دمشق - جورج الشامي
رغم أن مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين أحد رموز القضية التي يتغنى بها الحكم السوري ومؤيدوه في ما يتعلق بالممانعة والمقاومة، إلا أن ذلك لم يشفع لهذا المكان بالراحة والعيش الكريم. ففصول الكارثة الانسانية التي حذّرت منها مراراً كل المؤسسات الاغاثية بالظهور، نتيجة الحصار التام المفروض على المنطقة الجنوبية من دمشق منذ ستة أشهر، بدأت قبل أيام، فسقط نتيجة الجوع
والبرد ما يزيد عن 20 مدنياً في مخيم اليرموك وحده بحسب الاحصاءات، وهي النسبة الأعلى في كل المناطق السورية المحاصرة حتى الأن، ولازال سلاح الجوع والحصار الذي يستخدمه الحكم السوري دون رادع من أحد؛ مستمراً في حصد أرواح المدنيين بمختلف أعمارهم ومناطقهم.
وتقول المعلومات إن كل فرص الحياة في المخيم انعدمت على مدى أيام الحصار الطويلة، وخسر خلالها الجميع مصادر رزقهم، وبالتالي زادت نسبة الفقراء بينهم، وأولئك المعتمدين على الغير في تأمين قوت يومهم، حتى استحالت أخيراً نتيجة انعدام الموارد الغذائية كلها، واصبح الأهالي ينامون ويصحون على ايقاع صوت معدتهم الخاوية، وكان الأثر الأعظم لحالة الفقر وندرة المواد الصالحة للأكل هذه في المخيم، يقع على كاهل رب الأسرة الذي أصبح يواجه مصاعب يومية خلال البحث عن اي شيء يسد رمق عائلته وأولاده، وغالباً ما يضطر إلى التخلي عن الطعام من أجل توفيره لهم.
وبحسب ما قاله المواطن ابو عدنان "أحد المحاصرين": الرجل يخرج منذ الصباح وحتى المساء لتدبير اي شيء وتقديمه قوتاً لعائلته، مضيفاً: لقد رأيت ذلك بنفسي مراراً، الوالد والوالدة يكتفون بلقمة أو اثنتين ثم يتخلون عن الأكل كي يطعموا أولادهم، ويتابع واصفا الشعور المؤلم بالعجز لدى الوالد: دوما تجد في صوته شيء مكسور، كيف وهو "أب" لا يستطيع اطعام اولاده؟. وهذا الشعور بالعجز وعدم القدرة على اعالة أهله هو ما دفع الشاب ( مازن – 18 عاماً) للانتحار بعد عجزه عن اعالة امه وأخواته وهو معيلهم الوحيد منذ وفاة والده، وهذه الحالة هي الأولى التي تسجل في مخيم اليرموك والمناطق المحاصرة في دمشق، وهو ما يعتبر مؤشراً خطيراً على تدهور الأوضاع الانسانية والآثار النفسية التي يوّلدها العجز الشديد جرّاء الحصار القاتل الذي تفرضه حكومة دمشق، والذي يسعى من خلاله أيضاً؛ إلى تفتيت اللحمة الاجتماعية بين الاهالي المحاصرين، ودفعهم للقيام بممارسات غير اخلاقية كالسرقة مثلاً والتي تظهر في اي مجتمع يعيش هذه الظروف المأساوية، وقد بدأت بالفعل تتبدى في بعض احياء المناطق المحاصرة.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية قام اهالي مخيم اليرموك بالعديد من التحركات الشعبية دعماً لمبادرة منظمة التحرير الفلسطينية من أجل فك الحصار عنه وادخال المعونات الغذائية والدوائية إليه، والتي كانت تعرقلها على الدوام الجبهة الشعبية - القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل، وقد خرجوا في مظاهرات عديدة باتجاه الحاجز كان آخرها مظاهرة "الأكفان" ( 6- 12 – 2013) والتي راح ضحيتها خلال المواجهة مع عناصر الحاجز أربعة قتلى، ولم تتوقف التحركات عند هذا الحد، فقد انطلق أطفال المخيم في اليوم التالي بمظاهرات جديدة حاملين بايديهم " الأواني الفارغة"، وقد شارك فيها بالمئات وجابوا الشوارع وهم يهتفون ملأ حناجرهم " جائعين ..لآخر حد ". و يقرعون أوانيهم علّ ضجيجها يصل إلى من يمنع عنهم الطعام والدواء منذ أشهر طويلة، وبالرغم من صغر سنهم لم يخلوا هم أيضاً؛ من نبرة التحدي في هتافاتهم على غرار هتافات الثورة السورية " يا يرموك نحنا معاك ..للموت!". هدأت هذه التحركات لفترة بسيطة ثم عاودت للظهور مع تزايد اعداد الضحايا الذين بدأو يسقطون يومياً نتيجة الحصار، وفي اليومين الماضيين فقط سقط خمسة قتلى ما بين شاب وعجوز وطفل بسبب الجوع والبرد، وفي يوم الجمعة (27 -12 – 2013) تحولت مراسم تشييعهم إلى مظاهرة غاضبة منددين بالحصار والموت المجاني الذي يزهق ارواحهم، وقام أحد المشاركين الغاضبين بتذكير النظام قائلاً " نحن الفلسطينيين من ابناء اليرموك دخلنا إلى الجولان واقتحمنا مجدل شمس ، وكنّا أبطالاً بنظركم ونظر الجميع، والآن نعامل كأننا ارهابيون !" مشيراً إلى مسيرة العودة واقتحام الحدود مع الجولان المحتل التي قاموا بها في (5 -6 – 2012).
