مراكش ـ سعاد المدراع
طرح ما تتعرض له النساء المغربيات من ممارسات عنيفة أسئلة بشأن جدوى قانون الأسرة، لا سيما إثر تنامي الظاهرة على الرغم من الجهود المبذولة من طرف الدولة والجمعيات و مراكز الاستماع والإرشاد و الدعم النفسي للنساء ضحايا العنف.
ويعود الفشل بالأساس إلى هيمنة ثقافة الاستبداد على عقول
بعض الناس وتصرفاتهم، لكونها امرأة في مجتمع تهيمن على بعض أفراده الثقافة الذكورية المستبدة، والتي لا ترى في المرأة كائنًا إنسانيًا كامل الأهلية، وعلى الرغم من أن بعض الخيارات الاقتصادية والثقافية والتعليمية، سجلت ارتفاعًا ملحوظًا في أوضاع بعض النساء، ومكانتهن وصورتهن، إلا أن قيم الثقافة الموروثة السائدة، والمعادية للمرأة، تنتشر على نطاق واسع بين بعض فئات المجتمع، الأمر الذي دفع "المغرب اليوم" لطرق أبواب الصمت في "مدينة النخيل"، المدينة الحمراء.
ولتقريب القارئ من معاناة هذه المدينة، تحدثت مراسل "المغرب اليوم" إلى النساء اللواتي تعانين في صمت مطبق، حيث كان القرار صعبًا، لطرح أسئلة عدة، منها كيفية السبيل للوصول لأنين الصمت؟، وكيف سيكون حال التربية والمجتمع إذا كانت المرأة تعاني؟، نظرًا لأن العنف ضد المرأة هو أهم المشاكل التي يمكن أن تفسد التربية وتغير مسار تطور مجتمعنا، وهل تلاقي نساء الحمراء نفس العنف الذي تلاقيه غيرها في مناطق أخرى؟ ولمن تفصح المرأة عن حالات تعنيفها؟ وهل تتجاوب مع الجمعيات ومراكز الاستماع؟ وما هي السبل الناجعة للحد من هذه الظاهرة؟
وطرح "المغرب اليوم" هذه الأسئلة على مركز الاستماع والإرشاد القانوني لرابطة الديمقراطية لحقوق النساء ضحايا العنف، والجمعية الحقوقية الرابطة إنجاد، واستمع إلى شهادات بعض النساء المعنفات، فضلاً عن شهادة المحامية في هيئة المحامين في مراكش الأستاذة نعيمة مطهر.
وفي مركز الاستماع والإرشاد القانوني لرابطة الديمقراطية لحقوق النساء ضحايا العنف في مركز جمعية الرابطة "إنجاد"، كان الخوف من الحديث، الذي عانينا منه في العثور على حالات، تكشف تفاصيل معاناتها وآلامها الزوجية، بدأ يضمحل، حيث ظهر لنا أن جدار الصمت والخروج للعلن، والإفصاح عن ما في جعبتهن من كدر، وغم، جراء علاقات زوجية لم تبنى بالصورة الصحيحة منذ البداية.
وتحدثت إلينا إحدى المستمعات في المركز، وتدعى لطيفة، لتكشف لنا بالأرقام، على أن الوافدات على المركز تتعرضن بصورة كبيرة للعنف الاقتصادي والقانوني، ما يعني أن الوافدات تشتكين من عدم أداء النفقة، وأحيانًا أخرى الطرد من بيت الزوجية، بالإضافة إلى الموروث الاجتماعي، الذي يدعم الفوارق بين المرأة والرجل، وسيادته عليها، واستمرار سيطرة الذكر على الأنثى، حتى سن متأخرة، سواءًا أكان أبًا أم زوجًا أم شقيقًا.
وأوضحت أنه "يتوافد على المركز نسبة كبيرة من النساء اللواتي لم تسلمن من كل الأصناف المتعارف عليها من العنف، توزعت حالاتهن بين العنف الجسدي والعنف القانوني، و كذلك الاقتصادي النفسي، والعنف الجنسي، فالأرقام الواردة تؤكد تنامي الظاهرة داخل هذا المحيط المحافظ".
