الرئيسية » تحقيقات
"اغتصاب الأطفال"

الرباط _ المغرب اليوم

"ستْر الفضيحة"، وصارت تفاصيل الجرائم الشنيعة التي تطال الأطفال الأبرياء تُسرَد على ألسن ذويهم أمام كاميرات وسائل الإعلام وبوجوه مكشوفة، وشجّع فضحُ هذه الجرائم القضاءَ على التشدد مع الجناة رغم بروز حالات تساهل بين الفينة والأخرى.

وفي غمرة توسع دائرة الضوء المسلط على جرائم اغتصاب الأطفال في المغرب، فإن موجة الاستنكار والتنديد والمواكَبة التي تعقُبها، سواء من طرف وسائل الإعلام أو من طرف جمعيات المجتمع المدني وعموم الرأي العام، سرعان ما تخبو عند اعتقال الجاني وإيداعه السجن، ولا يُلتفتُ بعدها إلى الضحية التي تُترك في غالب الأحيان تواجه مصيرها لوحدها دون مساعدة، رغم أن الجروح النفسية التي يخلّفها الاغتصاب قد لا تندمل إذا لم يتبع الجريمةَ دعمٌ نفسي.

يتّضح من خلال الشهادات التي استقيناها في هذا الاستطلاع من أولياء أطفال كانوا ضحايا جرائم الاغتصاب، ومن أطباء نفسيين ومساعدين اجتماعيين وفاعلين جمعويين، أن نسبة كبيرة من الأطفال ضحايا العنف الجنسي لا يتلقّون أيّ رعاية نفسية، رغم الجهود التي تبذلها الدولة في مجال حماية الطفولة. وسنقدّم مثاليْن ضمن أمثلة كثيرة لأطفال انتُهكتْ حُرمة أجسادهم ولم تُداوَ جراحهم النفسية، تجسّدهما ضحى ومريم، طفلتان صغيرتان اغتُصبتا قبل نحو أربعة شهور ولم تحظيا بأي دعم نفسي.

مأساة ضحى

بدأنا رحلة البحث في هذا الموضوع من قلب المدينة القديمة بالعرائش؛ هناك، داخل بيت بسيط تعيش طفلة صغيرة لا يتعدّى عمرها سبْع سنوات يئن كاهلها بمأساة ترزح تحت وطأتها منذ كان عمرها أربع سنوات، وما تزال إلى اليوم، حيث تعرّضت للاغتصاب مرّتيْن، ولم تستفدْ من أي دعم أو علاج نفسي رغم بشاعة الجريمة التي كانت ضحية لها.

تعرّضت ضحى للاغتصاب الأوّل يوم كان عمرها أربع سنوات وبضعة شهور، على يد زوج أمّها، في دوار جمعة للا ميمونة بإقليم القنيطرة. اغتصبها الجاني بشكل وحشي وافتض بكارتها. جرى اعتقاله لكنْ سرعان ما أُطلق سراحه رغم بشاعة الجريمة التي اقترفها، لتجد أمّ الضحية نفسها مرغمة على البحث عن ملاذ آخر خوفا على طفلتها الصغيرة، وتنطلق بذلك دوّامة مأساة جديدة.

غادرت الأمّ رفقة طفلتها المغتصبة وطفل آخر أصغر في عمرِ أقلّ من سنتين دوار جمعة للا ميمونة نحو بيت أهلها في ضواحي مدينة سوق الأربعاء الغرب، لكنّ عائلتها لم تتقبّلها، لتجد نفسها في الشارع. في الليلة التي غادرت فيها الأمّ رفقة طفليْها بيت عائلتها تعرّضت هي أيضا للاغتصاب على يد مجهولين، وكانت ضحى وشقيقها الأصغر شاهدين على الواقعة.

استقرّ المقام بالأمّ وطفليْها في المدينة القديمة بالعرائش، وهناك ستُنجب، بعد تسعة أشهر، طفلا ثالثا هو نتاج الاغتصاب الذي تعرّضت له عندما غادرت بيت أهلها في مدينة سوق الأربعاء الغرب، غير أن مسلسل رعب الاغتصاب الذي وجدت الطفلة ضحى نفسها في غماره وهي في عمر أربع سنوات، ومشاهدتها لاغتصاب أمها، لن يتوقف عند هذا الحد.

