القاهرة - أ ش أ
صدر عن المجلس الأعلى للثقافة، بالقاهرة كتاب الناقد جمال محمد عطا "الجمالي والأيديولوجي دراسة في تشكيل المعنى الشعري وآليات القراءة" ضمن إصدارات الكتاب الأول. والكتاب محاولة جادة لخلخلة الأنساق الثابتة في قراءة الشعر، فمن عجز بيت المتنبي الذي يقول فيه "أنام ملء جفوني عن شواردها...ويسهر الخلق من جراها ويختصم". يبدأ المؤلف قراءته نافيًا أن يكون الشاعر هو الطرف الوحيد الذي يفرغ لنومه مُسْتَلِّذًا بما يخلقه من حالة حوار وجدال، وقبلهما معاناة في استكناه ما يقصده. ويرد المؤلف أنّ اعتداد المتنبي هو ما دفعه إلى هذا التوهُّم، الذي نفاه الشعراء أنفسهم، باعترافاتهم بحجم المعاناة التي تعتريهم من أجل الوقوف على معنى شعري جديد، على الأقل يُرضي نرجسيتهم، مُدلِّلاً بنماذج كامرئ القيس الذي يدفع القصائد عنه دفعًا؛ حتي يصل لما ينتخبه، مرورًا بالبحتري الذي يُعانى مرّ المعاناة من أجل أن يقفَ على قصيدة تتواءم مع صفات ممدوحه، إلى عُدي بن قراع الذي يبيت ليله ساهرًا – عكس المتنبي – ليقوّم قصيدته، وسويد بن الكراع الذي يَهيمُ في وقت السَحَر مُطَارِدًا القوافي الشَّارِدة التي تستعصي عليه، فيردّها بعد جهد جهيد. ويشير الكاتب إلى أنَّ ثمَّة صراعاتٍ ذات طبيعة نفسية واجتماعية تأخذ في الظهور، قبل عملية الإبداع الشعري، وقد حدّدها في عقبتين الأولى اللغة المألوفة ، التي يسعى الشاعر لتجاوزها إلى لغةٍ أخرى مميّزة تَحْمِلُ ضمن ما تحمل قيمًا مخالفة لما يتمثَّله. والثانية تتمثَّلُ في التقاليد الفنية، والتي يُعَدُّ التمَرًّدُ عليها تمردًا على الجماعة وعلى ذائقتها الجمالية. ومن ثم لا يجد الشاعر مناصًا من إعادة إنتاجِ اللغةِ وتَشْكِيلها دون الإغضاء من أن "اللغة تَخْرجُ من رحم المجتمع" لكن بمعانٍ جديدة، وسياقات مغايرة لمعانيها المألوفة، قد تتفق أو تخالف عما ما كانت عليه من قبل. وبهذه اللغة الجديدة يقفُ الشعر محتجًا ضدَّ كل المعاني التي تُشكِّلنا وتُشكِّل ذواتنا، أو حتى الوقوف ضد بعضها ليحرّرنا من أَسْرها، وبها يكتسب الشعر منحى جديدًا، يكون فيه بمثابة النبراس الذي يضيء لنا كل العتمة التي خَلَقَتها وشوّهتها الخطابات القمعية. يأتي الكتاب في قسميْن، الأوّل تنظيري، وفيه تتتبع المؤلف رحلة المعنى في الكتب النقدية القديمة واستعرض آراء النقاد في طبيعة المعاني، وآليات إنتاجها. وقد بدأ فصله بخللة عبارة الجاحظ "المعاني مطروحة في الطريق" متساءلاً عن مصدر هذه المعاني وحقيقتها، وهو السؤال الذي لم يُجبْ عنه الجاحظ، فعرج الباحث إلى تتبُّع الإجابة عن السؤال عبر النظريات الاجتماعية أو ما يعرف بأركولوجيا المعرفة (من هربرت بلومر في صياغته للفرضيات التفاعلية، وهوسرل في الفلسفة الظاهراتية، واعتباره الإنسان سابقًا لوجوده، وبذلك أكدّ على أن الذَّات الفردية هي مصدر وأصل كل معنى، إلى النظريات البنيوية وما أثارته من قضايا، خاصة دراستهم عن اللغة فصار المعني نتاج أنساق لغوية / بُنى كامنة) وقد انتهت جميعها كما يؤكد المؤلف إلى موقفين: الأول يؤكد فاعلية الذات في إنتاجها لمعانيها وتشكيلها لعالمها، والثاني يقرُّ بأنَّ الفردَ والذَّات واللغة مجرد نِتَاج لبنية كامنة. ثم عرج لدراسة علاقة الأيديولوجيا بالمعاني العامة ورأى أن اللغة هي مستودع الأيديولوجيا، التي تلقي بظلالها على المعاني المطروحة في الواقع، مما يعني أن لها سلطةً في التنظيم الاجتماعي وتشكيل الأفراد، وبالتالي فإن مقاومة الأيديولوجيا أو على الأقل تنقيتها من الشوائب، لا يتأتي إلا بتشكيل اللغة مرَّة أخرى، كما أن الشكلَ هو الذي يقاوم الأيديولوجيا وليس المضامين كما يعتقد كثيرون. وعبر قراءة واعية لتراثنا الشعري والنقدي معًا، راحَ يبحث عن عملية إنتاج المعني الشعري منذ الشعر الجاهلي، وقطعَ بأن العرب حتى العصر الجاهلى لم تكن لديهم نظرية منهجية في نقد الشعر، وإنما كانوا معتمدين على الذائقة والتي انعكست على أحكامهم التي جاءت انطباعية (مرحلة أم جندب). لكن هذه الرؤية تغيَّرت مع "ابن سلام الجمحي" في "طبقات فحول الشعراء". أما بوازغ المنهجية فقد ظهرت بوادرها على يد "قدامه ابن جعفر" الذي تأثر بكتابات أرسطو وعلى الأخص "فن الشعر" حيث اهتم بالشكل والمبنى، وهو ما تطوَّر عند ابن طباطبا العلوي في "عيار الشعر"، وحازم القرطاجني. وقد خَلُصَ إلى أن عملية الإبداع الشعري وإنتاج المعنى عند الشاعر القديم كانت تتم عبر مرحلتين، هما الفكر والصياغة، ورأى أن المعنى الشعري يُخْلَقُ بواسطة النَّص ومع النص، وليس قبل كما ظنَّ النقاد. كما أن البناء القديم (عمود الشعر) قيّد المعاني، فصارت حاصل تراكم معاني كل بيت على حدة، فضلاً على أنها صارت أحادية. لكن النقلة النوعية في هضم المعاني وتحريرها جاءت على يد الشعر الحديث، وإن انقسمت نظرتهم إلى تياريْن أحدهما يسعى إلى ترويض الشكل مع تعدُّد الرؤية وقد مثّل له (نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور وحجازي وأمل دنقل ومحمود درويش وسميح القاسم) والتيار الثاني سعى إلى تحطيم الشكل مع إرجاء المعني وقد مثّل له (أدونيس ويوسف الخال، ونوري الجرَّاح، وأمجد ناصر وحلمي سالم، ورفعت سلام، وحسن طلب وعبد المنعم رمضان) العجيب أن التيارين خرجا من نفس عباءة الظروف السياسية والاجتماعية وأيضًا الأيديولوجية وفوق هذا تأثُّرهم بالمنجز الغربي وما استحدثته الحضارة الغربية التي انبهروا بها أما القسم الثاني فقد قصره على نص أمل دنقل "لعبة النهاية" (بتعدّد نسخه: الخطية، والمكتوبة)؛ لينتهي في دراسة فنيّة معتمدة على منهج إجرائي، لم يَحِدْ عنه وهو محتوى الشكل. أن أمل دنقل قدّم لنا معنى مغايرًا للموت، خاصة موت الذات. حيث وقف أمل صُلبًا أمام الموت لا يهابه رغم أحابيله، فكان هادئًا مطمئنًا، بل والأدهى أنه سَعَى إلى ترويض الموت وأنسنته. وفي ظل هذه الرؤية التي خرج بها من تحليله لسياق قصيدة أمل عبر (الشكل الطباعي، التراكيب، الإيقاع، المجاز، التراث، البناء)، بَحَثَ أشكال الغياب والفِقْدِ، التي شَعَرَ بها أمل في حياته فهذا الفقد المتواصل وضعه في مواجهة دائمة مع الموت. بل أن ثالوثه (الخمر والبحر والصبر) فشل في تقليل حدة اغترابه، ومن ثمّ كان الاستحضار المتوالي لصورة الموت، هي المؤنس له لئلا يكون آخر أو (الهُم/ they) بتعبير هيدجر، فيريد ذاته، حتى لو نُظِرَ لهذه الرؤية الموغلة في الخصوصية على أنها رؤية متشائمة، لكن المُدَقِّق يعرف أن هذه الرؤية تحمل بعُدًا فلسفيًا غاية في الأهمية لمعرفة فلسفة أمل في الحياة ونقيضها / الموت، حيث تعدُّ تمسُّكًا بالحياة، فالشخص الذي ينصرف عن الموت للاستمتاع بالحياة، إنما في الحقيقة ينصرف عن الحياة نفسها، كما يُقرُّ الفلاسفة أنفسهم، ومن ثم رادف الموت لمفاهيم جمّة لدى أمل، فالموت صار"حرية ونافذة تفتح عالم الإمكانات"، وأيضًا "نجاة وفرارًا"من الموت في الحياة، وعلى الجملة استبدل أمل بهذه الرؤية المغايرة التي ولدتها معاني النص الجديدة، دلالات من قبيل (الاتصال، الإمكان، الوجود، اللقاء والأُنس) مقابل دلالات زحزحتها رؤية أمل مثل (الانفصال، السلب، العدم، الغياب والفِقْد) وعلى النقيض من نوم المتنبي "ملء الجفون" مُلقيًا بلعبته إلى القارئ؛ ليسهر، فإن أمل لم ينم إلا بعد مكابدة ومجاهدة، وصراع مرير (نفسيًا واجتماعيًا ولغويًّا، وتمردّا على التقاليد)؛ ليشكِّلَ إبداعًا، يؤرِّق جفن القاري في استكشاف جمالياته ودلالاته المغايرة لسياق المعاني المألوفة، ويحدد موقفه في هذه اللعبة الثنائية النص / الحياة، ليكتشف دورًا ووظائف جديدة ترقى به إلى استحقاق أن يحيا. وبعد هذا هل يحق لنا أن نركن إلى مقولة الجاحظ "المعاني مطروحة في الطرقات" كما سبق أن رددها النقاد، أم نتفق مع الباحث في أنها فقدت مصداقيتها بفعل الزمن والتطور التاريخي، خاصة أن المعاني في ظل التيارات الأيديولوجية المتباينة والمتصارعه شابتها أدران السلطة، فحادت عن هدفها إلى خدمة مصالح فئوية، ونخبوية فردية.