ومن صور العنف المرصودة حسب الحالات، وحسب آخر تقرير أصدرته الجمعية، وردت إلى الجمعية 202 حالة في 2012، وتوزعت صور العنف التي تم رصدها كما يلي، اقتصاديًا 150 حالة، نفسيًا 140 حالة، قانونيًا 65 حالة، جسديًا 50 حالة، وجنسيًا 18 حالة.
وتوضح "سهام"، وهو الاسم المستعار للمعنفة، والتي روت باستعجال تفاصيل مهمة، قائلة "أنا أم لثلاثة أطفال، مستواي الدراسي ابتدائي، منذ سن الـ13 عامًا، وأنا أعاني من عنف مستمر، تمثل في الضرب والإهانة، تم طردي رفقة أبنائي، وكانت وجهتي الوحيدة، هي مؤسسة خيرية تتكفل بإيواء العجزة، وبعدها ذهبت لمركز الاستماع، ومن هنا تمت إحالتي على أخصائي نفسي، ثم قدمت شكوى قضائية، بحكم أنه لم يوفر لي سكنًا خاصًا، حيث قامت المحكمة بإصدار حكم رجوعي لبيت الزوجية، والنفقة على الأبناء.
وعن عدم الإنفاق والإهمال، نعود إلى السيدة لطيفة، التي تخبرنا أن "السيدة م.ر.، وبعد معاناة مع الزوج، الذي كان يتهمها بالخيانة، قدمت الضحية دعوة طلاق، فكان مصيرها بعد الجلسة الأولى، عاهة مستديمة"، وتواصل راصدة دور مركز الرابطة "إنجاد" في الحد من ممارسة العنف، وإيجاد الوسائل الوقائية ما أمكن، ومن ذلك معالجة أسبابه، وإذا لم يكفِ ذلك، ستلجأ الجمعية إلى الأساليب الرسمية لحماية من يمارس ضدها العنف، حيث تتنوع أشكال وأسباب العنف لدى "إنجاد"، ومنها العنف الجسدي واللفظي، الذي يتمثل في الضرب والإهانة باللسان، والتعذيب الممارس في بيت الزوجية، بمختلف الأشكال والألوان، ويزداد الأمر فظاعة حين تقف الأعراف والتقاليد إلى جانب الرجل، أما العنف النفسي، لاسيما التحرش الجنسي في الشارع والحافلات ومختلف الأماكن العمومية ومقرات العمل، والذي أصبح سلوكًا يوميًا، وقد يكون خلفية لطرد المرأة من العمل في حالة احتجاجها عليه.
فضلاً عن العنف الجنسي، الذي لا يقتصر على الاغتصاب، فهناك أشكال أخرى من العنف الجنسي، والذي تتعرض له المرأة بصورة يومية، ما يقود إلى ممارسة الدعارة، لاسيما عند القاصرات، والعنف القانوني، هو عبارة عن بنود ومواد في نص القانون، تدفع بإجراءات قانونية، للتمييز عند التطبيق بين المرأة والرجل، ويظهر في اختلاف القوانين بين المرأة والرجل، فيما يتعلق بالخيانة الزوجية، وحق رعاية الطفل (أي قانون الحضانة) بعد الطلاق، وقوانين تتعلق بأحقية المرأة بالحركة والتنقل بصورة حرة، وهناك أيضًا العنف الاقتصادي، الذي يتمثل في منع المرأة من العمل، أو إجبارها على العمل، وأيضًا السيطرة على أملاكها وحقها في الإرث، والسيطرة على امتلاكها نقودًا، وعدم إشراكها في مشاريع الأسرة وأعمالها، أو حرمانها من المال لقضاء احتياجاتها.
هذا بالإضافة إلى العنف الاجتماعي، المتمثل في الجهل والتخلف والتقاليد والعادات الاجتماعية الخاطئة، التي تحول دون تنامي دور المرأة وإبداعها، والتشبث بالمبادئ المحافظة، التي تتبنى أكثر التفسيرات الفقهية تزمتًا تجاه المرأة، وتكرس نمطًا من الثقافة، يقوم على إقصاء النساء، وحصرهن في الأدوار التقليدية والهامشية، وشيوع ثقافة الشك في المرأة، التي أصبحت من المُسَلمات في المجتمع، مع أن الأصل هو إحسان الظن لا إساءته.