في أواسط شهر يونيو الماضي، تعرضت الطفلة ضحى للاغتصاب للمرة الثانية في واقعة تُبرز حجم ضعف حماية عدد كبير من الأطفال في المغرب من "الوحوش الآدمية" المتربصة بهم؛ إذ تمّ استدراجها إلى بيتِ جارةٍ صديقة لأمها، قدّمتها إلى صديق لها في الخمسينات من العمر ليغتصبها.

تعود تفاصيل الواقعة الإجرامية، كما روتْها لهسبريس فاتن بلحاج، رئيسة جمعية "سفينة الخير" بالعرائش، إلى أحد أيام الأسبوع الثاني من شهر يونيو، حيث غادرت أم ضحى مَسكنها البسيط، وهو عبارة عن بيت مشترك تستأجر به غرفة صغيرة ومرحاضا، متوجهة إلى المرسى بحثا عن لقمة العيش لأطفالها الثلاثة، بعد أن أوصت عليهم جارتها القاطنة معها في البيت نفسه.

بعد ذلك بدقائق، جاءت جارة تقيم في بيت مجاور، وطلبت من الجارة التي أوصتْها أمّ ضحى على الأطفال الثلاثة أن تذهب بهم عندها إلى بيتها، بداعي أنها تريد فقط أن تعتني بهم ريثما تعود أمهم من المرسى، وهو ما تأتّى لها، حيث اصطحبت الأطفالَ الثلاثة إلى بيتها، وهناك كانت الطفلة ضحى على موعد مع اغتصاب جديد على مرأى من شقيقيْها الصغيرين.

 

اغتُصبت الطفلة ضحى للمرة الثانية، وكانت الجريمة التي تعرضت لها ستُطمَس لولا أن إحدى الجارات سمعت صراخ الطفلة، فهرعت نحو مكان الصراخ، لتجدها رفقة شقيقيْها قد خرجا من البيت حيث اغتُصبت، ولمّا سألتها عن سبب صراخها لم تُفْض إليها بشيء ولزمت الصمت، لكنّها ستكشف الحقيقة بعد ذلك لأمها؛ حقيقة اغتصابها داخل بيت جارتهم.

انهارت الأم وأغمي عليها، وألقي القبض على الجاني والجارة صاحبة البيت حيث ارتكبَ جريمته الشنيعة ومعهما رجل ثالث كان بمعيّتهما، وأحيلوا ثلاثتهم على المتابعة القضائية أمام محكمة طنجة التي أودعتهم السجن، لكن لم يلتفت أحد بعد ذلك إلى الطفلة المُغتصبة، ولم تحْظ بأي رعاية طبية أو نفسية، بل تُركت تواجه مصيرها بدون أي دعم أو مواكبة.

عدم توفير الرعاية النفسية لضحى لا يجعلها فقط معرّضة لأن تتعايش طيلة حياتها مع الجروح التي مزّقت نفسيتها جراء تعرضها للاغتصاب مرتين، بل إنها قد تَحسب أنّ ما تعرضت له "شيء عادي"، وقد لاحظت فاتن بلحاج أن الطفلة تسير في هذا الطريق بقولها: "البْنت كتبان بحالّا ولّفات داكشي اللي وقع لها، كنْت كنتوقع تكون منهارة وتبكي، ولكن في المحكمة كانت تبدو عادية وكانت تضحك وتلعب".

هذه الفرضية يؤكّدها الدكتور محمد بارودي، اختصاصي العلاج النفسي، بقوله: "في حال عدم استفادة الطفل ضحية الاغتصاب من دعم نفسي، فإن الاعتداء الجنسي قد يصير لديه سلوكا تعوّديا"، مضيفا في تصريح لهسبريس: "وهكذا سنخلق أطفالا يتقبلون أن تمارَس عليهم الاعتداءات الجنسية".