وختم كلامه مندداً بالحصار " في كل حروب العالم هنالك ممر انساني للمحاصرين فما معنى هذا الوضع الذي نحن فيه ؟!".
ومع بداية شهر ديسمبر/كانون الاول الحالي اطلقت المؤسسات الاغاثية في اليرموك ما اعتبروه النداء الاخير من اجل انقاذ حياة الاهالي المحاصرين، ولكن كما هي عادة النظام صم آذانه عنها وباقي المؤسسات الدولية، بينما استمر سقوط الضحايا من المدنيين، حيث يشير محمود موعد – مؤسسة جفرا الاغاثية إلى سقوط قتيلين نتيجة موجة البرد التي ضربت المنطقة في هذا الشهر أضافة إلى سبعة حالات نتيجة الجوع بأعمار مختلفة، كما أن هنالك تسع حالات جفاف في مشفى فلسطين من المتوقع خسارتهم للحياة نتيجة انعدام الادوية والاغذية المناسبة لهم، كما ان انعدام المستلزمات الطبية و الخبرات العلاجية أدى إلى زيادة عمليات بتر الأطراف وما يسببه ذلك من عجز دائم في حال نجو بحياتهم من الحصار.
من مخيم اليرموك أيضاً بثت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا مقطعا مصورا من قلب مخيم اليرموك في دمشق، وجهت فيه شابة فلسطينية رسالة مؤلمة تطالب فيها أمة العرب والإسلام وحتى بشار السد أن يقصفوا سكان المخيم -المثخنين جوعا وحصارا بالكيماوي.
وقالت الشابة وهي وسط وقفة نظمها سكان محاصرون: "موتونا على السريع جماعيا، ولا تموتونا بشكل بطيء من الذل".
وأوضحت الشابة أن الأعراض تنتهك وأن النساء تضطر لبيع أجسادها وسط هذا الحصار القاتل، مطالبة رئيس السلطة الفلسطينية أن يلتفت لمأساتهم أو أن يتنحى.
وتعنى مجموعة العمل من أجل فلسطيني سوريا تعمل المجموعة على توثيق ورصد الأحداث الميدانية اليومية لأوضاع الفلسطينيين المقيمين في سوريا، لاسيما في ظل الحرب التي يشنها بشار الأسد على الشعب السوري، والتي لم يسلم منها عشرات آلاف الفلسطينيين الفلسطينيين، ممن عانوا القتل والتهجير والتعذيب والاعتقال وتدمير المساكن على يد قوات النظام وشبيحته.
بينما العالم مشغول بالإعداد لمؤتمر جنيف2، يستمر النظام باستخدام كافة انواع الاسلحة ضد المدنيين في سوريا دون حسيب أو رقيب، و بالرغم من تنوع ترسانته التي يستخدمها يبقى الجوع هو السلاح الأمضى في القتل البطيء لكافة أشكال الحياة في المناطق المحاصرة، وما تخلفه من آثار نفسية واجتماعية مدمرة قد يمتد أثرها لسنوات طويلة قادمة، يتجرع سُمها وآثارها الفلسطينيون والسوريون على حد سواء، ولم يشفع لأبناء مخيم اليرموك انتماؤهم للقضية المركزية التي يزعم النظام السوري انه المدافع الأول عنها، وحتى الآن تحركاتهم ومطالبهم بفك الحصار لم تجد من يسمعها بينما تستمر الكارثة الانسانية بخطف أرواحهم جميعاً.