موسكو - المغرب اليوم
لا تستطيع فرنسا الحكم بحيادية والنظر إلى ذاتها في أسباب انحسار نفوذها في القارة الإفريقية، وهي تعتقد فعلا بأنها "حمل وديع". باريس واجهت "الصحوة" الإفريقية ضد نهجها الاستعماري وتدخلاتها السافرة في مستعمراتها السابقة في إفريقيا، التي امتصت خيراتها لعقود، بارتداء قناع الحمل الوديع، وهذه المرة صدقت نفسها، وتباكت على "القارة السمراء" باتهام روسيا بتقويض نفوذها هناك، ومواصلة اتهام بكين بالأمر ذاته.الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في لبوس الحمل الوديع، قام مؤخرا بجولة في أربع دول إفريقية بوسط القارة، وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، صرّح في لهجة تلقين وتدريس بأن الغرب لا توجد لديه معايير مزدوجة!جرى ذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك، حين دعا رئيس الكونغو الدمقراطية فيليكس تشيسيكيدي ماكرون إلى النظر إلى الدول الأفريقية كشركاء حقيقيين، باحترام، وليس مع وجهة نظر أبوية. لم يستطع الرئيس الفرنسي فهم المتغيرات في القارة الإفريقية، ورد على "نظيره" بدرس عن العدالة الغربية وحرية الصحافة، وحث مضيفه الإفريقي على عدم الاعتقاد بوجود معايير مزدوجة في الغرب. الرد الإفريقي لم يتأخر وخرج في شكل ضحكات ساخرة تعالت في القاعة.
جمهورية الكونغو الديمقراطية كانت شهدت مع دول أخرى في المنطقة في عام 2022 مسيرات حاشدة مؤيدة لروسيا، رُفعت خلالها الأعلام الروسية وصور الرئيس فلاديمير بوتين، وتعالت فيها الهتافات المؤيدة لموسكو والمنددة بالسلوك الاستعماري لباريس!أغضبت المظاهرات المؤيدة لروسيا في مالي والكونغو الديمقراطية وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى ليس ساسة باريس فحسب، بل وساسة الاتحاد الأوروبي، حيث شكك جوزيب بوريل المسؤول عن السياسة الخارجية في الاتحاد في صدق الأفارقة في مسيراتهم العفوية وتعبيرهم الحر عن "رأيهم" الداعم للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بالقول إنهم "لا يعرفون مكان دونباس". الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعليق على ما صدر من بوريل، أشار ببساطة إلى أن الأفارقة يعرفون جيدا روسيا ودورها في تحرير المنطقة من الاستعمار.تلك الحشود الإفريقية التي سخرت من ماكرون وعلت هتافاتها المؤيدة لبوتين، انحازت إلى روسيا البعيدة عنهم لأنها تعرف الذئب القريب والملازم لها منذ عقود طويلة من الاستعباد والاستعمار والاستغلال على الرغم من تخفيه.
فرنسا التي تحاول دائما وبشكل يائس أن تظهر كأم رؤوم لأفريقيا هي من قام منذ عام 1960 بأكثر من 40 عملية عسكرية كبرى في القارة الإفريقية، حيث تدخل وتخرج كما لو أنها في ضواحي باريس.وفي تلك الدول الإفريقية البائسة التي كانت في السابق مستعمرات لفرنسا، استخدمت باريس قواتها كما يحلو لها في دعم طرف ضد الآخر، بحسب مصالحها الاقتصادية ومنفعتها الحصرية.لا تحتفظ باريس بقواتها وقواعدها البرية والجوية والبحرية في عدد من مستعمراتها الإفريقية السابقة، بل وتستعين بلغتها التي فرضت على سكانها، وبأدوات حاسمة مثل "فرنك غرب إفريقيا وفرنك وسط إفريقيا"، العملتان اللتان يتم تداولهما في 14 دولة إفريقية، وهي مدد متوصل للخزينة الفرنسية، من خلال إمكانية تحويلهما إلى اليورو.
حتى جيران فرنسا الأوروبيين يسخرون من هذا الأمر، حيث صرّح مطلع عام 2019، لويجي دي مايو، نائب رئيس الوزراء ووزير التنمية الاقتصادية والعمل والسياسة الاجتماعية في إيطاليا بأن باريس "تسك عملتها المعدنية، الفرنك الاستعماري، وهي بالتالي تمول ديونها الخارجية، مستغلة هذه البلدان".عقب هذا التصريح، استدعت وزارة الخارجية الفرنسية السفير الإيطالي في باريس لوضع حد لمثل هذا التصريحات "المزعجة" من جار وشريك في الاتحاد الأوروبي.بقيت فرنسا مخلصة لمنطقها الاستعماري في القارة الإفريقية، الساحة التي شهدت الكثير من الأهوال، وهي الآن تكاد تفقد صوابها وهي ترى القارة تستيقظ وتنفر منها.
ردود الفعل الإفريقية المتوالية التي تعكس مواقف جديدة رافضة للمنطق الاستعماري الفرنسي لم يأت من فراغ، بل هو تراكم مضاد لسلوك التعالي وامتصاص الخيرات والتدخلات العسكرية الدموية في الكثير من المناسبات، ولعل عزو فرنسا لتونس في يوليو عام 1961، مثال ساطع على وجه فرنسا الحقيقي. في 19 يوليو 1961، أغلقت وحدات تابعة للجيش التونسي ميناء بنزرت الاستراتيجي، الذي ظل تحت السيطرة الفرنسية بعد إعلان تونس استقلالها في عام 1956.باريس سارعت إلى الرد وأرسلت 800 مظلي فرنسي نزلوا في مطار المدينة، واستقبلتهم نيران الجيش التونسي حديث التأسيس في ذلك الوقت.هاجمت الطائرات الحربية نقاط التفتيش ومواقع المدفعية التونسية، بمساندة من مدفعية الهاوتزر الفرنسية عيار 105 ملم.
زحفت الدبابات والعربات المدرعة الفرنسية في اتجاه الأراضي التونسية من الجزائر وقصفت بلدة منزل بورقيبة. في اليوم التالي، هبطت قوات مشاة البحرية في ميناء بنزرت. دخلت الدبابات ووحدات المظلات مدينة بنزرت من جنوبها، وجرى أخماد المقاومة التونسية بعد قتال عنيف في الشوارع.استولت القوات الفرنسية الغازية على المدينة في 23 يوليو 1961، وكان الثمن مقتل 24 فرنسيا، وأكثر من مائة جريح، فيما سقط من الجانب التونسي 630 قتيلا وأكثر من 1500 جريح.لاحقا في 15 أكتوبر 1963 جلت تلك القوات الغازية تماما عن بنزرت وعادت المدينة إلى أبنائها، فيما تواصل باريس منطقها الاستعماري القديم وتتجاهل بعناد تطلعات شعوب القارة التي لم تعد تتحمل المزيد من ذئب يحاول إيهام ضحاياه التاريخيين بأنه "حمل وديع" وإن المذنب روسيا والصين!
قد يهمك ايضا
ماكرون يعلن سياسة جديدة بشأن "القواعد العسكرية" في أفريقيا
ماكرون يعرب عن بالغ حزنه عقب جريمة وقعت جنوب غرب فرنسا