الرباط- المغرب اليوم
صدر مؤخرا، ضمن منشورات مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية، مؤلَّف جديد للباحث والمؤرخ التونسي علي الصالح مولى، عن دار المعرفة، الرباط، 2021.
انطلاقا من كون الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش أحد رواد المدرسة التاريخية المغاربية الراهنة لدراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ الذهنيات، قام الأستاذ علي الصالح مولى بدراسة في النسق الذي اعتمده من خلال دراسته، وهي دراسة نقدية ثرية تسعى إلى انفتاح القارئين، وبشكل نقدي، على النسق الفكري للأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش.
هكذا صدر مؤخرا، ضمن منشورات مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية مؤلف جديد للباحث والمؤرخ التونسي علي الصالح مولى، عن دار المعرفة، الرباط، 2021، معنون بــ: “من التاريخ المنسي إلى التاريخ العادل: دراسة في تجربة المؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش”. وعمد الكاتب في تقديمه إلى تبيان ماهية طرح الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش، وذلك بغية دراسة معمقة للأستاذ ومنهجه وإصداراته في بقية فصول الكتاب.
عقب التقديم العام الذي باشره الأستاذ علي الصالح موسى، يبدأ عملية التقديم النظري، فيستهلها بالحديث عن التاريخ الجديد، والإسهامات الفرنسية في تدشينه، وهنا الحديث عن مدرسة الحوليات، ومجهوداتها لمواجهة المقاربة الكلاسيكية في الكتابة التاريخية.
وفي هذا الإطار فقد أثرت المقاربات الجديدة في الكتابة التاريخية على الكتابة التاريخية العربية.. “هكذا نجد محاولات من طرف الأستاذين هشام جعيط وعبد الله العروي وغيرهم يدعون إلى القيام بالنقلة النوعية في الكتابة التاريخية. كل هذه المعالجة ستفضي إلى تساؤلات نقدية سيباشرها كل من الأستاذين الحبيب الجنحاني والأستاذ وجيه كوثراني؛ ما يحيلنا على أزمة الكتابة التاريخية التقليدية، معلنة في الوقت ذاته عن موضعة المنعرج الأكاديمي في الكتابة التاريخية العربية”.
هكذا، وبعد الاستهلال بالتاريخ الجديد وروافده وامتداداته في الكتابة التاريخية العربية، يثير الأستاذ علي الصالح مولى براعة الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش في هذا النسق الجديد للكتابة التاريخية، ببعديها المغاربي والأكاديمي، وذلك انطلاقا من اهتماماته في الكتابة التاريخية عن المغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط.
واستنتاجا لمجمل كتابات الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش، يرى الكاتب أن كتاباته الغزيرة ينتظمها مشروع متكامل “لا يهدف، كما يتداعى إلى ذهن القارئ المتعجل، أو كما تحيل عليه بعض عبارات بوتشيش المتواضعة، إلى ترميم التاريخ الوسيط أو سد الشغورات أو استكشاف الحلقات المفقودة منه”. مشروع بوتشيش، حسب الكاتب، ينهض على فكرة إعادة كتابة التاريخ الوسيط للغرب الإسلامي، وما يقتضيه ذلك من قطيعة مع مجمل المعقوليات والمسوغات التي دفعت المؤرخ التقليدي إلى حصر كتابة التاريخ في تاريخ السلطة والقوة والزعامة والمجد والبطولة.
هكذا، لم يكن استخدام الكاتب عبارة المشروع لوسم الاتجاه البحثي الذي تتحرك فيه كتابات بوتشيش من باب إلقاء الكلام على عواهنه. فالثابت، حسب الكاتب، “وجود إستراتيجية أكاديمية ينتظم داخلها هذا النوع من الأعمال”.
حسب الكاتب، فـ”إذا التقى الانتقاء بالسرد في ممارسة الكتابة التاريخية ألحقا بالتاريخ فنا، وبالمؤرخ له موضوعا، وبما أهمله أيضا، ضررا كبيرا”. من أجل ذلك، فضل الكاتب استخدام مصطلح القطيعة لنعت علاقة المشروع البحثي الذي تموقعت في قلبه كتابات الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش بما قبله من تقاليد بحثية.