وتنبُع حتميّة توفير الدعم النفسي للأطفال ضحايا الاغتصاب من خطورة العواقب الوخيمة لهذه الجريمة عليهم، سواء من الناحية النفسية أو العضوية، ومنها، كما يوضح الدكتور بارودي، الخوف المرضي المصاحَب بأمراض عضوية، مثل خفقان القلب السريع، والارتعاش، واضطرابات النوم بسبب الكوابيس الناجمة عن الخوف، والتبول اللا إرادي بسبب الصدمة التي يتعرض لها الطفل المغتَصب، ثم الغثيان والتقيؤ.

وعلى الرغم من خطورة عواقب الاغتصاب على نفسية الضحايا وعلى صحتهم الجسمانية ككل، بشهادة المختصّين، فإن نسبة كبيرة منهم لا يحصلون على أي دعم نفسي، وأحيانا لا يحصلون حتى على الرعاية الطبية. تقول فاتن بلحاج حين سألناها إن كانت الطفلة ضحى استفادت من رعاية نفسية بعد اغتصابها للمرة الثانية: "لا نتوفر في المستشفى حتى على مساعِدة اجتماعية، فأحرى أن نتحدث عن الدعم النفسي".

مريم.. الوجَع المكتوم

ضحى ليست سوى واحدة من مئات، وربما آلاف الأطفال المغاربة الذين تعرضوا للاغتصاب ولم يستفيدوا من أي دعم نفسي على يد أطباء مختصّين، لأسباب متنوعة، منها قلّة الموارد البشرية الموكول إليها القيام بهذه المهمة في المستشفيات العمومية، وغيابها بشكل تام في مستشفيات المدن الصغيرة، إضافة إلى أسباب أخرى، من قبيل عدم توفر أسر الضحايا على الإمكانيات المادية لتوفير العلاج النفسي لأطفالها.

مريم، واحدة من أطفال المغرب الذين انتُهكت حُرمة أجسادهم، وطُويَ الاهتمام بهم بعد أن أثارت قضاياهم اهتمام الرأي العام دون الحصول على أدنى مواكبة نفسية أو طبية. تعرضت مريم، ذات التسع سنوات، لاعتداء جنسي في جماعة تليت بفم زكيد بإقليم طاطا، من طرف جار يبلغ من العمر 47 سنة، كان يستغلّها جنسيا داخل بيته لمدة ناهزت السنة، قبل أن تكتشف أسرتها الأمر خلال شهر يونيو الماضي.

وحتى عندما اكتشفت الأسرة أمرَ تعرّض طفلتها للاستغلال الجنسي، كاد الجاني أن يفلت من المتابعة، حيث فضلتْ عدم التقدم بشكاية ضده بسبب ضغوط الأقارب، قبل أن يصل الخبر إلى شقيقها الأكبر الذي يعمل في مدينة العيون، فقرر كسْر جدار "حشومة"، ووضَع شكاية ضد الجاني المعتقل حاليا، بينما لم تنْته بعد أطوار محاكمته، أمّا الضحية الصغيرة فقد نسيها الجميع بعد أن أثار حادث اغتصابها ضجّة كبيرة في المنطقة حيث تقيم، كاتمة وجعها داخل صدرها.

لم تستفد الطفلة مريم من أي دعم نفسي بعد أن استغلّها مغتصبُها جنسيا شهورا طويلة، حيث تكالبت عليها عواملُ عديدة حرمتها من أي دعم، فهي تقطن في منطقة نائية لا يوجد فيها مستشفى يضم قسما لاستقبال والاستماع للأطفال ضحايا العنف الجنسي، كما أن أسرتها لا تملك الإمكانيات المادية للذهاب بها لدى طبيب نفسي.

باستسلام تامّ، يقول "عبد العزيز. ز"، الأخ الأكبر للطفلة مريم: "هناك طبيب نفسي عبّر عن رغبته في تقديم العلاج لأختي تطوُّعا، بتدخّل من الجمعية التي تتبنى قضيتها، لكنني لا أستطيع أن أحملها إلى عيادته الموجودة في مدينة طاطا، بعيدا عن قريتنا بحوالي مئة وستين كيلومترا، لأن إمكانياتي المادية لا تسمح بذلك".

