الدار البيضاء - ليلى بنزروال
الدار البيضاء - ليلى بنزروال
عاشت تحلم ببيت صغير وأسرة حالها كحال عدد من الفتيات، لكنها أخطأت فكان خطؤها سهمًا صوبته نحو مستقبلها فكسر كل مخططاتها، وأصبحت اليوم امرأة منبوذة من قبل المجتمع.
أصبح هذا حال الأم العازبة في المجتمع المغربي، وهذه هي النظرة التي يصعب تغييرها، نظرة قاسية لا ترحم، وتنسى في كثير من الأحيان أن الخطأ أمر وارد، وأن هذه الأنثى المخطئة تبقى بشرًا،
وتتأثر، ولها إحساس وشعور إنساني.
أضحت للمرأة في المغرب اليوم مكانة مميزة، والأم العازبة جزء لا ينبغي استثناؤه، فهي أم وللأم في الإسلام مكانة، وهي امرأة وللمرأة في القرآن درجة عظيمة، فكيف لإنسان أيًا كان أن يحرمها هذه المكانة؟ وكيف تحاسب والله فوق كل شيء غفور رحيم؟
قررنا في تحقيقنا هذا منح الكلمة لهذه الفئة من المجتمع للبوح بما طال السكوت عنه، فإلى أي حد تغيرت نظرة المجتمع إليهن؟ وما دور الجمعيات في حفظ كرامتهن وكرامة أولادهن؟ وماذا عن كلمة المشرّع المغربي في هذا الصدد ؟
لنترك ولو لمرة واحدة العقل ومعتقداته جانبًا، ونبتعد قليلاً عن الأفكار الراسخة التي تؤمن بالمفروض والمحظور. حتى نتغلب ولو جزئيًا على الأحكام المسبقة التي تضع الغشاوة على أعيننا في كثير من الأحيان.
لندع الأحاسيس تتكلم ونستحضر المنطق القائل لا أحد من الخطأ سالم، فبهذا فقط يمكن الحديث عن الأم العازبة، وننظر إليها نظرة الأم الإنسانة لا الأم المجرمة كما يحلو للكثير القول.
دخلت "مجلة أسرة مغربية" عالم الأمهات العازبات، فكان وراء كل أم جرح ينزف يحتاج ترميمًا، وخلف كل جرح قصة وللقصة بداية، سلسلة من العذاب والمواجع وحّدت هؤلاء النساء على اختلاف قصصهن، التي احترنا في انتقاء بعضها أو على أي منها سنسلط الضوء، وكل واحدة لها من المعاناة ما يصعب حصرها في كلمات. وإن قلت في نفسك إنهن من أردن ذلك فأنت هنا لم تلتزم بما ذكرناه في البدء "أن نترك العقل وأحكامه المسبقة جانبًا".
أول أم قررت ومن دون تردد مشاركتنا قصتها كانت فاطمة، وهي عاملة فيمستشفى ابن رشد في البيضاء، تروي هذه السيدة أن والد طفلها ينتمي إلى أسرتها، وقد التقيا في أحد الأعراس، وهناك بدأت العلاقة بينهما، حيث تقدم لخطبتها وهي في سن 18، واستمر اللقاء بينهما إلى أن وصلت 21 من عمرها، وهناك وقعا في الخطأ الذي بعده مباشرة ابتعد وترك هاتفه لأحد أصدقائه، الذي في كل مرة تكلمه يقول لها إن فلانًا هاجر إلى إيطاليا، وفي ليلة أحد الأعياد كلمته وقال لها: أنا مستعد للاعتراف بحملك حالة إذا ما تأكدت أنه ابني، لكنه اختفى بعدها. ولأن أمرًا كهذا يصعب إخفاؤه كثر القيل والقال عليها، ووجدت نفسها في مأزق أمام أسرتها، فقررت السفر إلى الدار البيضاء حيث طرقت جميع الأبواب، إلى أن احتضنتها جمعية "إنصاف" التي حسب ما ذكرت خصتها وطفلها بالرعاية اللازمة، وتعلمت عندهم فنون الطبخ، وكانوا يهتمون بالطفل أثناء المرض، كما تكفلوا لها بأجر الكراء والمربية بعدما غادرت الجمعية لتستقر في بيتها، كما وجدوا لها العمل في مستشفى ابن رشد، وعندما أصبحت تتوصل بالأجر حينها فقط توقف عمل الجمعية. تروي فاطمة أن نظرة الناس لا ترحم، ينعتون الأم العازبة بأسوأ الألفاظ، ويتعاملون مع طفلها الذي لم يتجاوز السنوات الأربع على أساس أنه لقيط، كما لو كان المذنب في كل هذا. لكن على الرغم من المعاناة، رفضت التخلي عنه حتى إنها ترفض الزواج من شخص قد لا يحترم طفلها ويحبه.