وأخيرًا، العنف الإعلامي والثقافي، حيث تتنافس وسائل الإعلام المختلفة في تقديم المرأة كوسيلة للاستقطاب إلى برامج معينة، أو سلع تجارية في إطار الإعلان، بل واللعب بمختلف الطرق الفنية التافهة على الجسد الأنثوي، لزيادة حقنة تخدير متلقي مخدر أصلاً، بفعل الهجوم الإعلامي الكاسح، ولا يمكن إغفال العنف الثقافي المتمثل في تدهور مستوى التعليم والتربية، الذي يشل نمو وتطور شرائح المجتمع كافة، حيث يُعد ما ورد في مناهج التعليم الإبتدائي، مثل "أمي في المطبخ أبي يقرأ الجريدة"، عنف ضد المرأة في حد ذاته، كونه يكرس لهذه القيم لدى الأطفال منذ الصغر، ليتقبلوها وتصبح ممارسات عادية في حياتهم اليومية.
ومن النتائج السلبية التي تترك أثرها على المجتمع، رصد "المغرب اليوم" مجموعة بارزة، منها فقدان الثقة بالنفس والقدرات الذاتية للمرأة كإنسان، وعدم القدرة على تربية الأطفال وتنشئتهم بصورة تربوية سليمة، والتدهور الصحي، الذي قد يصل إلى حد الإعاقة الدائمة، وكره الزواج وفشل المؤسسة الزوجية، من خلال تفشي حالات الطلاق والتفكك الأُسري، وهذا مما ينعكس سلبًا على الأطفال، ويتجلى في عدم احترام الذات والثقة بالنفس، وفقدان الإحساس بالطفولة، والاكتئاب، والإحباط، والعزلة، وفقدان الأصدقاء، وضعف الاتصال الحميمي مع الأسرة، وتبني العنف ضد الآخر، وتقبّل الإساءة في المدرسة أو الشارع، وبناء شخصية مهزوزة في التعامل مع الآخرين، والتغيب عن المدرسة، ونمو قابلية الانحراف.
وإذا أردنا الحد من صور العنف، التي أصبحت مظهرًا من المظاهر الواضحة في بلادنا، فعلينا التفكير في القضاء عليه، بتعاون كل الجهات ذات العلاقة، ومما تراه جمعية "إنجاد" جديرًا بالاهتمام في هذا الشأن، يتمثل في "وضع قانون إصدار يتجاوز أفق العقوبات الزجرية، ليتجدد تصورًا شموليًا عن العنف الموجه ضد النساء، من خلال حصر كل أشكاله و تصنيفها، بما فيها العنف النفسي، وإنشاء محاكم مختصة في مثل هذه القضايا، تتوفر على قضاة مؤهلين على مستوى التكوين، مع احترام التراتبية على مستوى توقيع العقوبات، كذلك إنشاء وحدة متمركزة لمساعدة النساء المعنفات، تقدم خدمات طوال الـ 24 ساعة، تتكون من مختصين في المساعدة الاجتماعية والنفسية والقانونية مع توفير مسكن للحماية".
وتضيف "إنجاد"، أنه "لابد من منح سلطات للضابطة القضائية بالاعتقال أو الإبعاد لمدة محدودة، في حالة تبين وجود خطر على السلامة الجسدية و النفسية للضحية، وترسيخ مفهوم التحرش الجنسي، ليشمل محاربة الحملات الإعلانية، التي تبث في وسائل الإعلام، وإنجاز برامج تربوية لمكافحة ترويج الأفلام البورنوغرافية، واعتبار الدعارة كعنف ضد النساء، يفرض البحث ومتابعة كل خلايا الإتجار في أجساد النساء، لاسيما القاصرات".
والتقى "المغرب اليوم" في هذا الصدد مع المحامية في هيئة مراكش الأستاذة نعيمة مطهر، والتي ترى أن "العنف ضد المرأة سلوك قابل تعلمه وتلقينه بطرق مختلفة"، وتؤكد أن "المجتمع يعلم المرأة أحيانًا أن تكون سلبية وخاضعة، ما يجعلها تقع فريسة السلوك العنيف من الرجل".
