الرباط - المغرب اليوم
على الرغم من أن العلاقات الفرنسية – الألمانية غالباً ما تشهد في فترات كثيرة توترات وتباينات ثنائية في العديد من القضايا المشتركة، فقد زادت حدة هذه الخلافات بين البلدين بشكل ملحوظ في إطار انعكاسات الحرب الروسية – الأوكرانية، التي ألقت بتداعياتها على القارة الأوروبية. وبالتالي فإن المقلق هذه المرة هو توقيت تلك الخلافات، فهي تأتي في وقت تواجه فيه أوروبا تحديات خطيرة جراء الحرب الأوكرانية، كما أنها تساعد على تعميق الانقسامات، بينما تحتاج أوروبا إلى الوحدة، خاصةً أن أي انقسام داخل القارة يمثل نصراً للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مواجهة الغرب.
وفي هذا الإطار، التقى المستشار الألماني، أولاف شولتز، الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في باريس، يوم 26 أكتوبر 2022، في زيارة اعتبرها كثيرون محاولة لرأب الصدع بين البلدين مؤخراً، وإعادة إطلاق للعلاقات الثنائية المتعثِّرة بسبب الخلافات حول العديد من الملفات مثل الطاقة، والدفاع، والعلاقات مع الصين. وفي حين أشار مسؤولون فرنسيون وألمان إلى أن هذا اللقاء كان ناجحاً، تؤكد بعض المؤشرات أن العكس هو الصحيح، وأن الخلافات ما زالت قائمة بين البلدين، وقد يتسع مداها خلال الفترة القادمة.
ملفات خلافية:
ظهرت الخلافات الفرنسية – الألمانية خلال قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل في 19 أكتوبر الماضي، عندما قال ماكرون للصحفيين إن برلين تخاطر “بعزل نفسها” في أوروبا، وحثها على إبداء “تضامن” أوروبي في مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة. وعلى الرغم من أن شولتز أكد أنه لا يشعر بالعزلة “بأي شكل من الأشكال”، فإن البلدين كانا على طرفي نقيض في نقاش حاد حول ما إذا كان سيتم فرض حد أقصى لأسعار الغاز على مستوى الاتحاد الأوروبي. وتتابعت الخلافات لاحقاً حول أنظمة الدفاع الجوي والعلاقات مع الصين وغيرها.
وأقرَّ وزير المالية الفرنسي، برونو لومير، بأن العلاقات مع ألمانيا كانت “صعبة” وتتطلب “إعادة ضبط”. وقبيل قمة الاتحاد الأوروبي السابقة، أكد لومير أن “الحرب في أوكرانيا ومسألة الغاز والطاقة وقضية الصين، يجب أن تقودنا إلى إعادة تحديد استراتيجية للعلاقات الفرنسية – الألمانية”. وتعكس تلك التصريحات خللاً واضحاً في العلاقات بين البلدين، من شأنه أن يهدد استقرار الاتحاد الأوروبي بأكمله؛ لكونهما أكبر قوتين اقتصاديتين تقودان الاتحاد.
ويمكن توضيح أبرز القضايا الخلافية بين باريس وبرلين عبر استعراض وجهتي نظر البلدين في بعض الملفات لمعرفة مداها وحدود تأثيرها مستقبلاً، وذلك من خلال النقاط التالية:
1- أزمة الطاقة: يتمحور الخلاف في هذا الملف حول ثلاثة أمور، الأول معارضة ألمانيا لتحديد سقف لأسعار الغاز خوفاً من نقص الإمدادات، على عكس معظم دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها فرنسا. والأمر الثاني يرتبط بإطلاق الحكومة الألمانية، في 21 أكتوبر الماضي، برنامجاً بقيمة 200 مليار يورو للتخفيف من الأعباء الناجمة عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء على المواطنين والشركات بها، وهو ما اعتبرته دول التكتل الأوروبي، وعلى رأسها فرنسا، أنه سيؤثر على المنافسة، لأن بقية الدول لا يمكنها إطلاق برنامج بهذا الحجم، متهمين ألمانيا بأنها تسلك “مساراً منفرداً” في أزمة الطاقة، أو “تعزل نفسها”، وفقاً لتعبير ماكرون. والأمر الثالث يتعلق بإعلان فرنسا تعزيز التعاون مع البرتغال وإسبانيا لبناء خط جديد لنقل الهيدروجين، وفي حالات الطوارئ الغاز أيضاً، بين برشلونة ومارسيليا، وهو ما سيكون بديلاً لخطط بناء أنبوب لنقل الغاز بين إسبانيا وفرنسا عبر جبال البرنيه، الذي كانت تفضِّله ألمانيا.