يشرح عبد العزيز أكثر سبب عدم قدرته على نقل أخته الصغيرة إلى طاطا لتلقي العلاج النفسي بعد انتهاك جسدها، قائلا في حديث لهسبريس: "طيلة خمسة أشهر، من مارس إلى غشت، توقفتُ عن العمل بسبب الحجر الصحي. كنت أعمل في مدينة العيون، وقد اضطررت إلى اقتراض مبلغ ستة آلاف درهم من بعض الأقارب والأصدقاء من أجل متابعة أطوار محاكمة الجاني".

حين تنعقد جلسةٌ من جلسات محاكمة مغتصب الطفلة مريم يضطر شقيقها عبد العزيز إلى القيام برحلات مكوكية من مدينة العيون حيث يعمل، إلى البلدة التي تقيم فيها أسرته ضواحي طاطا ليصطحب أخته الصغيرة إلى مدينة أكادير حيث يُحاكم مغتصبها، ويتساءل: "من أين سآتي بالمال لكي أحملها إلى عيادة الطبيب النفسي وقد اقترضتُ من عند الناس على الأقل لأدافع عن حق أختي أمام القضاء؟".

تؤكّد لطيفة المخلوفي، نائبة رئيس "منتدى إفوس للديمقراطية وحقوق الإنسان"، الذي ساند الطفلة مريم وقبلها أطفالا آخرين من ضحايا العنف الجنسي بإقليم طاطا، أن الأطفال ضحايا الاغتصاب المنتمين إلى مناطق بعيدة عن الحواضر الكبرى لا يستفيدون، بشكل شبه تام، من الدعم النفسي، عدا بعض المبادرات التي تقوم بها الجمعيات العاملة في هذا المجال، والتي لا تكفي.

تقول المخلوفي في تصريح لهسبريس: "تغيب الرعاية البَعْدية للأطفال ضحايا الاغتصاب عن ثقافتنا. في مجتمعنا تسود ثقافة الحدَث والتعاطف الأوّل كلما تفجرّت قضية اغتصاب طفل أو طفلة ووصل صداها إلى الرأي العام، لكن سرعان ما يتمّ نسيان كل شيء"، وتضرب مثلا بالطفلة إكرام، التي اغتُصبتْ بدورها في دوار إيمي أوكادير بفم الحصن بإقليم طاطا شهر يونيو الماضي، وخلّفت قضيتها تعاطفا واسعا لدى الرأي العام بعد تمتيع مغتصبها بالسراح المؤقت، قائلة: "لا أحد سأل عنها بعد أن هدأت الضجّة".

جهود وصعوبات

تُخفي جرائم اغتصاب الأطفال مشاهد مروّعة لا يصلُ منها إلى الرأي العام إلا النزر القليل. تسرد أمينة بوقدير، المساعدة الاجتماعية في مستشفى الأطفال بالرباط، حالة من هذا النوع قائلة: "وفَد علينا طفل اضطر الطبيب الذي أشرف على علاجه إلى إخراج الفضلات من جهازه الهضمي عن طريق عملية في البطن، بسبب تعرّضه لجريمة اغتصاب بشعة أدت إلى إحداث تمزقات خطرة على مستوى شرجه".

تشدد بوقدير، وهي أيضا رئيسة "جمعية كوثر لرعاية الطفل"، على أن التكفّل بالأطفال ضحايا الاغتصاب ليس مسألة سهلة، بل يتطلّب التقيّد بمجموعة من الإجراءات الدقيقة، يراعى فيها الجانب الاجتماعي للطفل، والجانب الطبّي والقانوني والنفسي، وهي جميعها مترابطة، ولا بد من احترامها من أجل صوْن حق الطفل من الناحية القانونية والطبية، وتمكينه من الخروج بأقل الأضرار من جريمة الاغتصاب من الناحية النفسية.

