الرياض - المغرب اليوم
يتمنى المثقفون دائمًا وقتًا ثمينًا يقضونه مع الكتاب، أو فراغاً من زحمة الأعمال وصخب الحياة يؤدون فيه الواجبات المعلّقة، أو يستكملون المشاريع المؤجلة. فكثيرٌ من الأفكار بحاجة إلى تفرغ من هموم الزمان، وثمة كتبِ انحبست على الأرفف، علاها الغبار ولم تطلها الأيدي، تتطلع إلى فسحة من الوقت لتفيض ضياءً قبل أن يطويها النسيان؛ أيها المثقفون؛ هذا الوباء قد غشيكم، فاتخذوه جملاً، يوصّلكم نحو أعزّ أحلامكم: العزلة والفراغ؛ فالعزلة القسرية في ظل جائحة «كورونا» يمكن أن تفجّر أنهاراً من التأمل والإبداع، وتمنح الإنسان واحة لاستراحة الروح، على نحو ما يقوله إرنست همنغواي: «العزلة وطنٌ للأرواح المتعبة»، وهي مناسبة نادرة للتفكير والتأمل، كما يقول دستويفسكي: «العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله».
قديماً، أفرد أبو سليمان الخطابي (931 – 998 ميلادية) الذي عاش في مدينة «بست» في ولاية هلمند بأفغانستان في عصر الدولة العباسية، كتاباً سماه «العزلة» (حققه ياسين السواس)، فيه دعوة إلى العزلة عن الناس وذكر فضائلها، والإقلال من الصحاب، ويورد في ذلك شعراً لسفيان الثوري (716 – 777 ميلادية)، يقول فيه:
ما العيشُ إلا القفلُ والمفتاحُ - وغرفة تصفقها الرياحُ - لا صخبٌ فيها ولا صياحُ. كما يورد لابن الرومي، أبياتاً، منها: عدوّك من صديقك مستفادُ - فلا تستكثرن من الصحابِ. أما أبو حامد محمد الغزالي (1058 - 1111 ميلادية)، الذي اعتزل الناس أحد عشر عاماً ألفّ خلالها كتابه الأهم «إحياء علوم الدين»، فقد خصص في هذا الكتاب فصلاً بعنوان «العزلة». الفيلسوف والشاعر أبو العلاء المعري (973 – 1058 ميلادية)، حبسه العمى مكرهاً وحبس نفسه في البيت مختاراً، فسُمّي «رهين المحبسين»، وظلّ ينظر إلى العالم برؤية فلسفية وجدانية، وهو القائل: أُولو الفضلِ، في أوطانهم، غرباءُ - تشِذّ وتنأى عنهمُ القُربَاءُ. هل تسبب العزلة الضجر؟ محمود درويش، يجيب:
«أمَّا أنا... فإنني أدمنتُ العُزلَة، ربَّيتُها وعقدتُ صداقة حميمة معها، العُزلَة هي أحدُ الاختِباراتِ الكُبرى، لقُدرة المَرءِ على التماسُك. وطَرْدُ الضَّجَرَ هوَ أيضاً قُوة روحيَّة عالِية جِداً».
هنا مثقفون سعوديون يتحدثون لـ«الشرق الأوسط» عن تجاربهم في ظلّ الحَجْر الصحي الإلزامي.
- إبراهيم زولي (روائي): لستُ وحدي... المعري معي
هذه العزلة تربي آلامي، كسيدة بيت مجتهدة.
الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في كتابه الأشهر «جماليات المكان»، ترجمة غالب هلسا، يقول: «البيت ركننا في العالم، إنه وكما قيل مراراً، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى».
وبهذه المناسبة فهذا المفكر لا يفرّق في طرحه اللافت عن المكان، بين بيت غني وبيت فقير.
أيها الشاعر، ها هو العالم يخرج دائخاً من غفوته، وتبدأ فوضى النهايات، عالم لا وقت لديه لغد أبهى، لا وقت لديه لأراضٍ يؤرخ أخاديدها الاخضرار.