لهند قصة قد تتشارك فيها مجموعة من المراهقات، فهي كما تقول كانت فتاة متمردة منذ أن صعدت للصف الأول الإعدادي، في إحدى الإعداديات في منطقة الدشيرة ضواحي مدينة أغادير.
كانت تكذب على أهلها وتضيف بعض الساعات إلى توقيتها الزمني لتذهب رفقة زميلاتها في نزهة إلى كورنيش أغادير، حيث في كل مرة تقضي بعض الأوقات رفقة شاب جديد وهي حينها لم تتجاور 14 من عمرها. إلى أن وصلت السنة الثالثة من الإعدادي، وكان يوم إضراب للأساتذة حيث اصطحبها رفيقها إلى بحر تاغزوت وهناك فقدت عذريتها، وقبل أن تتكيف مع الصدمة الأولى صفعت بأخرى أعظم وأنها حامل بتوأم.
كان أول ما فكرت فيه هند هو الانتحار، وهذا أول ما قد يخطر في ذهن مراهقة لم تتعلم من الحياة شيئًا، فشل الانتحار بعدما أخدها أفراد عائلتها إلى المستشفى، وعلموا من الأطباء أنها حامل، وبعد الخبر مباشرة توارت أسرتها على الأنظار وتركوها من دون عودة، فوجدت نفسها في كورنيش أغادير الذي كانت تعشقه مشردة ضائعة بلا سند أو مأوى، من دون أن يشفق أحد عليها تتنقل من مكان لمكان، وتتوارى عن أنظار الشباب حتى تتجنب الاعتداء عليها من طرفهم، أدخلتها سيدة فرنسية إلى منزلها، وآوتها حتى أنجبت طفليها التوأم، وهي للآن تشتغل عندها كخادمة، وفي الوقت نفسه تسكن هي وطفلاها في كنفها.
تقول هند "لولا تمردي لحصلت اليوم على دبلوم جامعي ولخطبت من أهلي ودخلت بيت زوجي برأس مرفوع، لكنه طيش المراهقة وإهمال الأهل الذين لم يتعاملوا مع مرحلة دراستي لإعدادية بالشكل اللازم، وتركوني ألهو كما يحلو لي، ناسين أنه إن زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده".
ما لا يجب الإغفال عنه أنه ليس لكل أم عازبة يد في واقعها، والنمودج فاطمة من البيضاء والتي تعرضت للاغتصاب من طرف أخي صديقتها.
توجهت يوم الحادث إلى بيت رفيقتها لتصطحبها معها إلى سيارة تعليم ففتح أخوها الباب وطلب منها أن تصعد فأخته في الدور الثاني من البيت تنظف، لتتفاجأ بعد أنه لوحده في البيت، فأخذ يتحرش بها إلى أن أغمي عليها، وتقول "حينما فتحت عيني وجدت نفسي ملقاة على الأرض وما إن فتحتها هددني وقال لو فتحت فمك بكلمة سأحرقك".
وجدت فاطمة الزهراء نفسها مصدومة وفي حالة نفسية صعبة مكثت بغرفتها مدة أسبوع لم تغادرها، إلى أن قررت مصارحة أهلها، وحينما فعلت كان هو قد غادر منزل أسرته وقالوا إنهم لا يعلمون شيئًا عنه.
