عمان ـ وكالات
وفاء العلمي طبيبة مغربية شدت رحالها قبل عقدين من الزمن نحو أحد أكثر المناطق عشائرية وولاءا قبليا بمحافظة الكرك جنوب المملكة الأردنية، هناك نجحت في مجال تخصصها كطبيبة أمراض جنسية وتناسلية كما أنها أسست مفهوما جديدا للعمل الجمعوي التنموي للمرأة المحلية هناك، والقائم على دعم المشاريع الصغرى ومحو الأمية الحرفية والقانونية في أشبه ما يسمى بـ «عملية اختراق» كما وصفها إعلاميون أردنيون قامت بها الدكتورة وفاء لأسوار مجتمع محافظ لا تزال المرأة فيه ترفض التصويت لنظيرتها المرأة، كيف وأي رياح حملت ابنة هرهروة بضواحي الرباط إلى وسط جبال الأردن؟ إليكم الحكاية كما روتها لـ «لكل النساء» بمكتب عيادتها وسط العاصمة الأردنية عمان. عودة إلى البدايات بشغف واضح لذكريات الدراسة والوطن, تتذكر وفاء فترة نهاية دراستها للطب في جامعة محمد الخامس في الرباط سنة 1980 حين شاء النصيب أن تلتقي زوجها الحالي الأردني الجنسية الذي كان يدرس القانون بكلية الحقوق في الرباط, تزوجا بتزامن مع حصولها على الدكتوراه في الطب ومع إتمامه لدراساته القانونية, ليقرر الزوجان بعدها استكمال تكوينهما لخمس سنوات أخرى بفرنسا حيث تخصصت وفاء العلمي في مجال الأمراض الجلدية والتناسلية فيما حصل الزوج على دكتوراه في القانون, تقول وفاء عن تلك المرحلة: «لم يكن بعدها قرار التوجه نحو الأردن بهدف الاستقرار النهائي أمرا سهلا بالنسبة لي بعد عيشي في المغرب وفرنسا، إضافة إلى معارضة الأهل, لكن بالنهاية حزمت حقائبي نحو محافظة الكرك مسقط رأس زوجي بعد أن عثرنا كخطوة أولى على مسكن بمحاذاة المستشفى العسكري الأردني في الكرك». مرحلة ثتبيت الذات في مجتمع محاف اشتغلت وفاء العلمي بداية كطبيبة زائرة بالمستشفى العسكري، حصلت على الجنسية الأردنية وشرعت في التأقلم مع ثقافة البلد حيث مكنها العمل كطبيبة من الانفتاح على شرائع مختلفة من مجتمع مدينة الكرك المحافظ، فضلا عن انفتاحها على مدارس زملاء المهنة المختلفة عن تكوينها الفرنسي الأصل, شهورا فقط بعدها تقدمت لاجتياز مباراة الدولة لنيل وظيفة طبيب رسميا، تقول عن ذلك: «بعد نجاحي في اجتياز المباراة بيومين فقط فوجئت بممرضة تطرق بابي قائلة أنها مبعوثة من المستشفى الحكومي العام الذي كان في حاجة إلى تخصصي في الأمراض الجلدية والتناسلية, في الغد وجدت ملف تعييني بوزارة الصحة الأردنية جاهزا لألتحق فورا وذلك كأول طبيبة امرأة متخصصة في الأمراض الجلدية والتناسلية في المستشفى الحكومي « سنتين قضتهما كذلك وفاء العلمي بهذا المستشفى»، لكنها في يوم من الأيام تفاجأ بإعلان في جريدة رسمية أردنية غير مسار حياتها درجات. الانتقال إلى القطاع الخاص جاء في الإعلان الحكومي اعتراف رسمي من المجلس الطبي الأردني بشواهد التخصص التي حصلت عليها وفاء العلمي من فرنسا, وهذا كان تحول كبير في حياتها تقول في هذا الاتجاه: «قبل هذا الإجراء