لا تهادن، ولا تسأل كيف تتلعثم زرقة البحر، اكتب فقط، اكتب عن المكائد، عن العتمة الأزلية، عن سواحل سادرة في عطشها، عن مدن تقارع الخيبة عزلاء، عن صحار تتعقّبنا بخطوات ثقيلة، عن امرأة يحاصرها الشغف والنسيان.
اكتب قبل أن تبدأ العاصفة.
بمجرد أن تذكر كلمة عزلة، يتبادر إلى الذهن الأدباء والشعراء وبعض الصالحين الذين اعتزلوا الناس، ولعل أشهر هؤلاء في تراثنا العربي، أبو العلاء المعري (973 - 1057م) هو أول من يقفز للذاكرة، ذلك الشاعر والفيلسوف الذي أقام في بيته طواعية إلى أن توفاه الله، ومن خلال تلك العزلة ألّف عدداً من الكتب التي أضحت من ذخائر الأدب العربي؛ مثل كتاب «رسالة الغفران»، و«سقط الزند»، و«لزوم ما لا يلزم»، ولم تمنعه محنة العمى، ومكوثه في البيت من أن يرى ببصيرته ما لا تراه آلاف العيون.
وحديثاً، كان الروائي المصري الكبير ألبير قصيري (1913 - 2008م) صاحب رواية «شحاذون ونبلاء»، الذي لزم غرفة في أحد الفنادق الباريسية من عام 1945 حتى وفاته في 2008. وقدم خلال اعتكافه الطوعي عدداً من الأعمال الأدبية، لعل آخرها «ألوان العار»، الذي ترجمته منار رشدي أنور، وصدر في القاهرة، عن المركز القومي للترجمة، وحصد عدداً من الجوائز، أهمها جائزة الأكاديمية الفرنسية الفرنكوفونية.
واليوم مع هذه الجائحة العالمية أكثر من نصف سكان العالم قاموا باجتراح العزلة، ومارسوا عوالمها، وأصبحت إقامتهم في منازلهم إقامة جبرية، خوفاً من تفشي هذا الوباء، ولم تعد العزلة والاعتكاف داخل أسوار المنازل حكراً على المثقفين والفنانين الذين كانوا يقومون بذلك بغية إنجاز عمل فني أو إبداعي بعيداً عن ضجيج العالم، وضوضاء الأمكنة. هذه العزلة ليست خياراً شخصياً، إنها ضرورة حتى لا ينتهي الكون، ويموت الناس نتيجة ذلك.
كثير من المحللين والمفكرين، توقعوا أن يشهد العالم حرباً عسكرية شاملة، أو اقتصادية، أو إلكترونية، أو نزاعاً على المياه، بيد أننا جوبهنا بعدو خفي اسمه فيروس «كورونا»، لم يستعد له أحد، ووقفت أعتى الدول عاجزة عن مواجهته.
إن ما يُحمد لهذا الفيروس أنه وحّد العالم، وأثبت أننا في مشارق الأرض ومغاربها، إخوة في الإنسانية، وسخر من كل خلافاتنا القومية والدينية والإثنية، وبالعودة لتاريخ الأوبئة يبشرنا أن «كوفيد – 19» ليس الأسوأ حتى الآن، ففي القرن السادس الميلادي مات بسبب الطاعون نحو 50 مليون شخص، ما يعادل نصف سكان العالم آنذاك، وفي القرن الرابع عشر قضى الطاعون الأسود على 200 مليون، وفي عام 1918م أدت الإنفلونزا الإسبانية إلى وفاة نحو 50 مليون إنسان من مختلف أنحاء العالم.
ما يظهر لكثير من المراقبين أن العالم يشهد تحولات نوعية على مستوى الدول والأفراد، فالعولمة التي دعت العالم إلى فتح حدوده، وإلغاء الحواجز أمام الاقتصاد، والسماح بحرية التجارة والتنقل، يجيء فيروس «كورونا» ليقلب هذه الفكرة رأساً على عقب، ويوجّه إليها ضربة موجعة، ما جعل أغلب الدول تعود لإقفال حدودها، والمدن لغلق أسوارها، والبيوت أوصدت أبوابها.