تتطلّب رعاية الطفل بعد تعرضه للاغتصاب تدخل أطراف عدة من أجل حمايته على جميع المستويات، وهذا يتطلب، كما توضح أمينة بوقدير، التنسيق مع النيابة العامة، ومع الشرطة أو الدرك، ثم إحالة الطفل بعد ذلك على طبيب نفسي، وتضيف أن عددا من الجمعيات التي تؤازر الأطفال ضحايا الاغتصاب الجنسي لا تحترم هذه الإجراءات، بل إنها قد ترتكب أخطاء تعمّق الأزمة النفسية للطفل إذا تمّ تسليط الضوء على الواقعة من طرف وسائل الإعلام دون احترام خصوصيته، حيث يشتد الضغط أكثر على الضحية وتتأزّم نفسيته أكثر.

يوم 3 يونيو 2015، تم اعتماد السياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة بالمغرب من طرف اللجنة الوزارية المكلفة بتتبع تنفيذ السياسات والمخططات الوطنية في مجال النهوض بأوضاع الطفولة وحمايتها، التي يرأسها رئيس الحكومة؛ وتستند مضامين هذه السياسة العمومية المندمجة إلى التوجيهات الملكية ومقتضيات دستور المملكة.

من ضمن المقتضيات الواردة في الفصل الثاني والثلاثين من الوثيقة الدستورية: "تسعى الدولة لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية"؛ لكن هل يتوفر الاعتبار الاجتماعي والمعنوي للأطفال ضحايا الاغتصاب على أرض الواقع؟ يجيب عمر أربيب، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمراكش، عن هذا السؤال بالقول: "للأسف، معالجة قضايا الأطفال ضحايا الاغتصاب تتم فقط على المستوى القضائي، ولا توجد متابعة طبية ولا دعم نفسي ولا إعادة تأهيل لهؤلاء الأطفال".

طرحنا السؤالَ نفسه على مسؤولي وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، باعتبارها من القطاعات الوزارية المعنية بحماية الطفولة، فكان الجواب أن مسألة حماية الأطفال من العنف والاستغلال، "تحظى بأولوية كبيرة في برامجنا"، وأن السياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة بالمغرب "وُضعت من أجل توفير الحماية للأطفال من مختلف أشكال العنف، بما في ذلك العنف والاستغلال الجنسي".

وبحسب المعطيات التي أدلى بها لهسبريس عبد الرزاق العدناني، رئيس قسم الطفولة بوزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، فإن التقييم المرحلي للسياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة بالمغرب، الذي أجري سنة 2019، بيَّن أنه تم إنجاز 56 في المئة من تدابير وأهداف هذا الورش المجتمعي.

وأوضح المسؤول نفسه أن السياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة بالمغرب ترتكز على مبدأ القرب، حيث تم إنشاء أجهزة ترابية في ثمانية أقاليم، تشرف على تتبع التدابير المتخذة على مستوى منظومة حماية الأطفال في مختلف جوانبها، مثل الرعاية الصحية، والمواكبة النفسية، والمساعدة الاجتماعية، والتكفّل والاستماع، وإعادة الإدماج في المنظومة التربوية، والإيواء.

تتوفّر مراكز المواكَبة المحدثة في إطار تنزيل تدابير السياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة بالمغرب، التي تستقبل الأطفال ضحايا العنف والاستغلال والأطفال في وضعية هشة، على فِرق عمل تتوزع مهمتها بين الاستقبال والاستماع، والمساعدة الاجتماعية، وتقييم وضعية الطفل ومواكبته، غير أن التدابير المتخذة إلى حد الآن لا تعني أن الدولة وفّرت الحماية الشاملة للأطفال، خاصة ضحايا العنف والاستغلال الجنسيَّيْن.

لا يُخفي عبد الرزاق العدناني أنّ من بين الإكراهات التي تحُول دون توفير الدعم النفسي لهؤلاء الأطفال، الخصاصُ الكبير في الأطباء المختصين في العلاج النفسي على الصعيد الوطني، ولسدّ هذا الخصاص تم اللجوء إلى الاختصاصيين الإكلينيكيين، "وإن كان هذا لا يعوّض مكان الطبيب النفسي"، يقول العدناني، غير أن اللافت للانتباه هو أن عدد الاختصاصيين الإكلينيكيين الذين يقدمون الدعم النفسي للأطفال في مراكز المواكبة لا يتعدى 13 فردا، بمعدل اختصاصي واحد في كل جهة من جهات المملكة.