تقول فاطمة الزهراء "كانت أسرتي محافظة ولم ترد أن تكبر الموضوع تفاديًا للفضيحة، وسكتوا عن القصة مكتفين بكلمة "الله يأخذ فيه الحق" "غير أن الجملة تغيرت ما إن علموا أنني حامل وباتوا يحملونني المسؤولية كأنني المذنبة، بل حتى وصلوا لمرحلة شتمي وعدم تصديق القصة التي رويتها، سئمت فحملت ثيابي وتوجهت لمنزل إحدى زميلاتي في الشغل، ولبثت عندها إلى أن أنجبت، وبعد شهر استأجرت مربية، وبدأت شغلي كسكرتيرة في إحدى الشركات، من دون الحاجة لدعم أو مساعدة أحد، نظرة الناس قاسية لكن حينما أحتضن طفلتي الجميلة وأرى ابتسامتها أنسى العالم بما فيه، حتى لم أعد أتأسف لما حصل، بل على العكس سعيدة لأني تلقيت هدية رائعة لم تكن في البال".
جاءت زهور لمدينة الدار البيضاء قادمة من مدينة الخميسات، راغبة في شغل في أحد المعامل في ليساسفة، حيث توسطت لها إحدى قريباتها، فوجدت البيضاء دولة كلها أضواء ومرح وضوضاء، فعشقت هده الحياة، وتقول" كان عمري لم يتحاوز الواحد والعشرين وكنت أرى الفتيات يرتدين ملابس فخمة، ويجلسن في كافيهات رائعة رفقة أصدقائهن فتمنيت أن أعيش حياة مثلهن، فقررت البحث عن شاب من كازا في سيارة يشغل فيها الموسيقى بصخب ويصطحبني في رحلة"، كان هدا أقصى ما تتمناه، وسرعان ما وجدته تمامًا كما تمنته تقول زهور:" كان شقيًا ويهوى الموسيقى الصاخبة مثلي، وكنت أشعر معه أني إنسانة مختلفة، كان يطلب مني بعض الأشياء التي لم أتخيل أن أصل إليها مع شاب، لكن في سبيل بقائه معي وأن لا أخسر حبه كنت أسايره".
استمرت العلاقة بينهما لأكثر من سنة، وحينما حصل الحمل خيرها ما بينه وما بين إسقاط الطفل، وقال بالحرف الواحد أنا أو هو، رفضت زهور إسقاط الطفل فغاب عنها وهي لا تعرف شيئًا عنه، لا نسبه ولا عنوان بيته ولا حتى مكان شغله، أنجبت الطفل وتنازلت عنه لرجل وزوجته، ومنذ ذلك الحين وبعد خمس سنوات وهي تطوف الشوارع بحثًا عن ابنها الذي تنازلت عنه، من دون جدوى إلى أن وصلها خبر قبل ثلاثة أشهر أن الطفل توفي بسبب مرض مزمن، فأصبحت حياتها عذابًا وتنتقم من نفسها حتى أضحت شبيهة بالمجنونة إلى أن أتى أخوها وأرجعها معه إلى الخميسات، هناك استعادت عافيتها وعلمت أنها الحياة، وكل شيء فيها قضاء وقدر. لكنها ما زالت تقول "كان في أمس الحاجة إليّ، وكان يصارع الموت وأنا بعيدة عنه، ربما هذا أكبر من أي عقاب آخر قد يحصل لإنسانة مثلي".