وينهض مشروع القطيعة هذا على ركيزتين وأعمدة ساندة اخرى كثيرة. فأما الركيزة الأولى، “فمادرها على مستويين من البحث: يهتم المستوى الأول بإخراج المسكوت عنه من مهمل ومهمش ومنسي أحداثا وأفكارا وأفرادا وجماعات إلى دائرة الضوء باستخدام بدائل خبرية لمواجهة الشح الذي تبديه الإسطوغرافيا العربية الوسيطية من ناحية، والحيف الذي يلوح في عدد غير قليل من الوثائق المسيحية/اللاتينية من ناحية ثانية. ويهتم المستوى الثاني بالجانب التركيبيي لصياغة قراءة تاريخية شمولية. والقراءة تتجاوز السرد إلى الفهم والتفسير والتفكيك والعقلنة. وكل ذلك لا يكون إلا بتضافر علوم وتقنيات مساعدة. ولا ريب أن علمي الاجتماع والنفس من أشد العلوم تداخلا مع علم التاريخ في مشروع بوتشيش”.
بينما الركيزة الثانية التي يقوم عليها هذا المشروع هي القيمة. فالقيمة، في السياق الذي يقترحه هذا الكتاب، “هي على نحو من الأنحاء المقابل النوعي للسرد؛ فإذا كان السرد يجعل من المؤرخ مجرد ناقل للحقيقة الحدثية فإن القيمة تجعل من المؤرخ مسؤولا عما يكتب وعمن يكتب. وللمسؤولية ههنا بعد أخلاقي إضافة إلى بعدها الأكاديمي المعروف”.
كل ذلك، يُلزم الباحث بالعمل وفق نزعة مادية/ماركسية تعنى بأنماط الإنتاج، قوى الإنتاج، علاقات الإنتاج، البنى التحتية والفوقية. فقد كانت المدرسة الماركسية في التاريخ أول ما اهتمت بالجانب المهمش في التاريخ، انطلاقا من كون عملها انصب على التاريخ الاجتماعي والاقتصادي.
هكذا، حاول الباحث خلال المدخل تبيان التجريد الذي مارسه الأستاذ القادري بوتشيش على الكتابة التاريخية الكلاسيكية، فقد كان أحد أقطاب التاريخ الجديد، الذي بقدر ما يعطي أهمية للهامش والمهمش، فإنه يعتمد على علوم أخرى من أجل ذلك.
لكن الكاتب لا يتعاطى مع إشكالية التأريخ للهامش والمهمش بشكل عابر.. هو -أي الكاتب- يمضي نحو إبراز العوائق التقنية، حيث يرصد من خلال ذلك التحديات التي تواجه التأريخ للهامش والمهمش. فـ”الكتابة في التاريخ من أسفل تقضي بتحويل نظر المؤرخ من الوثيقة الرسمية التي دونت السير المرغوب فيها ضمن تصور وظيفي ونفعي ساد الاعتقاد في صوابه السياسي والعقائدي والسلالي إلى نوع آخر من الوثائق حفظت ما لم تهتم به الكتابة التقليدية أو رغبت في إتلافه”؛ فالمشكلة التي تصطدم بها الكتابة التاريخية الجديدة، حسب الكاتب، مشكلة وثائقية بامتياز.
هكذا يمضي الكاتب في دراسة أسلوب البحث الوثائقي في مشروع الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش، مع حرصه الشديد على تناول ضمور الوثائق التاريخية الخاصة بالتاريخ من أسفل. وفي هذا الصدد، عمد الكاتب إلى محاولة تبيان إشكالية توثيق تاريخ القاعدة التحتية للمجتمع، ما جعلها هامشا ومهمشا.