الخصاص الكبير في الأطباء النفسيين بالمغرب تؤكده المعطيات الرسمية؛ إذ لا يتجاوز عددهم 290 طبيبا، يعملون في القطاعين العام والخاص، بحسب دراسة أنجزتها وزارة الصحة سنة 2018، ويعني هذا الرقم الضعيف أن حظ المغاربة من العلاج النفسي لا يتعدى 0.85 طبيبا لكل 100 ألف نسمة، وتزداد حدّة هذا النقص أكثر في الأطباء النفسيين المختصين في علاج الأطفال باقطاع العام؛ إذ لا يتعدى عددهم 5 أطباء مختصين فقط.

وإضافة إلى إشكال قلّة عدد الأطباء النفسيين، ثمّة إشكال آخر يتمثل في كون الأطباء الموجودين يتمركزون في المدن الكبرى، وهو ما يعني، عمليا، أن كثيرا من أطفال المدن الصغرى والقرى ضحايا العنف الجنسي لا يستفيدون من أي دعم نفسي، كما هو حال الطفلتيْن ضحى ومريم، فالأولى توجد في مدينة صغيرة لا يوجد فيها مركز للدعم النفسي لهؤلاء الأطفال، والثانية يوجد طبيب متطوع يعمل في القطاع الخاص مستعد لتقديم الدعم النفسي لها، لكن أسرتها لا تملك المال لنقلها إلى عيادته في مدينة طاطا.

تقول نجية أديب، رئيسة جمعية "ما تقيش ولادي"، إن مسؤولية توفير الدعم النفسي للأطفال ضحايا الاغتصاب يجب أن تنهض بها الدولة، وليس جمعيات المجتمع المدني، التي تبذل ما في وسعها لسدّ الخصاص المسجّل على هذا الصعيد، رغم محدودية إمكانياتها المادية، مضيفة في حديث لهسبريس: "على الأقل ينبغي أن يكون هناك طبيب نفسي في كل مستشفى، خاصة بالمدن الصغيرة، ولو كان يحضر مرتين أو مرة واحدة على الأقل في الأسبوع".

الخصاص في الأطباء النفسيين يعني أن مزيدا من الأطفال ضحايا الاغتصاب سيُحرمون من الدعم النفسي، مع ما يترتّب عنه من تبعات نفسية وخيمة، خاصة مع تسجيل مئات حالات الاغتصاب سنويا؛ إذ تفيد أرقام التقرير الثاني لرئاسة النيابة العامة حول الجنايات والجنح المرتكبة في قضايا العنف ضد الأطفال خلال سنة 2018 بأن العنف الجنسي يحتل مكانة متقدمة في الأشكال الجرمية التي يتعرض لها الأطفال.

واستنادا إلى ما جاء في التقرير المذكور، فقد سُجل أكثر من 2500 اعتداء جنسي ضد قاصرين، معظم هذه الاعتداءات باستعمال العنف، حيث بلغ عدد حالات هتك عرض قاصر بالعنف 1729 حالة، و467 حالة اغتصاب، في حين تم تسجيل 381 حالة هتك عرض قاصر بدون عنف.

عواقبُ وخيمة

يؤدي عدم الرعاية والدعم النفسي للأطفال ضحايا الاعتداءات الجنسية إلى تعميق العواقب المترتّبة عن تعرضهم لهذه الجرائم، وهو ما يؤكّده الدكتور جواد مبروكي، طبيب ومحلل نفسي، بقوله: "عواقب الاغتصاب الجنسي مع الأسف كثيرة جدا جدا، لأنّ الطفل عندما يدرك أنه كان ضحية اغتصاب يتلقّى صدمات كثيرة تخلخل توازنه النفسي".