2- الملف الدفاعي الأوروبي: تتباين المقاربتان الفرنسية والألمانية فيما يتعلق بتطوير الأمن الأوروبي وسياسة الدفاع الأوروبية المشتركة، إذ تريد برلين الاعتماد على الولايات المتحدة في تطوير أنظمتها الدفاعية، فيما تسعى باريس لتعزيز الاستقلال الأوروبي عن التأثير الدفاعي الأمريكي بشكل عام. لذلك لم تشترك فرنسا، حتى الآن، في المبادرة الألمانية طويلة الأجل التي وقَّعت عليها، في أكتوبر الماضي، 14 دولة أوروبية في حلف الناتو، بجانب فنلندا، وتُدعى “درع السماء” Sky Shield، وذلك على ما يبدو لكونها تعتمد على أنظمة أمريكية وإسرائيلية الصُنع من دون الاعتماد على الأنظمة الفرنسية والإيطالية، بصرف النظر عن أهمية هذه المبادرة في إنشاء مظلة دفاعية أوروبية مضادة للصواريخ لتعزيز حماية جزء كبير من أجواء القارة.
3- العلاقات مع الصين: وافق الائتلاف الحاكم في ألمانيا بقيادة شولتز على السماح لشركة الشحن الصينية العملاقة “كوسكو شيبينغ هولدنجز”، بالاستثمار في أكبر ميناء في ألمانيا بمدينة هامبورج الشمالية، الأمر الذي أثار خلافاً مع فرنسا، لأن ماكرون كان قد دعا دول الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم علاقتها مع بكين، معتبراً أن السماح للأخيرة بالاستثمار في البنية التحتية للموانئ الأوروبية “خطأ استراتيجي”. وزاد حدة الخلاف بعد زيارة شولتز للصين في 4 نوفمبر الجاري، مما أثار خشية الزعماء الأوروبيين من أن تسعى بكين إلى “تأليب” برلين على جيرانها، مستغلة الانقسامات الأوروبية الحالية في عدة ملفات.
فشل التهدئة:
لا يبدو أن زيارة شولتز لباريس مؤخراً قد وضعت حداً للخلافات المتزايدة بين ألمانيا وفرنسا، لكنها أبقت على التوترات كما هي من دون حل، وهناك مؤشران يؤكدان ذلك، هما:
1- تأجيل اجتماع المجلس الوزاري الفرنسي – الألماني إلى يناير 2023: جاء هذا القرار قبل زيارة المستشار الألماني لباريس، وفي الغالب كان السبب في زيارة شولتز نفسها ولقائه ماكرون، خاصةً أن هذا الاجتماع يمثل أهمية كبيرة في العلاقات بين البلدين، ومنذ إطلاقه في عام 1963، لم يتم إلغاؤه أو تأجيله. بالإضافة إلى ذلك، فإن أسباب التأجيل لم تكن مقنعة؛ فبينما ألقى مسؤولو الدولتين باللوم على الجداول الزمنية الضيقة للوزراء، اعترف كلا الجانبين سراً أن ثمة حاجة لمزيد من المحادثات بشأن عدد من الملفات، وهو ما دفع البعض لاعتبار تأجيل الاجتماع مؤشراً على الخلافات المتزايدة بين ألمانيا وفرنسا.
2- إلغاء المؤتمر الصحفي الذي كان مقرراً عقب اجتماع ماكرون وشولتز: بالرغم من تأكيد ألمانيا عقد مؤتمر صحفي في ختام زيارة شولتز، ألغى قصر الإليزيه هذا المؤتمر، مما يعكس استمرار الخلافات أو عدم التوصل إلى توافق بين البلدين. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن مسألة رفض عقد مؤتمر صحفي لزعيم زائر يعدُّ تكتيكاً سياسياً يتم تطبيقه بشكل عام لتوجيه التوبيخ، كما فعل شولتز عندما زار رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، برلين، في أكتوبر الماضي.