يتدارك الكاتب إشكالية التعامل مع التأريخ للهامش والمهمش من خلال تقديم بعض الحلول المقترحة للتعامل مع تاريخ الهامش والمهمش، وذلك من خلال المصادر الدفينة وإستراتيجية التوسعة؛ فيحاول معرفة منهج الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش في التعامل مع هكذا قضية عويصة؛ وكذا أشار إلى ماهية اعتماد الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش على تبيان المصادر الدفينة، فذكر أن بوتشيش اعتمد على طرح المنوني في تبيانها؛ الذي وصف ماهيتها كالتالي: “كتب الجغرافيا والرحلات، الموسوعات القديمة، مدونات النوازل الفقهية، مؤلفات البدع، بعض الشروحات للمتون الدراسية والمؤلفات المكتوبة خارج المغرب، دواورين الشعراء والكناشات، فضلا عن كتب المناقب والأنساب”.
فالنوازل الفقهية من الآفاق النوعية التي ارتداها بوتشيش.. ‘لقد وجد فيها ما يملأ الفراغات التي تركتها الإسطوغرافيا العربية. هكذا، فإن تيار الكتابة التجديدية الذي يعتبر الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش من أعلامه البارزين شرع، منذ سنوات، يوسع من دائرة اهتمامه بالنوازل الفقهية من جهة ما توفره من مادة غير فقهية للمرور بواسطتها إلى الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”. وأصبج بالإمكان اليوم الحصول على دراسات في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ الذهنيات.
هكذا ينتقل الكاتب إلى الكتابة الجديدة، في محاولة طرحها داخل إشكاليات العلم والتجاوز، حيث ينتقل بسلاسة للحديث عن العوائق المفهومية، في محاولة تكميلية/توفيقية بين العوائق المفهومية وما أورده سابقا بخصوص العوائق التقنية. فـ”رغم أن البحث في العوائق يحيل عادة على قضايا تتعلق بالمنهج والمادة وموضوع الدرس، وهذا معقول إلى حد بعيد، نظرا إلى كون المعارف لا تتطور إلا بالنجاح في تذليل هذا النوع من العوائق، لكن، حين يتعلق الأمر بعوائق تخص هوية العلم نفسه، تصبح المغامرة شديدة العسر، وتصبح الرهانات محفوفة بتحديات كبرى”. إن الكاتب يتحدث عن صعوبات تأسيس الحقل البحثي الموصوم بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ الذهنيات، وحسبه، هذا مطمح بوتشيش.. “إنه لا يباشر الصعوبات التي يفرزها الاشتغال على علم (المابعد) فقط، ولكنه يواجه أيضا صعوبات إنشاء العلم في الحد ذاته (الماقبل)”. هكذا قام الكاتب بمرافقة التجربة التأسيسية، وتبيان أسسها ومساراتها وأهدافها من خلال بعض النماذج البحثية التي اشتغل عليها.
أقدم الكاتب، عقب ذلك، على الانتقال من الحقيقة الوثائقية إلى الحقيقة التاريخية، وذلك يحمل بعدا نقديا كبيرا، لما يكتنه العملية من محاولة سبر أغوار العملية التوثيقية برمتها لبحث تاريخ الذين ظلوا في هامش الكتابة التاريخية الكلاسيكية. هكذا يعمل على تبيان عملية البحث في التاريخ بوصفها حدثا أكثر مما بوصفها وثيقة تمدنا بما يلزم؛ وهو في ذلك يعمل على تبيان دور الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش في هذه العملية، وهي عملية قائمة بالأساس على مقاربة تأويلية للحدث التاريخي، وللوثيقة بوصفها الشاهدة التي نقلته.
من أجل إبراز ما سبق، يشير الكاتب إلى اهتمام الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش بـ”الوثيقة في مختلف أنواعها، سواء منها الكتب المخطوطة، أو الوثائق والعقود، من بينها عقود النكاح والبيوع والأكرية والإجازات والشركة والصلح والجوائح وعقود الوصايا والأنساب والأحباس والصدقات والهبات، وكذا عقود الاستحقاق والغصب والتجريح والمحاجير؛ فضلا عن عقود إسلام بعض النصارى وعقود الدماء والسجلات، وهي جميعا تخص المعاملات”.