ويوضح مبروكي، في حديث لهسبريس، أن خطورة عواقب الاغتصاب الجنسي قد لا تظهر إلا بعد وصول الطفل الضحية إلى مرحلة المراهقة، حيث يبدأ في إدراك ماهية العلاقة الجنسية، "فيُدرك حينها أن ما كان يعتقد أنه لعب هو استغلال جنسي، وأنه كان ضحية للاغتصاب أو التحرش، وبالتالي يتلقى صدمات كثيرة".

أوّل صدمة يتلقاها الطفل بعد إدراكه أنه كان ضحية اغتصاب، "هي أنه يشعر بالخيانة، لأن الطفل يضع كامل ثقته في والديْه وفي محيطه العائلي، وحتى أصدقاء العائلة والجيران، وعندما يُدرك أنه اغتُصب أو استُغلّ جنسيا يشعر بالخيانة، وهي أوّل صدمة تزعزع نفسية المراهق، وهنا تبرز عواقب أخرى، أولها فقدان الثقة في النفس، والشعور بالذنب، لأن المراهق يحمّل المسؤولية لنفسه، رغم أنه لا ذنب له في ما وقع له"، يشرح مبروكي.

ولا تتوقف تبعات الاغتصاب على نفسية المراهق عند هذا الحد، كما يوضح الدكتور مبروكي، بل إن الشعور بالذنب وعدم الثقة في النفس يُلقيان به في أُتون مشاكل نفسية وجسدية أخرى، مثل الاضطراب في الشخصية التي تكون في أوْج نموها خلال فترة المراهقة، ويؤدي اهتزاز نفسية المراهق كذلك إلى اضطراب عضوي، مثل اضطراب النمو الهيكلي (Structuration) للدماغ، والنمو الجسدي، بسبب عدم الأكل أو النوم بشكل جيد.

هذا لا يعني أن عواقب الاغتصاب الجنسي لا تظهر على الأطفال إلا بعد أن يدركوا ما تعرضوا له في سن المراهقة، بل إنها تبرز مباشرة. يتحدث "عبد العزيز. ز"، عن الحالة النفسية لأخته مريم عقب اغتصابها قائلا: "أصبحت الآن خائفة، ولم تعد شجاعة كما كانت، وتبكي لأسباب بسيطة"؛ هذا المُعطى يؤكده الدكتور محمد بارودي، بقوله إن من بين الأعراض النفسية التي تهر على الطفل ضحيةِ الاغتصاب، الشعور بالخوف المرضي.

ويتطلب العلاج النفسي للطفل ضحية الاغتصاب معاملة خاصة من أجل كسب ثقته وإعادة التوازن إلى نفسيته، من خلال جلسات علاجية تُستعمل فيها تقنيات متنوعة مثل الرسم والدعم النفسي، وتختلف المدة الزمنية التي تتطلبها كل حالة؛ إذ تكفي بضع حصص فقط في بعض الحالات، وقد يتطلب الأمر سنة أو سنتين من العلاج بالنسبة لحالات أخرى، وفق إفادة الدكتور بارودي.

الحالات التي تتطلّب علاجا طويل الأمد غالبا ما تكون قد تعرّضت لانتكاسة (Rechute) أثناء العلاج، ويرجع سبب ذلك، كما يوضح الدكتور بارودي، إلى أن الطفل ضحية الاغتصاب حين يتقابل، مثلا، مع مغتصبه في المحكمة يتذّكر لحظة اغتصابه، وقد يحدث ذلك أيضا إذا مرّ من المكان الذي تعرّض فيه للاغتصاب.

وإذا كان النقاش الذي يعقب حوادث اغتصاب الأطفال ينصبّ فقط على الضحايا، فإن الدكتور بارودي يؤكّد حاجة والدي الضحية أيضا إلى المواكبة النفسية، "لأنهما يكونان في وضعية نفسية متأزمة،ومن الضروري أن تتم مواكبتهما أيضا".

أثناء إعداد هذا الاستطلاع، بلغَنا خبرُ اغتصاب طفل في دوار العضومة بجماعة السواكن قيادة أولاد أوشيح نواحي مدينة القصر الكبير، يوم 23 شتنبر الجاري، ومن خلال الاتصال بوالد الطفل المغتصب، اتّضح أنّ كلاهُما يوجدان في حالة نفسية سيّئة.