كنت اشتغل طبيبة مختصة تبعا لخبراتي لكن بأجرة طبيب عام, بعد اعتراف معادلة الشواهد قررت فتح عيادة خاصة كانت الأولى من نوعها في المنطقة مستفيدة من قاعدة واسعة من المعارف كونتها خلال فترة عملي بمستشفيات المدينة»، وهكذا أشرفت وفاء العلمي من خلال عملها الخاص على التأمينات الصحية لمصانع محافظة الكرك الصناعية، فضلا عن عملها في تطبيب ساكنة المنطقة مما أكسبها شعبية كبيرة دشنت بها الدكتورة وفاء لتجربة رائدة وجديدة في مسارها كطبيبة في مجتمع يوصف بالمنغلق وذو عقلية ذكورية متمسكة بمبدأ الانتماء العشائري. وفاء الفاعلة الجمعوية عشر سنوات من الاندماج داخل المجتمع الأردني كانت كافية لتسبر وفاء العلمي دهاليز حياة البلد العامة ومتطلبات نسائه، وهكذا أسست سنة 2004 جمعية «سيدات بني حميدة للعمل التطوعي والاجتماعي»، تقول عن ذلك: «كنت قد تشبعت جدا بثقافة أحد أكثر مناطق الأردن انغلاقا حيث مشاركة المرأة في الحياة العامة بمختلف مجالاتها وكذا حركية المجتمع المدني النسوي شبه جامدة، فأدركت حاجيات النساء المختلفة والطرق التي من خلالها يمكننا التكتل داخل إطار جمعوي يتغلب على القيم العشائرية السائدة وفور تأكدي من قدرتي على جلب الدعم الخارجي والتأييد الداخلي من إعلام ومؤسسات وطنية، بادرت إلى تأسيس الجمعية»، والتحقت بالجمعية في البداية حوالي خمسين سيدة من المناطق الريفية بضواحي الكرك سطرن تحت إشراف الدكتورة العلمي مجموعة من الأهداف الأولية لنشاطهن الجمعوي كالتوعية والتحسيس بالحقوق والمكتسبات، وأهمية المشاركة النسائية في الحياة السياسية, محو الأمية والاهتمام بحقوق الطفل وتأسيس دور للحضانة والبحث عن أفكار مشاريع اقتصادية مدرة للدخل تتناسب وخصوصيات المنطقة فضلا عن تنظيم دورات تدريبية في مهن وأعمال يدوية ثراتية تقليدية. إنجازات الجمعية نجحت الجمعية في السير قدما نحو تحقيق أهدافها وهو ما عكسته الصحافة الأردنية التي ما فتئت تنوه بأصول رئيستها المغربية القادمة من بلد راكم خبرات مهمة في مجال العمل الجمعوي النسوي. فكان أبرز إنجازات الجمعية «مشروع للبهارات والحبوب» أشرفت عليه مجموعة من النساء القرويات اللواتي نجحن في تسويقه للمؤسسة العسكرية الأردنية, هذا المشروع جلبت له الدكتورة وفاء دعما ماليا مقداره 25 ألف يورو, وعبر عملية تشاركية بين قسم التنمية المحلية لجامعة مؤتة الأردنية ووزارة التنمية الأردنية ومؤسسة التعاون والتخطيط الدولي التي منحت الجمعية ثلاثين ألف يورو تمكنت من إطلاق مشروع «كركيلو» لإنتاج الفطر، وهو المنتج الذي بيع على نطاق واسع في الأسواق الأردنية مؤكدا بذلك نجاح فكرة المشاريع الصغرى مما لفت انتباه مؤسسات محلية ودولية لنشاط الجمعية الصاعد والمختلف, فتوالت بعدها مشاريع أخرى كتشذيب الحدائق المنزلية والتطاريز التقليدية وزينة الخيول والشماغ الأردني التراثي, وهي مشاريع قاسمها المشترك الإشراف الكامل لنساء