إضافة إلى دراسة مسارات تقعيد المعرفة التاريخية على غير الموروث المعرفي التقليدي، وبيان الصعوبات المنتصبة في وجه هذه التجربة الأكاديمية الرائدة، والرهانات المعقودة عليها، والتقنيات المعتمدة لإنجازها، فإن الكاتب، خلال محاولته النقدية، هدف إلى الوقوف على الجزء الآخر من مشروع الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش التاريخي المتمثل في استقراء المعطيات الحدثية القديمة استقراء قيميا.
هكذا يرى الكاتب أن “فلسفة -مع تحفظي على مصطلح فلسفة- الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش تحاول أن ترى أن الكتابة في تاريخ المنسيين ليست صناعة أكاديمية فقط يُرام منها التصحيح؛ إنها علامة وعي حاد بأن من أساسيات الكتابة التاريخية أن تكون كتابة عادلة لا تستثني حدثا أو طائفة أو حرفة، ولا تحقر أمرا، ولا تلغي حقيقة وإن لاحت بلا معنى”. ويرجح الكاتب أن خلف ذلك الوعي رغبة في إضفاء القيمة، بما هي حس تاريخي إنساني، على الكتابة التاريخية.
ومن أجل ذلك، عمد الكاتب إلى محورة هذا الفصل حول قضيتين هما: دراسة العلاقة المحتملة بين ما هو أكاديمي وما هو قيمي، بينما الثانية تتمثل في المعالجة التطبيقية التي نفذها الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش على الأقليات في الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط.
ففي كتابات الأستاذ بوتشيش، حسب الكاتب، “علامات كثيرة تفيد بانغراس هذا الأكاديمي في معترك القيم، وفي منطقة استكشاف البدائل. بينما المحور المتعلق بالأقليات يمكننا اعتباره أحد مراكز تاريخ الهامش والمهمش، وقد انتبه إليه المؤرخون الجدد نظرا لقدرتهم على ترميم التاريخ التقليدي ودوره في تشكيل مشهد تاريخ أفقي يساعد على قراءة الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الوسيطية قراءة نسقية.
قاد البحث في أسس الكتابة التاريخية وتقنياتها ومصادرها وتطبيقاتها إلى استنتاج مركزي، وهو أن ساكني التاريخ من أسفل هم تقريبا من يحركون التاريخ ويوجهونه. وساق البحث كذلك إلى جملة من الخلاصات الفرعية المبثوثة في تضاعيف ما حللناه؛ وما يهم، في هذا الفصل منها هو ذلك الجزء البحثي المتعلق باستثمار منتوج التاريخ الجديد في حقل القيم”.
لقد هدف الكاتب بيان إمكانية الالتقاء والافتراق بين مجالي التاريخ والقيم، وفي هذا الإطار عمل على محاولة استخراج مواطن الحرج التي قد يفهم منها أن المؤرخ، إذ يغوص في الشأن اليومي أو ينخرط في حوارات ثقافية وإيديولوجية، يفرط في عالمه الأكاديمي الحميم وينزاح عن الحرفية والحيادية.
لذا، انطلق الكاتب، في الفصل الرابع، للحديث عن بروز المؤرخ والمثقف من فرضيتين جوهرتين في طرحه، حسب رأيه، تتمثلان في:
إن الكتابة في الراهن تفرض على الباحث أن يكون جزءا منه، وإن جاهد نفسه لينفصل عنه حيادا وموضوعية.
إن الكتابة في القيمة كتابة في الالتزام.