كان الطفل "موسى. ط"، البالغ من العمر 14 عاما، عائدا من المَرعى خلف قطيع الأغنام التي يرعاها إلى بيت أسرته، ليتفاجأ بشابّين من أبناء القرية يعترضان سبيله، حيث قام أحدهما بشلّ حركته، فيما قام الثاني باغتصابه، بحسب ما جاء في الشكاية التي رفعها والد الطفل الضحية إلى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالقصر الكبير، معزّزة بشهادة طبية تثبت تعرّض ابنه للاغتصاب.

بَدا "عثمان. ط" مُنهارا حين اتصلْنا به بعد يومين من واقعة اغتصاب ابنه؛ إذ لم يصدّق ما جرى رغم حقيقته، وقال إن ابنه يوجد في حالة نفسية متدهورة، "مْحبوس فالدار هادي يوميْن والماكلة ما داقهاشي، الدرّي ما فحالو ما يتشاف"، أمّا الحالة النفسية للأب فقد لخّصها في جملة دالّة أعقبتْ تنهيدة عميقة: "أنا رْزاني هادْ خيّنا" (يقصد مغتصب ابنه).

قد يهمك ايضا

جريمة اغتصاب طفل تهز المغرب

أمن مولاي رشيد ينجح في فك لغز جريمة احتجاز واغتصاب سيدة

View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

منظمة الفاو تؤكد أن فرص توافر الغذاء في أدنى…
الجيش الإسرائيلي أنشأ 19 قاعدة عسكرية في قطاع غزة
دول الجوار ترفع التأهب مع تطورات سوريا وإسرائيل تحشد…
مسودّة الاتفاق الذي تم التوصّل إليه بين حزب الله…
تقرير سري لـ"البنتاغون" يكشف عن أعطال في المقاتلة "إف-35"…

اخر الاخبار

دعم ثابت لمخطط الحكم الذاتي ولسيادة المغرب الراسخة على…
وفد مغربي يُشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول…
2024 سنة تأكيد الطابع الاستراتيجي للعلاقات المغربية الإسبانية
ناصر بوريطة يؤكد أن العلاقات بين المملكة المغربية والعراق…

فن وموسيقى

لطفي بوشناق يقدّم أغنية لبيروت ويتضامن مع المدينة الجريحة…
سلاف فواخرجي تفوز بجائزة أفضل ممثلة بمهرجان أيام قرطاج…
كاظم الساهر يسّتعد للعودة للغناء في المغرب بعد غيابه…
المغربي حاتم عمور يستنكر عدم حصوله عن أي جائزة…

أخبار النجوم

أحمد السقا يكشف موقفه من تمثيل ابنته ومفاجأة عن…
زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
محمد رمضان يُشعل مواقع التواصل بمسابقة وجائزة ضخمة
أزمات قانونية تنتظر عمرو دياب في العام الجديد

رياضة

محمد صلاح بين الانتقادات والإشادات بسبب صورة عيد الميلاد…
المغربي حكيم زياش لا يمانع الانضمام لصفوف الوداد في…
محمد صلاح ينفي شائعات التجديد مع ليفربول ويؤكد أن…
المغربي أشرف حكيمي ضمن أفضل 100 لاعب لسنة 2024

صحة وتغذية

المغرب تصنع أول دواء من القنب الهندي لعلاج الصرع
نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء
وزارة الصحة المغربية تكشف نتائج التحقيق في وفيات بالمركز…
اختبار عقاراً جديداً يُعيد نمو الأسنان المفقودة

الأخبار الأكثر قراءة

اعتقال عاصف رحمن المسؤول في الـ "سي آي أيه"…
أميركا لن تغير سياستها بشأن نقل الأسلحة إلى إسرائيل
مكتب نتنياهو يواجه 5 قضايا بعضها قيد التحقيق
نتنياهو قلق من انتقام محتمل لبايدن بعد فوز ترامب…
اليونيسيف تُحذر من آثار خطيرة للحرب الإسرائيلية المستمرة في…