كانت أحسن من ألف أم، تقول خديجة، من يقل إن الأم العازبة ليست أهلاً لأن تكون أمًا ولا تستحق كلمة أم، فعليه ومع كامل احترامي إعادة النظر في مستواه الفكري، أنا ولدت بلا أبٍ أو بالأحرى تخلى عني، وعن أمي بلا رحمة أو شفقة، تمامًا كما فعل عدد من عديمي الضمير من الرجال. واليوم بكل وقاحة يدينون الأم العازبة كما لو كان الحمل يحصل بشكل أوتوماتيكي. يقولونها بكل وقاحة بلا حشمة أو وقار أم عاهرة، إن كانت أمي عاهرة فأنا أتشرف بها كيف ما كانت، فقد تحملت عذابي تسعة أشهر في بطنها، في الوقت الذي أسقط عدد من الأمهات المتزوجات أطفالهن بداعي تنظيم النسل، رهنت شبابها من أجلي، ورفضت الزواج حتى لا أعاني بسبب زوجها، في وقت تتخلى فيه الزوجة عن أولادها وزوجها بحجة أنهما لم يتفقا، من دون الاكتراث لمصير أولادهن. إن كنت مجهولة الأب فأنا لدي أم بقيمة ألف أب، مدت يدها في الشوارع ولم تختر طريق الدعارة، ربتني بشرف واشتغلت وتعذبت حتى أوصلتني اليوم إلى السنة الثانية من التعليم الجامعي شعبة الاقتصاد. كانت سندي أثناء المرض وغطائي في ليال البرد، وكنت أنا القلب الذي داخلها ينبض، إن أنا تعبت يتعب حتى أخشى عليه أن يتوقف، أنا بنت أم عازبة وأفتخر، لم تدفعني للفساد ولم تستغل جمالي كي أحضر لها مالاً من أحد السياح الأجانب أو من أغنياء المغرب. ربتني على الإيمان والصلاة وأن نرضى بما قسمه الله لنا، فاسأل نفسك ماذا فعلت جيدًا في حياتك قبل أن تحاسب غيرك على أخطائه، فليس كل مخطئ في النار، وليست كل أم عازبة إنسانة عاهرة. وجاء الوقت لنعيد النظر في أعماقنا، ونتفهم الواقع ونتماشى معه. كفانا نظرة الناقد التي لا تتغير في أعيننا، وإن كانت كل الأمهات العازبات مثل أمي، فأنا أفتخر أن أمي أم عازبة لكني لا أفخر ولن أفخر بمن يعتقد نفسه رجلاً، ذاك الذي حرم نفسه مني، أنا ابنته التي شرفت والدتي بأخلاقي ومستواي الدراسي وأبدًا لم أخيبها".
رغم اختلاف ظروفهن وتعدد أسبابهن والمعانات التي مررن بها، إلا أنهن أمهات أنانيات، مجرمات، ركضن خلف الشهوة والحب والعلاقات غير الشرعية، متناسين واقعنا ومجتمعنا الإسلامي والمحافظ، ضاربين بالقيم والمبادئ عرض الحائط، وحينما تتكلم معهن يكون الجواب "لم أكن راشدة وضحك علي" أو "وعدني بالزواج لكنه تخلى عني" بالعقل والمنطق ما دخل هذه الكلمات في العلاقة الشرعية، فالمرأة المغربية قبل كل شيء أخلاق واحترام ومبادئ، لا يجب التنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف. لذا فأنا أسطر على كلمة مجرمات فهن أجرمن في حق مجتمعنا ومن مدة كتب مقال عن واقع المغرب وعدد الأمهات العازبات المرتفع في إحدى الجرائد القطرية، فهل هذه هي الصورة التي يسوقنها للعالم عنا؟ هل هذه هي المرأة المغربية؟ طبعًا لا فهؤلاء الأمهات أجرمن في سمعة الفتاة المغربية، من دون أن نتكلم عن الأطفال المتشردين في الشارع بلا مأوى، ومن يقتل وهو لا يزال في الأحشاء، فمهما كانت ظروفهن الصعبة فهذا لا يمنع من كونهن دخيلات عن مجتمعنا ولا بد من وجود حل لهن، حتى تنتهي هذه السلسة التي لم نجد لها حلاً.