دوافع مُحرِّكة:
لا شك أن التوترات الفرنسية – الألمانية ليست مدفوعة فقط باختلافات في وجهات النظر أو المقاربات تجاه الملفات المشتركة، بل أيضاً بمُحفِّزات المنافسة الاستراتيجية وإغراءات القيادة لدول الاتحاد الأوروبي في ظل مناخ سياسي مواتٍ يُؤهِّل لظهور هذه القيادة التي سيتبعها الآخرون، على غرار النمط الأمريكي. وقد أبرزت التوترات الأخيرة بين البلدين هذه المحفِّزات والدوافع إلى حد بعيد، ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:
1- تصاعد التنافس الفرنسي – الألماني: كشفت الحرب الروسية – الأوكرانية عن حدود التضامن بين فرنسا وألمانيا، وعلى المستوى الأوروبي بشكل عام. وبينما اتفقت الدول الأوروبية، بعد فترة، على ضرورة دعم أوكرانيا عسكرياً، بخلاف ما كانت تريده برلين في بداية الحرب، فإن الموقف الألماني المتردد أفقدها بعضاً من مصداقيتها أمام دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة فرنسا التي كانت حاسمة في دعمها لكييف. ويبدو أن ذلك أدى إلى تحرك ألمانيا، بدعم من اقتصادها الأقوى أوروبياً، نحو تعزيز قوتها الدفاعية لمنافسة فرنسا على قيادة أوروبا من الناحية العسكرية، وهو ما دفعها ربما للتفكير في مبادرة “درع السماء”، وقد يكون ذلك هو السبب أيضاً في رفض باريس المشاركة في المبادرة التي تضم إلى جانب ألمانيا، كلاً من بريطانيا وسلوفاكيا والنرويج ولاتفيا والمجر وبلغاريا وبلجيكا والتشيك وليتوانيا وهولندا ورومانيا وسلوفينيا وفنلندا.
2- السعي لتعزيز النفوذ العسكري: من المعروف أن ألمانيا تقود قاطرة الاتحاد الأوروبي على المستوى الاقتصادي، وفرنسا تقود الاتحاد عسكرياً، وذلك نابع من كون برلين خفَّضت نفقاتها الدفاعية في السنوات الماضية في مقابل تعزيز نمو اقتصادها، وسط مطالبات أوروبية وفرنسية أيضاً بزيادة الإنفاق العسكري الألماني في حلف الناتو. وقد دفعت ظروف الحرب الأوكرانية، ألمانيا إلى إعادة النظر في عقيدتها العسكرية، فأنشأت، في مايو 2022، صندوقاً بقيمة 100 مليار يورو لتحديث جيشها، ورفعت إنفاقها الدفاعي في الناتو إلى أكثر من 2% من ناتجها المحلي، كما رفعت ميزانية الدفاع السنوية إلى ما يزيد على 80 مليار يورو، مما يعني أن ميزانية برلين الدفاعية ستفوق نظيرتها الفرنسية البالغة 44 مليار يورو. لكن يبدو أن كل هذا لم يُرضِ طموحات برلين، التي ترغب في أن ينعكس ثقلها الاقتصادي على دورها الدولي، لذا أعلنت عن مشروع “درع السماء”، معتمدة على معدات دفاعية من الولايات المتحدة، على الرغم من أن فرنسا تطوِّر نسخة جديدة من نظام دفاعها الجوي أرض – جو متوسط المدى، المعروف باسم “مامبا”، بالتعاون مع إيطاليا.
3- إغراءات القيادة الأوروبية: يبدو أن التنافس الألماني – الفرنسي يدور على القيادة داخل الاتحاد الأوروبي، خاصةً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد والفراغ الكبير الذي تسعى القوتان إلى سده. وسيعكس تجاوز الخلافات الحالية، قدرة الطرف الأقوى على فرض مواقفه. لكن الوضع الراهن يشير إلى عملية شد وجذب بين الجانبين، ففيما تنجح فرنسا في بناء خط جديد مع إسبانيا والبرتغال لنقل الغاز والهيدروجين على عكس ما تريد ألمانيا، نجحت برلين في التمسك بمواقفها في مسألة أسعار الغاز والطاقة في أوروبا، وكذلك نجحت في جذب قوى أوروبية أصغر تحت رايتها في مشروع “درع السماء” الدفاعي، وهو ما تخشى باريس من أنه يأتي على حساب المشاريع الفرنسية الألمانية المشتركة، ويفسِّر بعض الفرنسيين هذه الخطوة على أنها محاولة من ألمانيا لاستعادة المصداقية والثقة من دول أوروبا فضلاً عن تنمية مزيد من التعاون مع دول أوروبا الشرقية (أغلبهم مشترك في المشروع الدفاعي الألماني)، بما يُسهم في النهاية في تعزيز القيادة الألمانية الاقتصادية والعسكرية للاتحاد.
