لندن ـ ماريا طبراني
تعرض العديد من الجنود البريطانيين أثاء حرب العراق الأولى والثانية إلى استنشاق اليورانيوم المنضب، دون أن يتم إعلامهم مسبقًا بما يحمله ذلك من أخطار على الحياة، الأمر الذي تسبب للبعض منهم بأمراض مميتة، ومن بينهم كاترينا براون المصابة بمرض التصلب الجهازي.على جدار منزل كاترينا براون صورة عزيزة عليها، وهي في العراق، توجد فيها وابتسامة العريض مرسومة على وجهها وتعانق صديقاتها في الجيش
.
وفي صورة أخرى تقف وهي ترتدي الزي العسكري، قرب المستشفى الميداني (34) للجيش البريطاني في العراق، حيث كانت تخدم هناك كممرضة أثناء حرب الخليج الثانية.
وفي كلتا الصورتين، تظهر كاترينا وهي تبتسم بسعادة، وعيناها تلمعان، وبشرتها المشرقة في صحة جيدة، ولكنها اليوم، وبعد مرور عقد من الزمن، لا يمكن التعرف عليها على أنها هي نفس السيدة، حيث أصبح وجهها شاحبًا، كما أنها تعرج، لسبب الأضرار التي لحقت بأصابعها وقدميها، حين توجهت لتحريك لغم، بدا لها وكأنه كتلة من الجليد.
كذلك تعاني كاترينا من عدم القدرة على رفع درجة حرارة جسدها، حيث أصبح باردًا للغاية، لدرجة أنها اضطرت، العام الماضي، أثناء عطلتها مع زوجها الجندي تشارلي إلى جزر الكناري، إلى ارتداء جاكت عازل، صمم للمستكشفين القطبيين، بينما كانت تجلس على الشاطئ.
وعلى الرغم من أن عمرها 30 عامًا، إلا أنها تعاني من مرض مميت يسمى "التصلب الجهازي" (systemic sclerosis)، الذي أثر بصورة كبيرة على جهاز المناعة، وبدأ في مهاجمة الأعضاء الداخلية، وأضر ببشرتها، وفي حال عدم التوصل إلى علاج، لإيقاف المرض، ستموت.
استغرق المرض وقتًا طويلا من كاترينا، الفتاة المرحة الذكية من مانشيستر، لكنها الآن أصبحت واثقة من النهاية، وقبل أن تعود إلى وطنها، بعد الخدمة في العراق عام 2003، تسلمت من مسؤولي الجيش، بطاقة بلاستيكية بيضاء، جاء فيها "لقد عملتي في منطقة استخدم فيها ذخائر اليورانيوم المنضب، الذي يسبب اعتلال الصحة، قد تكوني تعرضي لغبار اليورانيوم المنضب أثناء عملك"، وتجلس كاترينا، ملفوفة بالبطانية، في منزلها في سايرنسستر، جلوسترشاير، وتقول "لقد حصلنا جميعًا على بطاقات، وبيانات لفظية، تحذر من مخاطر اليورانيوم المنضب في المنطقة، لم انتبه كثيرًا، كنت صغيرة، ومتحمسة للعودة إلى المملكة المتحدة، ولم أكن قلقة بشأن ما قد يحدث خلال عشرة أعوام الخدمة"، مؤكدة أنه "تم توجيه النصيحة لنا جميعًا، أفراد الجيش، بأن نقول عن نظام الـ(جي بي أس) الخاص بنا، الذي يجعلنا على اتصال باليورانيوم المنضب".
ولكن خشي الكثيرون، بما فيهم كاترينا، إذا فعلوا ذلك، أن يتم وضعه في سجلاتهم الطبية، ما قد يمنعهم من الحصول على التأمين على الحياة، أو الرهون العقارية، والآن، فإن كاترينا أدركت أن مرضها المميت، هو نتيجة لتعرضها لمواد سامة للغاية، التي كانت تستخدم في القنابل الخارقة للتحصينات، الموجودة تحت الأرض خلال الحرب.