هكذا، وإن جاء الكاتب بهاتين الفرضيتين، حسب رأيه لتوفير معقولية ما لهذا الفصل، فهو بذلك هدف من وراء النتائج التي توقعها إلى محاولة بناء ما يمكن تسميته مجال الأكاديمي-المثقف. وارتباطا بالأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش فقد موضع الكاتب بروز المثقف الأكاديمي بـ”أنسنة التاريخ”، إذ اعتبر أن أكثر ما جعل الأستاذ بوتشيش يخرج من مقاربته “عدم اطمئنانه إلى مستقبل العالم؛ فالنصوص الضامنة حقوق الإنسان اليوم، أو تلك المستلة من رحم التاريخ الشاهدة على كون الأمم، دون استثناء، عرفت في أزمانها القديمة عهودا وأحلافا برد المظالم وصون الكرامات لا تستطيع وحدها أن تبني عالما خيّرا”. لذلك ينتقل الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش من التاريخ القديم إلى ما يطلق عليه التاريخ الآني أو الراهن لتشريح بناه الثقافية والاقتصادية والعسكرية، وتأمل آثارها في العلاقات بين الدول والحضارات، والبحث عن الموانع الحائلة دون تحويل القيم الإنسانية التاريخية إلى محاضن تربوية.
يقوم الكاتب باستكمال العمل الذي باشره سابقا حول تاريخية الحوار بين الحضارات، فهو يركز على دور التاريخ في “الحوار بين الحضارات، وذلك سبيل لأخلقة العالم”.
هكذا يجعل الكاتب “أحداث 11 شتنبر 2001” حدثا رئيسيا في دراسة المسألة الأخلاقية والسلم القيمي الناشئين بعدهما. “والكتابة في أحداث الحادي عشر من شتنبر من أغزر الكتابات المهتمة بالعلاقات الدولية سواء في الجغرافيا السياسية أو القانون الدولي أو صدام الحضارات أو الإسلاموفوبيا والإرهاب”.
لذا، يعتبر الكاتب أن الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش رأى المثقف كمحرك عضوي للتاريخ، ومساهما في نحت منعرجاته الكبرى. فالأستاذ بوتشيش يرى أن للمؤرخ دورا إيتيقيا في تحديد ماهية المجتمع وعلاقاته الاجتماعية، ويضيف، حسب الكاتب دائما، ما يذهب إليه بعيدا وهو يستشهد ببيير بورديو، من أن “أقوال المثقفين تساهم في صنع التاريخ وفي تغيير التاريخ”. هكذا إذا يرى الأستاذ بوتشيش مركزية دور المؤرخ في الوجود.
واستهدف الكاتب، بعدما درس العلاقة الجدلية بين التاريخ الأكاديمي والتاريخ القيمي عند الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش من جهة، ومن جهة أخرى تمفصل المثقف ودوره في التاريخ، تسليط الضوء على فعل التأويل الذي يُمارسه المؤرخ بوتشيش على الوثائع التاريخية. وفي ذلك يدرس “معقولية هذا الاتجاه بالبحث الذي يقارب القضايا التاريخية عبر آلية سحب الواقعة من لحظتها الحدثية إلى زمنية مفارقة، ومحاولة إكسابها مضامين مستحدثة”. والكاتب يرى أن “التأويل هو السقف الأعلى والفلسفة الأوسع اللذين يستطيعان استيعاب مكونات مشروع بوتشيش التجديدي، ويدفعان به إلى الآفاق القصية، حيث تكون الكتابة العادلة كتابة في المعنى، وانتصارا للمؤرخ القارئ على المؤرخ السارد”.
في هذا الإطار، عمل الكاتب على استدعاء نماذج من الفعل التأويلي عند الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش والانطلاق منها لبيان الأفق الأكاديمي الذي يتحرك فيه أولا، ولمحاورته في مردودية هذا الاختيار وانعكاساته الثقافية ثانيا، وللنظر في وجاهة تأويل التاريخ عموما، وتاريخ القيم خصوصا.
هكذا ركز الاهتمام على ثلاثة مباحث كبرى رآها قادرة على استيفاء المطلوب وتوسيع شعاع مقاربة نسق الأستاذ بوتشيش في التاريخ صناعة وتأويلا ومقاصد. تتمثل هذه المباحث في: “التأويل مقدمات أدوات ومقاصد، تأويل القيم وبناء النسق الثقافي الهوياتي، معقولية التأويل وأبعاده وحدوده”.