قرويات عليها. تقول الدكتور وفاء في هذا الصدد: «أردت الانتهاء من فكرة اعتبار المرأة فقط وعاءا للزواج والإنجاب والاتكال الاقتصادي الكامل على الرجل وقد أسعدني جدا أن تكون الخطوة الأولى في هذا الاتجاه على يدي، لهذا أوليت أيضا اهتماما لتحسيس النساء بقيم العدالة والمساواة وأهمية المشاركة في صنع القرارات السياسية والاقتصادية». أيام الطب المجانية موازاة مع عملها اليومي في استقبال المرضى بالعيادة ونشاطاتها الجمعوية والحقوقية تعتبر وفاء من أبرز المساهمين في الأيام الطبية المجانية التي تنظمها دوريا وزارة الصحة الأردنية ونقابة الأطباء ومستشفى الكرك الحكومي، وذلك على شكل قوافل طبية تطوعية تزور مناطق نائية كـ «الطفيلية» وقبائل «الأغوار» العربية على الحدود الأردنية – الفلسطينية, تقول الدكتورة وفاء بأنها تعد المرأة الوحيدة في مجال تخصصها في تلك القوافل, وفضلا عن الكشف المجاني للمستفيدين توزع الدكتورة وفاء أيضا كميات كبيرة من الأدوية بشكل مجاني كنشاط الجمعية التي تترأسها الشيء الذي أهلها أكثر لحصد شعبية واسعة في قرى عشائرية جنوب أردنية مغرقة في التحفظ على خروج المرأة للعمل والنشاط الجمعوي. وفاء الزوجة وأم الطبيبات الثلاث حين التقيناها بمكتب عيادتها وسط أحد أحياء عمان الراقية, تساءلنا عن سبب استقرارها الأخير بالعاصمة عمان بعد 22 سنة من ممارسة الطب والعمل الجمعوي بالجنوب الأردني بمحافظة الكرك فأجابت قائلة: «في المغرب نشأت في كنف أسرة دافئة متماسكة وكثيرة الأفراد، لهذا حلمت منذ الصغر بنمط أسري مماثل, لهذا حرصت منذ البدء على لعب دور الزوجة والأم كاملا من طبخ وأعمال تنظيف وتربية الأولاد بنفس اهتمامي المهني والجمعوي, وقراري بالاستقرار أخيرا بعمان هو رغبة مني في أن أكون قرب أولادي وأحفادي اللذين شاءت ارتباطاتهم الأسرية وظروفهم الدراسية والمهنية الاستقرار بعمان، هذا دون أن أتخلى على روح أهداف الجمعية التي أسستها ومواصلة الإشراف عليها ولو عن بعد». وفاء أم لشاب يتابع دراسته بكندا فيما بناتها الثلاث جميعهن تخصصن في الطب والصيدلة, حيث عملت الطبيبة الأم على توجيههن وحرصت أكثر على حصولهن على تداريب بمستشفى ابن سينا في المغرب حيث درست وتخرجت, تقول عن ذلك: «أردت أن يستحضر الناس مستقبلا أصولهن من ناحية الأم وكذا حصولهن على تكوين مهني في المغرب، لكن يهمني أكثر أن تقف بناتي على تاريخ وحضارة بلادي وأن تنفتحن على ثقافاتها المتعدد والغنية». اعتزاز وفاء العلمي ببلدها الأم يظهر جليا في حياتها اليومية، فهي مواظبة على إعداد أطباق مغربية وارتداء الزي المغربي في كل أفراح العائلة، الموسيقى المغربية بدورها لا تغيب عن أجواء البيت, تبتسم قائلة: «أنا من عشاق برنامج (شذى الألحان)على القناة الثانية ومتتبعة جيدة لكل ما هو أصيل وراقي في ثقافتنا المغربية الأصيلة التي لا أنفك عن تعريف أبنائي ومعارفي بثرائها وتميزها».