المشكل أبعد من أن نحصره بنظرة المجتمع إليهن، بل نظرة الدولة ككل، المشكلة أننا آمنا بالوسطية فوق المطلوب، فنجد أن خروج البنت متبرجة شيء عادي، وأننا أصبحنا مجتمعًا حضاريًا، وللمرأة حقوق وحرية، كما نتقبل رؤيتها مع حبيبها في مكان عام، وأضحى الأمر عاديًا بالنسبة إلينا، لكن من غير المعقول أن نؤمن ببعض الحرية ونترك بعضها. فهي إما أن تكون أو لا تكون، إما أن نقول نحن مجتمع إسلامي ولا يجب للمرأة مخالطة الرجل ونصبح مثل دول الخليج. أو نكمل على قناعاتنا ونتحمل مسؤولية الحرية النسائية بإيجابياتها وسلبياتها، فحينما نصل لهذه الدرجة من الوعي، لن نجد أنفسنا أمام هذا المشكل، فحينها يصبح الرجل والمرأة متساويين، والخطأ يقع عليهما معًا ويجب تحمل عواقبه. لكن مشكلتنا أننا ما زلنا نأخد الواقع على مزاجنا ونحلل ما نريد ونحرم ما نريد. لم نقول الأم العازبة ولا نقول الأب العازب؟ ما دام الإسلام لم يفرقهما بقوله سبحانه: (الزانية والزاني) فمن نحن حتى نحاسب المرأة ونستتني الرجل، وأية أنانية هذه.
أنا أحترم الأم العازبة فهي على الأقل تصرفت بأسلوب رجولي وواجهت العالم، وماذا عن الذي حصر رجولته في الجانب الجنسي فقط، وهرب كما تهرب الفئران إلى الجحر. ويقول بكل وقاحة أنا رجل، فالرجولة سيدي أن تواجه نفسك والعالم، وتعترف بأخطائك وتقولها نعم أنا أخطأت، فكن رجلاً مع نفسك قبل أن تكون مع الأنثى في الفراش رجلاً.
كلنا نساء وأنجبنا نساء، لكن ليست أي امرأة أمًا عازبة، فأنا أؤمن بالمثل المغربي" فين درتي راسك تلقاه" فمن أرادت الدراسة والعمل والعيش بشرف ومن حلمت بالزواج الحقيقي وتأسيس بيت محافظ، فهي بعون الله ستصل، أما التي تمردت وكانت الحياة بالنسبة إليها تسلية وزينة وماكياجًا ومصاحبة الشاب حسب شكله وماله، ولا تملك أية قواعد، ولا تعرف الحدود في علاقتها فتكون النتيجة في غالب الأحيان أن تصبح أمًا عازبة، كما انني أدين الدعم والقيمة التي تمنحها الجمعيات لهذه النساء، فبالنسبة إليّ هذا أمر مشجع حيث لم تعد الفتيات يكثرتن ما دمن يعرفن مسبقًا وضعهن في حالة حدوث الحمل.
ويجب وضع حل لهده المهزلة وعلى من أخطأت تحمل نتيجة خطئها، والمال الذي يصرف عليهن نحن كفئة فقيرة محافظة أولى به من هذه الأم التي ينقصها العقل والأخلاق.
النسبة الكبرى من الأمهات العازبات تتمثل في فئة القاصرات، لهذا فلا يجب لومهن بل لوم الأهل والرجل عديم الضمير، الذي يفض بكارة قاصر من دون تأنيب ضمير، ويتهرب في آخر المطاف.
أما عنها فكم من أشياء ارتكبناها في حياتنا وندمنا عليها، كم من مرة كذبنا ونحن نعلم أنه حرام، وأخرنا الصلاة ونحن نعلم أنها علينا كتاب موقوت، لكن قد يأتي يوم نصلح فيه أخطاءنا. والأم العازبة يكفيها جحيم واقعها فلم نزيدها من المعاناة؟ علينا التعامل معها كما نتعامل مع باقي الناس العاديين، لم هذا التمييز والعنصرية؟ لم لم نغير بعد نظرة القسوة للأمور التي تربينا عليها، فحقيقة مجتمعنا لا يرحم ولا يؤمن بالأنثى كإنسان.
رئيس المجلس المحلي للعدول في محكمة الاستئناف في البيضاء ورئيس الجمعية المغربية للزواج وإصلاح ذات البين وجمعية "ربيع القلوب" للأعمال الاجتماعية والعلوم الإسلامية.