ويرتبط اليورانيوم المنضب مع زيادة نسبة الإصابة بالسرطان، والعيوب الخلقية للأجنة، وهذا المنتج، هو ما يتخلف من تخصيب اليورانيوم الطبيعي، لإنتاج وقود لمحطات الطاقة النووية، أو الأسلحة النووية، وألقي اللوم عليه
وهذه المادة مسممة لدرجة كبيرة، وأكثر كثافة من الحديد مرتين ونصف، تستخدم لزيادة قوة اختراق القنابل، وطلقات الرصاص، فإذا تم إطلاق سلاح، مع توجيه ضربة باليورانيوم المنضب، لجسم صلب، مثل جانب الدبابة، فإن ذلك سيكون شديدًا، لدرجة أنه سيبقي أثرًا كبيرًا عليها، فضلاً عن أنها قابلة للاشتعال، بالإضافة إلى الأضرار المدمرة للهدف، قبل أن يشتعل، المتمثلة في سحابة بخار حارقة، تقع على الأرض في هيئة رماد، والذي يكون سامًا، إذا ما تم استنشاقه، كما أنه يحتوي على مستويات مرتفعة من الإشعاع.
وأثناء الشهور الأولى من حرب الخليج الثانية، عام 2003، قدر ما يزيد عن ألفي طن، من الذخيرة المزود بأسهم اليورانيوم المنضب، التي أطلقتها القوات الأميركية والبريطانية، هذا بالإضافة إلى 320 طن، تم إطلاقها في حرب الخليج الأولى، قبل 12 عامًا، وتمكنت تقارير رسمية، أصدرها العلماء العراقيون، من تحديد 365 موقعًا، لاسيما في منطقة البصرة (جنوب العراق)، بأنها لا تزال ملوثة بغبار اليورانيوم المنضب، ما أدى إلى تزايد أعداد الأطفال المصابين بالسرطان في المنطقة، وأصبح السكان المحليون يشكون من معاناتهم من أمراض خطيرة، تهدد حياتهم، لم تكن موجودة قبل حرب الخليج الأولى.
وفي وقت مبكر من عام 1997، حذر أطباء الجيش البريطاني وزارة الدفاع، في تقرير رسمي، جاء فيه "كل الموظفين العسكريين يجب أن يكونوا على علم بأن استنشاق ذرات اليورانيوم يحمل مخاطر على المدى الطويل، وقد تبين أن الغبار أدى إلى زيادة مخاطر تطوير سرطان الرئة، والسرطانات الليمفاوية، وسرطان المخ، ولكن لم تكن كاترينا وزملائها على علم بذلك، حين تم إرسالهم إلى مهبط طائرات مهجور، يدعى "شيبة" (Shaibah)، ويقع على بعد سبعة أميال من البصرة، حيث كانت هذه المنطقة تستخدم كمكب الأنقاض، توضع فيه الدبابات وغيرها من المعدات العسكرية العراقية التي تم تفجيرها في حرب عام 1991، بالإضافة إلى الأسلحة المحسنة باليورانيوم المنضب.
وقال العالم البارز والخبير في اليورانيوم المنضب الدكتور كريس باسبي، الذي أجرى اختبارات التلوث في منطقة البصرة، منذ وقوع هذه الحروب، "لا يزال هناك غبار يحتوي على اليورانيوم المنضب في كل مكان"، وأضاف أن "أي شخص يستنشقه فإنه يعرضه لمخاطر الإصابة بمشاكل صحية رهيبة".
وهناك ضحية أخرى، هو آندي هودجيتس (42 عامًا)، وهو حارس رماة القنابل السابق، الذي خدم في كلا الحربين في العراق، ومثله مثل كاترينا، فقد قضى خدمته في مهبط طائرات "شيبة"، واليوم، فإن آندي، الذي يعيش في نيو آرك، نوتنجهامشير، يعاني من سرطان القولون، وتمت إزالة معظم أمعاءه الغليظة.