على المستوى الشخصي فأنا رجل لا أحب الخروج كثيراً.
البيت ميلادي - وسقف العمر- صوت الصرخة الأولى - انتظار العائدين.
وأؤمن بمقولة جان بول سارتر: «إذا كنت تشعر بالوحدة عندما تكون وحدك، فأنت في صحبة سيئة».
ومن حسنات الإقامة في المنزل أنني أعدت ترتيب مكتبتي، والتي كانت أمنية مؤجلة منذ زمن ليس بالقريب. ومن الطريف أنني وجدت كتباً كانت في الصفوف الخلفية، ولم أكن أشاهدها، فكنت أشتري نسخاً ثانية منها دون أن أدري.
قمت في هذه الأيام بوضع كتب في غرفة النوم، وأخرى في المجلس، وبعض الكتب في الصالة حتى تكون حرساً شخصياً من الوحشة.
هكذا- يذرّع الطرقات بلا أصدقاء- كان كلما تقدم خطوة للباب- نهرته العزلة: لا تتأخر.
ليس سوى العزلة التي لا نأثم من سرقة ثمرها. وحسب توصيف الروائي المجري بيلا هامفاش، أنت تتعرف في البيت على العالم، وفي السفر على نفسك.
- جبير المليحان (قاص): أنا مستمتع بوقتي بالكامل
عند اجتياح «كورونا» العالم، أدركنا أنها جائحة لا تميّز بين البشر؛ لا في الجنسية أو المذهب أو اللون أو المكان. كان لزاماً علينا -في أسرتي- أن نتابع تعليمات الجهات الأمنية والصحية في بلادنا.
ونحن نرى انتشار هذا الوباء بشكل سريع في دول تهاونت في بداية الأمر، حتى تفاقم وانتشر في بلداتها بشكل مخيف، كانت الطمأنينة تسكن نفوسنا بصدور التعليمات والقيود التي فُرضت من أجل إنسان بلدنا. وكنا سعداء جداً للخطوات الدقيقة والسريعة التي تُتخذ لحماية سلامة المواطن والمقيم. كان التزامنا بكل تعليماتٍ تصدر انطلاقاً من تحمل مسؤوليتنا، وهو ما نستطيع تقديمه. وقد اتخذنا عدة خطوات صارمة وطبّقناها على أفراد الأسرة، وأستطيع القول إننا -حتى الآن- قد هزمنا هذا الوباء في بيئتنا: بيتنا بالذات.
كانت خطواتنا هي، تتمثل في البقاء في البيت وعدم الخروج أو استقبال أي شخص آخر، كانت مؤونتنا تصل إلينا عبر مندوب يصل إلى باب البيت، ونستلم منه المشتريات، ثمّ نعقمها.
قاومنا الرغبات المسائية في طلب الأكل الجاهز من المطاعم، وأصبحنا نصنع خبزنا ووجباتنا في المنزل، لي ولدان كل منهما يسكن في مكان منفصل، أصبح شمل الأسرة يلتئم يومياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
أصدقاء الحرف والأدب، وغيرهم، كنا نجتمع في مقهى بالدمام مرّة كلّ أسبوع، نتحدث في الكتب التي قرأناها، وأحياناً نناقش فيلماً سينمائياً شاهدناه في بيوتنا، وكانت لقاءاتنا متواصلة لا تتوقف منذ سنوات إلا قليلاً، إلا أنه بعد جائحة «كورونا» واصلنا الاجتماع -حتى بعد حظر التجول- لكننا نجتمع بالفيديو ونتحدث من بيوتنا، كأننا في المقهى.
بالنسبة لي فقد هزمتُ بعض الكسل والتأجيل الذي يلازمني، فقد صنّفت مكتبتي في برنامج «إكسل»، وتخلصت من الكتب الزائدة والمكررة التي تملأ الرفوف. كما وضعت جدولاً للقراءة، وآخر للكتابة. وأنا مستمتع بوقتي بالكامل.