الأم العازبة اسم دخيل على المجتمع المغربي، ومعناها المرأة التي يكون لها ولد مجهول النسب، وتنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: من كانت حرفتها الدعارة والفساد والزنا بجميع أنواعه. وأثناء ممارستها لهذه الحرفة أنجبت ولدًا، وهذا النوع مردود من الناحية الشرعية والقانونية، ومرفوض من طرف مجتمعنا. لأن السباحة في المياه العكرة ليست من سماتنا، ولا من شهامة عروبتنا. فالزانية لا ينكحها إلا زانٍ مثلها، وإذا تقدمت إلى العدالة يحكم عليها بالفساد في قانون الأرض والرجم في قانون السماء.
أما النوع الثاني: فهي من وقعت عليها واقعة تحت الإكراه أو الإغرار بها إذا كانت قاصرًا. وهذا النوع يعتبر مضطرًا غير باغ ولا إثم عليه.
ويتوجب على المجتمع أن يقف إلى جانبها لتأخذ حقها لإثبات نسب ما أنجبت، كما على الطرف الآخر الاعتراف بما نسب إليه، وأن يرحم تلك المسكينة من نظرة المجتمع القاسية، والمسيئة إليها. ويرحم نفسه أمام ربه بإقرار ثبوت النسب، كي يلحق ما نسب إليه بإخوانه حتى لا نسقط في ما يسمى بزنا المحارم والعياد بالله.
تمثل الأم العازبة وضعية شاذة اجتماعيًا في مجتمعاتنا، فلا يعترف بها من الناحية القانونية. والواقع أن المشرّع في بلادنا لا يريد التعامل مع هذه الوضعية بجدية وواقعية. فهو لا يريد أن يتطور حتى يتمكن من التماشي مع المجتمع. غير أن الضحية الكبرى يبقى الطفل الذي لا ذنب له في كل هذا، فقط أنه جاء للوجود من دون زواج شرعي بين والديه. وهذا شيء ينعكس على المجتمع ككل في المستقبل، حينما يكبر وينعت بصفة لقيط، ويكتشف أن لديه نسبًا مجهولاً، وتصبح لديه عقدة، وبالتالي قد يتمرد ويفكر في الانتقام من أي شخص. وهنا تتجلى خطورة الموقف، أما بالنسبة إلى هذه الأم العازبة فلا يجب أن نلقي اللوم كله عليها فالمسألة تمس الأسر بصفة عامة، يجب أن تصل الأسرة في تعاملها مع الأولاد إلى حدود التربية الجنسية، ويفهم المرء ويستوعب خطورة الأمر، ويأخذ احتياطه سواء تعلق الأمر بالبنت أو الولد.
أما من الناحية القانونية فعلى المشرع التدخل حتى يصبح للطفل اسم الأب الذي من صلبه. بالتالي فهذا يحفظ حقوق الطفل. كما يجب التعامل بعقلانية مع جانب الإرث أي أن الطفل ولو كتب باسم أب معين لن يرث إلا بعد موافقة من الأب نفسه، لهذا فدائمًا أقول إنه على القضاء الاجتهاد حتى يتجاوز هذه المشكلة، لأنها ليست بالهينة فعدد الأمهات العازبات في ارتفاع، كما يجب تدبير مدونة الأسرة بالأسلوب الذي من شأنه حفظ حقوق هاته الأمهات.
جدير بالذكر أن النقاش بشأن هذا الموضوع مطروح بقوة في المحاكم. والإشكال أن البرلمان والحكومة لديهما قيم دينية تتعارض مع هذا الواقع، لهذا فمن الصعب تقديم مقترح للحد من هذا المشكل، كما أن البرلمان لا يحمل هم ما يحصل في الواقع المعاش من مشاكل اجتماعية، لهذا فأرى أن القضاء هو الذي يتوجب عليه إيجاد الحل المناسب في أسرع وقت ممكن.