آندي، الذي لديه زوجة وطفل، يأمل في إثبات صلة بين مرضه وتعرضه لليورانيوم، وهو يكافح للحصول على تعويض من الجيش، ويعتقد الدكتور باسبي أنه تعرض للتسميم، لسبب التعرض لليورانيوم المنضب، وقد عززت من قضيته النتائج، التي تم التوصل إليها، أثناء التحقيق في وفاة جندي يدعى ستيوارت دايسون، الذي قاتل في حرب الخليج الأولى، حيث قدم الدكتور باسبي الأدلة في جلسة الاستماع، وخلصت هيئة المحلفين إلى أن "احتمالية موت دايسون لسبب التعرض لليورانيوم المنضب، أو مساهمته في ذلك، أثناء خدمته في حرب الخليج الأولى، هي الأرجح".
وقدم المحقق في سبب الوفاة روبن بالمن تقريرًا بهذه النتائج إلى المستشار، يطلب فيه من الحكومة إتخاذ إجراءات لوقف الخطر الواضح، الذي يتعرض له أفراد الجيش، من أسلحة اليورانيوم المنضب في المستقبل، وقال "على إثر ذلك، فإن اليورانيوم المنضب يحرق إلى جزيئات أكسيد اليورانيوم الصغيرة، التي تتناثر في الجو، والتي تعد مشعة، ولذلك، فمن المرجح أن يكون الإشعاع قد تركز في الحمض النووي لخلايا القولون للسيد دايسون، ما تسبب في أضرار، أدت إلى السرطان".
من جانبها، ترفض وزارة الدفاع الكشف عن تفاصيل ما يعرف عن كيفية تسبب اليورانيوم المنضب بالأضرار، لأي شخص خدم في العراق، وعلى الرغم من ذلك، فإن بيانًا أدلى به في مجلس العموم، اعترف بأن اليورانيوم المنضب كان "من المحتمل أن يكون مصدر قلق بالنسبة لهؤلاء، أو المركبات، في الوقت الذي تم ضربهم به، أو أولئك الذين أدخلوه بعد ذلك".
وتسببت مثل هذه التعليقات في قلق عميق لدى المحاربين القدامى، الذين شاركوا في حرب الخليج، مثل كاترينا براون، التي بدأت تشعر بالمرض بعد أربعة أعوام من عودتها من العراق، والتي تقول أن الأوعية الدموية في أصابع يديها وقدميها بدأت في الانقباض، ونتيجة لذلك، فإن كمية قليلة من الدم تصل إليها، وتغيير لون جلدها إلى اللون الأبيض، كما أنها تشعر باستمرار بالبرودة وفقدان الحس، وتضيف "بدأت أشعر بالأوجاع والآلام في جميع أنحاء جسدي، بدأت أشعر بالإرهاق أيضًا، وأشعر بالبرودة في أصابعي وقدمي طوال الوقت، كنت أعمل كممرضة في شمال إنكلترا، في الوقت الذي قررت فيه زيارة الطبيب".
وجاء التشخيص إصابتها بمرض "رينو"، وهو حالة تمنع تدفق الدم إلى أصابع اليدين والقدمين، لاسيما في درجات الحرارة الباردة، واستمرت في العمل، في غرف العمليات في المستشفى، حيث كانت باردة جدًا، ما كان يجعلها تشعر بالبرودة، ومن أجل الشعور بالدفء، تم السماح لها بإرتداء الحذاء الرياضي، بدلاً عن أحذية الممرضات، التي يتم ارتدائها داخل غرفة العمليات.
وكانت يديها تفقد حركتها بسرعة، لذلك اضطر زملاؤها لجعلها تتناول الطعام، وقاموا بحقنها في الوريد، ولكن ذات يوم، بينما كانت تعمل في مستشفى رويال برادفورد، لاحظ جراح العظام أنها ترتجف، وسألها عن سبب ذلك، وأوضحت له أنها كانت تعاني من مرض "رينو"، لكنه قال إنه يعتقد أنه قد يكون الأمر أكثر خطورة.
وتم إرسال تحاليلها إلى مستشفى "NHS" في سالفورد، في مانشستر، والتي أثبتت أنها تعاني من مرض التصلب الجهازي النادر، والمزمن، والذي يحث نظام المناعة على مهاجمة الخلايا السليمة في الجسم.