وكمواطن قبل أن أكون مثقفاً أشعر بعميق الامتنان لكل العاملين لنجاتنا من هذا الوباء، خصوصاً الجهات الحكومية؛ الأمنية والصحية والتجارية والبلديات، حيث يناضل فيها نخبة من نساء ورجال البلد ويرابطون مضحّين بوقتهم من أجل سلامة الجميع.
- د.عبد الله الحيدري (نائب رئيس مجلس إدارة جمعية الأدب العربي): لزمت المكتبة طوال الوقت
هي تجربة ثرية بلا شك، وتجلى فيها عدد من الوزارات والسفارات التي اتخذت قرارات سريعة ومواكبة للحدث جعلت المواطن والمقيم ينظر بفخر وزهو لإدارة المملكة العربية لهذه الأزمة بحنكة واقتدار.
لقد أدركنا في ظل هذه الأزمة نظرة العديد من الوزارات المستقبلية التي أنشأت منظومة تقنية متكاملة، وعلى رأسها وزارة الداخلية ووزارة العدل والجامعات، إذ خدمت المواطن وهو في بيته من خلال تطبيقات فعّالة خففت من آثار الأزمة وعوضت عن حظر التجول الجزئي. وأما على الصعيد الشخصي فمن حُسن الحظ أنني في الغالب أحب البيت والجلوس في المكتبة وليس لي مشاوير إلا للعمل ونحوه؛ ومن هنا فقد لزمت المكتبة طوال الوقت، وجدّدت الصِّلة بالقراءة الجادة، وتواصلت مع طلابي عبر عدد من البرامج مثل: «زوم» و«بيرسكوب» و«تلغرام»، فدرّستهم وناقشتهم كأننا في القاعة الحقيقية ولله الحمد، وأظن أن التعليم الجامعي لم يتضرر كثيراً كما هو حال التعليم العام خصوصاً الابتدائي.
- عبد اللطيف المبارك (شاعر): يوم خدعتُ العزل الصحي
هناك محاولة لخداع العزل الصحي وتحويله إلى عزلة. بتلك التاء المربوطة سأبدأ قولي بأننا نمر بحالة استثنائية لا يمكن للإيجابيين إلا رؤيتها كفرصة يجب علينا أن نستغلها. هنا نحن أمام عزل صحي إجباري ليس فقط لأن الحكومات أمرت به بل لأداء واجبنا الاجتماعي ومسؤوليتنا تجاه أحبابنا ومن يقاسموننا الحياة في هذا الوطن.
كيف أقضي ليالي الحَجْر؟
ليس هناك جواب دقيق سوى أنني أحاول أن أهرب بكل ما أستطيع من قوة ذهنية، الهروب من خلال كتاب تلمع فكرته الجوهرية في آخر صفحة، الهروب من خلال فيلم ينتصر فيه البطل، الهروب إلى شوارع الذكريات الممتدة في فضاء صمتي، والكتابة عن كل شيء ليس في متناول الفيروسات.
نعم العالم قرر أن يأخذ قسطاً من الراحة، علينا نحن المهووسين بالإنتاج أن نتوقف قليلاً، أن نمعن النظر في كل شيءٍ أنجزناه من قبل، أن ننتبه لكل فرصة فوّتناها، أن نسأل: هل نسينا بيوتنا في رحلة الركض المحموم نحو النجاح الذي نظن؟
أظن أنني في هذا العزل أسأل الأسئلة الأولى مرة أخرى ولكن هذه المرة بشكل جدي وليس لكتابة قصيدة جيدة، أسأل من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وماذا يجب عليّ عمله؟ وكيف؟
يحزنني أني لست قادراً على فعل أي شيءٍ سوى بقائي في البيت، لست ممرضاً ولا منظماً لحركة السير، لست عامل تنظيف وتعقيم يستطيع أن ينفع في هذه اللحظة، ولا حتى موظف توصيل يُدخل السرور في قلوب المعزولين. مجرد شاعر يتساءل عن صحّة كلمة «جائحة» وهل هناك مفردة أفضل لوصف هذا الوباء العالمي؟
قد يهمك ايضا :
شاهد: "كورونا" يضع العمال الفلسطينيين بين سندان الإصابة والتخلي عن قوت يومهم