رغم دعاوى التأويل هذه التي أطلقها الكاتب من خلال النسق الذي باشره الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش، إلا أنه يلح على كون “المؤوِّل ليس طليق اليد فيفعل ما يشاء في النص التاريخي؛ فالانفلات من مضايق الكتابة التاريخية التقليدية لا يعطي المؤرخ المجدد الحرية الكاملة. فلو حصل ذلك لسقط التاريخ مرة أخرى في غواية التجديد بعد أن كان تحت سلطان القديم. ويمكن تعيين الحدود التي قدر بوتشيش أنها مانعة التأويل من أن يكون نشاطا عشوائيا منفلتا في المحددات الأربعة التالية: لا لتغييب سياق النص، لا لإسقاط الماضي على الحاضر، لا لاعتماد قراءة مسنودة بالأحكام المسبقة، لا للإسقاط الإيديولوجي”.
هكذا يعتبر الكاتب التأويل في الكتابة التاريخية مدخلا للنقد الذاتي، كافة أنواع النقد الذاتي. هذا النقد يجب أن يرصد المنزلقات الأنطولوجية عندنا وعند الآخر بغية الخروج بمقاربة علمية جديدة للتعامل مع الإنسان والوجود بشكل معقلن.
لكن عملية التأويل ليست عملية بسيطة كما يعتقد البعض، بل حتى رصد عملية التأويل عملية شاقة. هكذا يرى الكاتب وجوب “تأويل التاريخ تأويلا قيميا من أجل النظر في معقوليته وغائيته والمخاطر التي تتربص بعمليات ترحيل المادة التاريخية من سياقها الذي نشأت فيه إلى سياق المؤوِّل المفارق له زمانا ومكانا. ومن المهم في هذا المسعى استحضار مصطلحات من حقل الهرمنوطيقا يقدر المؤلف أنها قادرة على المساعدة لوضع المنجز التأويلي التاريخي في إطاره وهي فائض المعنى، وحدود التأويل، وصراع التأويلات تلك التي أجرى مضامينها في كثير من مقاطع بحثه”. والغرض من ذلك الدفع بالاستنتاجات التأليفية إلى كينونتها تحت أضواء الهرمنوطيقا حتى يُضفى عليها شيء من الضبط العلمي المطلوب في هذا المستوى من تقدم البحث.
إن الكاتب يشير إلى كون تأويل التاريخ، بالمعنى الذي حاول بلورته، كـ”أنما هو اليوم، مع شيء من المبالغة، الفريضة الغائبة التي ينبغي أن تتجه إليها عناية المؤرخ العربي المجدد. وما ينهض به بوتشيش في هذا الصدد يحفز الكاتب على القول دون مواربة أنه ينتظر ميلاد ما يصطلح عليه تاريخ القيمة”.
بينما، خصص الكاتب الفصل السادس والأخير من كتابه لتبيان أهمية الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش في حقل التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ الذهنيات، وذلك عبر إجراء حوار مع الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش، متيحا للأخير فرصة الإجابة عن التساؤلات بوضع نقاش معرفي يمكن القارئ من الإلمام بميكانزمات الكتابة التاريخية الآنية، وكذا الإلمام بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ الذهنيات.
يمكننا القول إن الكاتب استفاض في طرحه لتبيان أوجه الكمال والقصور في النسق الذي اتبعه المؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش، وكان القصور عنده اكتمالا، أي الحديث عن القيمة بمعزل عن التاريخ الأكاديمي، فالتبشير بميلاد ما يسمى التاريخ القيمي؛ وهو في ذلك يستحضر الأساس التاريخي الذي قام عليه ديالكتيك العلوم الإنسانية والاجتماعية والمتمثل في إشكالية الموضوعية لدى العلوم الإنسانية.. إنه، ومن خلال طرحه، يضع الذات كجزء أساسي مرتبط بدراسة الموضوع، والموضوع هنا موضوع تاريخي آني منفتح على بقية العلوم المجاورة في إطار انفتاح التاريخ نفسه، من خلال الأنساق الجديدة في الكتابة التاريخية، على بقية العلوم.
قد يهمك ايضًا:
العثور على أقدم ضحية في التاريخ لهجوم سمك القرش تعود إلى 3000 عام
التاريخ المصري المعاصر في رحلات مغربية