الأم العازبة مجرد الصفة التي تنعت بها تتحدث عنها، فهي إنسانة منبوذة من طرف الأسرة، منبوذة من طرف القانون، منبوذة من طرف المجتمع، لا وجود لحقوق لها ولا حقوق تضمن مستقبل ولدها، حتى من ناحية الهوية. لأننا نتواجد في مجتمع ذكوري ومجتمع الأنا. الأم فيه ضحية والابن ضحية، وهذا ما يجعل عددًا من الأمهات يتخلين عن أولادهن، لأنه لا يمكن تحمل تلك الاهانة والقسوة التي يتعرضن لها. هذا بالإضافة إلى الفقر والتشرد والمجتمع أو الدولة لا تقدم أدنى مساعدات، كما أنها لا تعترف بالأمهات العازبات بل هن في نظرها مجرد عاهرات، لا تكلف نفسها في التعمق في قصة هذه الأم ومعرفة واقعها وظروفها وما سبق واقعة الحمل، لا ترى إلا الحلقة الأخيرة وتكتفي بالحكم السطحي على الأم العازبة. وأنا دائمًا أركز على معانات الأطفال فهم الضحية رقم واحد، ذلك الطفل المسكين الذي لا ذنب له سوى أنه ولد في مجتمع لا يجيد إلا لغة حكم القيمة، عوض تقديم يد العون والمساعدة له وضمان حقوقه كمواطن.
وحتى لا نكون قد فتحنا الموضوع فقط من أجل الطرح، وحتى لا نمر على هذا الموضوع المهم مرور الكرام توجهنا لجمعية "إنصاف" التي أضحت قبلة عشرات الأمهات العازبات يوميًا، لنكتشف واقعهن عن قرب، ونعرف ما مدى الدعم الذي يتلقينه، وما مدى تتبع الجمعية للموضوع من الناحية القانونية فجاءت أجوبة جمعية "إنصاف" لرعاية الأمهات العازبات بالدار البيضاء كالآتي:
الحقيقة الصادمة أنه وخلال الفترة الممتدة ما بين سنة 2003 و 2009، 210 ألف و 343 امرأة مغربية وضعن على الأقل 340 ألف و 903 طفل خارج إطار الزواج، واحتلت الفئة العمرية ما بين 15 سنة و 20 سنة صدارة الأمهات العازبات بـ32% متبوعة بالفئة العمرية ما بين 21 سنة و 25 سنة بـ29% ثم الفئة العمرية ما بين 26 سنة و 30 سنة، بـ21 -كما يمكن أن نسجل أنه رغم ما تعرفه القوانين المغربية من تطور خصوصًا على مستوى النص إلا أننا يمكن أن نقف عند بعض الثغرات القانونية في هذا المجال، إذ إن المدونة تحدثت عن إثبات النسب بالخبرة الطبية وعند تطبيقها على أرض الواقع، نجد أن المشرع ربطها في مادة أخرى بحالة الخطبة، وهو ما ينتفي في حالاتنا التي نعيشها المتسمة بغياب هذا الشرط. كما أن الأم العازبة عند تقدمها بشكاية قضائية في الموضوع تصبح هي نفسها موضوع متابعة بالفساد! في حالة ولوجها لمسطرة القانون الجنائي مما يستدعي الوقوف عند هذا التناقض البارز بين مدونة الأسرة والقانون الجنائي ومقتضيات قانون الحالة المدنية، والذي يطرح صعوبات عدة من أجل تحقيق ثبوت الزوجية وثبوت النسب، خاصة بعد رفض الأب البيولوجي الاعتراف بالبنوة.
ونشير أنه منذ سنة 2007، 97% من الأمهات اللاتي استفدن من خدمات جمعية "إنصاف" توجد في وضعية مستقرة مع أطفالهن. وهذا إنما يدل على أهمية مرافقة الأم العازبة في وضعيتها الصعبة وتحسيسها "توعيتها" لتحسين محيطها الاجتماعي.
ورغم كل هذه المجهودات السالف ذكرها والمجهودات المبذولة من طرف كل المتدخلين وعلى رأسهم المجتمع المدني والجمعيات النسائية، إلا أن مشكل العقليات وغياب الجرأة في طرح هذا الموضوع من طرف جميع مكونات المجتمع يبقى عائقًا كبيرًا أمام الإجابة القانونية عنه، وأمام صياغة اجتماعية لهذه الفئة التي أصبحت واقعًا في المجتمع، وحتى لا تحتضن شوارع وقرى هذا الوطن أطفالاً متخلى عنهم عند هذه الزاوية أو تلك.