها وشرعية القضاة الحاضرين نظرا إلى كونهم معيّنين من قبل نظام لم تعد تحصى جرائمه، مستشهدين بمجزرة حماة التي أودت بحياة ٣٠ ألف مواطن وبمجزرة سجن تدمر التي راح ضحيتها ألف سجين أعزل وبالتورّط الدموي الفاضح لهذا النظام في الحرب الأهلية اللبنانية.تكمن أهمية نص كارابيت في كشفه وضع السجون السورية المرعب من الداخل وللتحليل السيكولوجي العميق الذي يتناول كارابيت فيه الجلاد والضحية " أما القسم الأخير من الكتاب فينتقل بنا إلى سجن تدمر حيث نُقل كارابيت وعدد من رفاقه في ٣ يناير/كانون الثاني ١٩٩٦ وتعرّضوا فور وصولهم إلى عملية تعذيبٍ منهجية على مستويات عدة. فإلى جانب الضرب المبرح والجَلد حتى الإغماء والإذلال على مدار الساعة ومن دون أي سبب، وُضعوا في حجرةٍ هي أشبه بكهفٍ تدخله الرياح من سقفه العالي والمفتوح وتتجمّع فيه الأمطار على شكل بِرَكٍ.وكما لو أن ذلك لا يكفي، فُرض عليهم النوم على الأرض من دون فراش وبوضعيةٍ واحدة وتمت مراقبتهم طوال الليل من قبل حارسٍ كان يقف على جانبٍ من السقف ويسجّل اسم مَن يتحرّك كي تتم معاقبته في اليوم التالي.وحين نعرف أن كارابيت ورفاقه أمضوا أربع سنوات في هذه الظروف قبل أن يتم إطلاق سراحهم، يمكننا تخيّل ـ وفقط تخيّل ـ العذاب اليومي الذي اختبروه وفهم قوله في مكانٍ ما من نصّه: "للمرّة الأولى تجلّى الموت لي كأملٍ، كرغبةٍ، كواقعٍ محسوس". باختصار، نصٌّ في غاية الأهمية ليس فقط لأنه يفضح همجية النظام السوري التي تتجلّى عبر سجنه وتعذيبه على مدى سنواتٍ طويلة أشخاصا لا ذنب لهم سوى التفكير بطريفة مختلفة عنه، بل أيضاً لكشفه وضع السجون السورية المرعب من الداخل، وللتحليل السيكولوجي العميق الذي يتناول كارابيت فيه الجلاد والضحية معاً وينبثق من اختبار مُعاش، بعكس تحليلات علماء الاجتماع حول هذا الموضوع التي ترتكز على المراقبة الخارجية. وإذا أضفنا لغة النص الجميلة، نظرا إلى سلاسة أسلوبه وغناه بالصور، الواقعية تارةً والشعرية تارةً أخرى، لتبيّنت لنا قيمة هذا الكتاب الأدبية أيضا.

View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

إصدار جديد يقارب حصيلة الدراسات الأمازيغية في المغرب
مؤلف يرصد البرلمان المغربي في ظل ثلاثة ملوك
رواية "وجوه يانوس" تقود أول امرأة إلى رئاسة الحكومة…
ديوان شعري أمازيغي يدعم مرضى السرطان الفقراء
أول عدد من "مجلة تكامل للدراسات" يرى النور

اخر الاخبار

منزل نتنياهو تعرض لسقوط قنبلتين ضوئيتين
السفير الإيراني السابق في بيروت يكشف عن اتصال نصرالله…
تعيين المغربي عمر هلال رئيساً مشاركاً لمنتدى المجلس الاقتصادي…
عبد اللطيف لوديي يُبرز طموح المملكة المغربية في إرساء…

فن وموسيقى

مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يُكرّم "الفتى الوسيم" أحمد عز…
هيفاء وهبي تعود إلى دراما رمضان بعد غياب 6 سنوات وتنتظر…
المغربية بسمة بوسيل تُشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة التي تستعد…
كاظم الساهر يتألق في مهرجان الغناء بالفصحى ويقدم ليلة…

أخبار النجوم

محمد فراج يكشف تفاصيل أحدث أعماله الفنية
أشرف عبدالباقي يعود للسينما بفيلم «مين يصدق» من إخراج…
أحمد فهمي ضيف شرف سينما 2024 بـ 3 أفلام
هند صبري تكشف سر نجاحها بعيداً عن منافسة النجوم

رياضة

محمد صلاح يتصدر ترتيب أفضل خمسة لاعبين أفارقة في…
كريستيانو رونالدو يعتلي صدارة هدافي دوري الأمم الأوروبية
محمد صلاح على رأس قائمة جوائز جلوب سوكر 2024
الهلال⁩ السعودي يتجاوز مانشستر يونايتد في تصنيف أندية العالم

صحة وتغذية

نظام غذائي يُساعد في تحسين صحة الدماغ والوظائف الإدراكية
الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء…
هل تختلف ساعات نوم الأطفال عند تغيير التوقيت بين…
أدوية علاج لمرض السكري قد تُقلل خطر الإصابة بحصوات…

الأخبار الأكثر قراءة