تداعيات مقلقة:
إن تصاعد الخلافات، وما تُخفيه من تنافس مُبطَّن، بين ألمانيا وفرنسا في الوقت الحالي، من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من التراجع داخل الاتحاد الأوروبي على عدة مستويات، كالتالي:
1- تقليل نجاح المشروعات المشتركة: بمعنى أن فرص نجاح المشروعات الأوروبية المشتركة ستظل محدودة مع استمرار الخلافات بين فرنسا وألمانيا. فمثلاً، إذا لم تدعم ألمانيا مشروع خط أنابيب نقل الهيدروجين والغاز بين فرنسا وإسبانيا والبرتغال، فإن ذلك من شأنه أن يُضعف قيمة المشروع في حد ذاته. وفي المقابل، قد لا تتمكن برلين من إنجاح مشروعها الدفاعي (الذي تم الإعلان عنه دون مشاورة مع باريس)، من دون الدعم الفرنسي، خاصةً في ظل معاناة معظم الدول الأوروبية من أزمات اقتصادية.
2- زيادة الانقسامات الأوروبية: من المعروف أن ألمانيا وفرنسا تنسقان عادةً قبل قمم الاتحاد الأوروبي. وبمجرد التوصل إلى اتفاق بين البلدين، تُشكِّل مواقفهما بشأن القضايا الرئيسية خريطة طريق للعمل الأوروبي. لكن في حالة وجود خلافات ثنائية، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تعميق الانقسامات الداخلية الأوروبية، مع عدم التوصل لقرارات تصب في صالح الاتحاد، بما يرسل بدوره رسالة للخارج، سواء للحلفاء أو الخصوم، لا تعكس التضامن والوحدة بقدر ما تُبرز التفكك والانقسام، خاصةً مع تزايد الخلافات واتخاذ الدول الصغيرة في الاتحاد مواقف متباينة تدعم طرفاً على حساب الآخر.
3- تهديد بقاء الاتحاد الأوروبي: ثمة أزمات مقلقة داخل الاتحاد الأوروبي، تتعلق بحجم ديون دول الاتحاد، وآليات الإنعاش الاقتصادي، ومدى الالتزام بالمعايير الديمقراطية في بعض الدول، والتفاوت الاقتصادي والتنموي أساساً بين شرق وغرب أوروبا. وقد كان التنسيق والتعاون الفرنسي – الألماني يمثل حائط صد أمام تفاقم مثل هذه الأزمات بالشكل الذي يهدد بقاء الاتحاد نفسه، أما تصاعد الخلاف بين هاتين القوتين قد يؤدي إلى أمرين؛ الأول هو تفريغ فكرة الاتحاد من مضمونها وجعلها بمنزلة “آلية صمَّاء” لا تستمع لمطالب أعضائها. والأمر الثاني هو انقسام الاتحاد على نفسه بين مجموعة دول تدعم فرنسا، وأخرى تقودها ألمانيا، وأن تتحول مركزية الوحدة الأوروبية إلى مجرد فكرة غير عملية، بما يدعم توجهات التيارات القومية في إعلاء مصالحها الوطنية على مصلحة الاتحاد الأوروبي، خاصةً في أوقات الأزمات.
ختاماً، بالتأكيد تدرك القيادة في فرنسا وألمانيا انعكاس الخلاقات الثنائية بين البلدين على حاضر ومستقبل الاتحاد الأوروبي، لذا الأقرب هو أن تعمل باريس وبرلين على تقليل هذه الخلافات، وضمان عدم وصولها لدرجة التأثير على الاتحاد نفسه، على الأقل في المرحلة الحالية، خاصةً في ظل تزايد التهديدات المشتركة التي تواجه الدول الأعضاء، وفي الوقت ذاته سيعملان أيضاً على تعزيز نفوذهما داخل أوروبا والعالم، وهي معادلة حساسة للغاية.
قد يهمك ايضاً