وتوضح لنا قائلة "يُعد العنف ضد النساء من أكثر أشكال العنف انتشارًا، ويمس حياة ملايين من النساء في كل أنحاء المغرب، بغض النظر عن أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية، وعن مستواهن التعليمي، ويتجاوز انتشار هذه الظاهرة اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد، ويؤثر بصورة كبيرة على حق المرأة في المشاركة بصورة فعالة في تطور مجتمعها، فالمجتمع عمومًا ينظر إلى مؤسسة الزواج على أنها فضاء للسلم وحياة مثالية، لكن في الواقع هناك عنف يمارس داخل الأسر المغربية، عنف مادي وعنف رمزي".
وتُبين "العنف الرمزي متجذر من المجتمعات، ومرتبط بتربية وعادات وتقاليد، يمارسها المجتمع على المرأة، لضمان طاعتها وخضوعها للثقافة الذكورية، لنلاحظ عندما نسأل أجنبيًا عن عمل زوجته يجيب "هي القائدة"، بينما الرجل المغربي عندما نطرح عليه نفس السؤال يجيب "جالسة في الدار حشاك"، في حين أن ما تقوم به المرأة من مجهود في المنزل، هو بحد ذاته عمل، لكن دون مقابل مادي"، وتشير إلى أن "هناك مجموعة من القوانين تنص على مكافحة العنف ضد المرأة، وتوفير الحماية والملجأ الآمن لها، ويستهدف القانون بالإضافة إلى العنف المقترف على يد الأزواج، التحرش الجنسي، وأشكال أخرى من العنف الاجتماعي والاقتصادي، لكن لازالت التابوهات المسكوت عنها في المجتمع العربي عمومًا، و في المجتمع المغربي خصوصًا، هو العنف الجنسي، الذي يتصدر القائمة في الباطن، والذي تذهب ضحيته مجموعة من النساء اللواتي لازلن في مقتبل العمر"، مشددة على "أهمية إعادة النظر في القانون المتعلق بإحضار الإثبات، الذي يطلب كلما جاءت إحدى الحالات إلى المحكمة، بغية القصاص من معنفها، في حين نجد أن القاضي يعمل على إرجاعها لبيت الزوجية، أو لحكم بالسجن على الأب، ما يخلف العنف ضد الأطفال، فضلاً عن ما تتعرض له النساء من إجبار على التنازل أو الإصلاح بين المتخاصمين، بصورة لا تضمن حقوقهن، على الرغم من أنها ليست قاعدة لكنها موجودة".
وعن تصورها للحل، تضيف المحامية "لابد من توفير مراكز إيواء، ومراكز تدخّل في حالات الاغتصاب والاعتداء الجنسي، والمساعدة، واستخدام وسائل الإعلام، لاسيما التلفزيون، لإبراز النتائج السلبية للعنف، والبدائل اللاعنفية، في حل المشاكل والترويج لبرامج مضادة للعنف، وتغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية السائدة عن السلوكيات المتوقعة من كلا الجنسين، والعلاقة بينهما، وكذلك التكوين المستمر لقضاة النيابة العامة، لتأهيلهم للتعامل مع قضايا العنف ضد النساء، وذلك من خلال تعاون وزارة العدل مع المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، كاليونسيف، وريونيفيم، ومملكة الدانمارك، وإسبانيا، وغيرها، في مجال تكوين أعضاء الخلايا بشأن السلوكيات الحقوقية، الواجب إتباعها في مجال التكفل بالنساء، فضلاً عن أمر النيابة العامة بالسماح لممثلات مراكز الاستماع بمصاحبة النساء ضحايا العنف، عند حضورهن للمحكمة، وتبليغ مراكز الاستماع ببرنامج المداومة، ليتأتى التواصل عند الاستعجال.
في الختام نجد أنه من الضروري التصدي شرعًا وقانونًا وإنسانيًا لمنابع البدوَنة والتشدد، من خلال نشر ثقافة المساواة، وتطهير المناهج التعليمية، والبرامج الإعلامية، والتشريعات القانونية، من كل ما يخل بقيم الإنسانية، التي تشيعها التعاليم السماوية، وتكرسها المواثيق الدولية.