وقال الأطباء لها أنه مرض متطور، وليس هناك علاج معروف متوفر في المستشفى، وأوضحوا أن هذا المرض كانت تحثه أحيانًا المواد الكيميائية السامة، وبعد ذلك بعام واحد، ربطت مرضها مع تعرضها إلى اليورانيوم المنضب في العراق، بعد أن عثرت على تلك البطاقة البيضاء الصغيرة، التي أعطاها إليها مسؤولي الجيش، والتي تتضمن تحذيرًا بشأن الأخطار المحتملة من اليورانيوم المنضب، وتقول "بعد ذلك فقط قرأت لأول مرة البطاقة بصورة صحيحة، وأدركت ما حدث لي"، وتضيف "على الفور، بدأت في البحث عن حالات أخرى لجنود الجيش، والمسعفين، الذين أصيبوا بالمرض بعد عودتهم من العراق"، وهذا البحث قادها، عن طريق الإنترنت، إلى طبيب يدعى ريتشارد بيرت، من مستشفى نورث وسترن ميموريال، في شيكاغو، وهو رائد في العلاج بالخلايا الجذعية البالغة، التي، وللمرة الأولى، قد تمكنت من مكافحة مجموعة واسعة من الأمراض، بما في ذلك مرض باركنسون والتصلب المتعدد، ومرض السكري والأهم من ذلك، أمراض المناعة الذاتية، التي تعاني منها كاترينا.
وقالت أنها تسعى الآن إلى جمع أموال تصل إلى 110 ألف جنيه إسترليني، لتلقي العلاج، وتوضح "أخبرني، حتى الآن لم يكن هناك أي علاج يعمل لمرض التصلب الجهازي، وأنا أعلم أن هذا العلاج بخلايا الكبار غير متوفر في المستشفى، ولكن نحاول عكس ذلك، للتعامل معه، ونحن على استعداد لمساعدة كاترينا".
وفي وقت سابق من نيسان/أبريل الجاري، كان في لندن، وإلقى محاضرة إلى المسعفين البريطانيين، بشأن العلاج، الذي ينطوي على محو الجهاز المناعي للمريض، و"إعادة تشغيله".
وفي الوقت نفسه، فإن كاترينا، تصاب بالوهن يومًا بعد يوم، حيث أنها بالكاد تثني يديها، وإحدى ساقيها وهي تمشي، وهي تعاني من الألم بصورة دائمة، ولديها مشكلة كبيرة في ارتداء ثيابها، وفي الرحلات النادرة، اضطرت إلى طلب المساعدة من نساء أخريات، من أجل مساعدتها في استخدام المرحاض، وقالت "أقوم بلف نفسي في البطانيات، ولا أستطيع معظم الوقت حتى التفكير في الخروج من المنزل".
ويجب على كاترينا أن تأخذ 18 من الحبوب كل يوم، بتكلفة قدرها 3 آلاف جنيه إسترليني في الشهر، في محاولة للحفاظ على التصلب والسيطرة على الألم.
ولم تلقي كاترينا باللوم على الجيش لما حدث، فهي تريد فقط جمع الأموال اللازمة للحصول على العلاج الأميركي لإنقاذ حياتها، وقد تم جمع 7،200 جنيه إسترليني حتى الآن، ويتم جمع التبرعات أيضًا من خلال الموقع الإلكتروني "gofundme.com/2jbkd0"، وتوضح "من المفترض أن أحصل على العلاج في غضون أربعة أعوام من التشخيص، وأنا في السنة الرابعة، فالوقت يداهمني".
بينما عبرت عائلتها عن غضبها أن "الناس يحصلون على مزايا الرعاية الاجتماعية من أجل لا شيء، في حين أن كاترينا لا يمكنها الحصول على المساعدة التي تستحقها، هذه شجاعة الممرضة السابقة، التي ترفض المطالبة بالتعويض من الجيش، لتظهر روح المحارب، التي جعلتها جندية جيدة، وهي تأمل في أن تفوز في هذه المعركة".