الرباط - المغرب اليوم
بمجرد أن تمعن النظر في تجاعيد وجهها البارزة، وخصلات شعرها المنسدلة من قماشها الأحمر الذي يغطي شعرها، تخبرك الألوان البرتقالية لتلك الخصلات أن للعجوز عمرا ضاربا في القِدم، يبلغ 120 سنة حسب ما صرح به أهل "الجدة فاظمة"، التي رأت النور في قرية "تَزْرُوتْ" بجماعة "ترميكت" ضواحي مدينة ورزازات.
عندما تحدثت إلينا فاظمة وعزيزي، أو "الجدة فاظمة" كما يدعوها أهل الدوار، تبدو على ملامحها علامات التركيز الشديد، في محاولة منها لإعادة الذاكرة إلى الوراء ومسك تلاَبيب الكلماتِ، لتروي لنا أحداث وقِصص فتاة وامرأة عصامية خدشت ذكريات الموت الخاطِف مخيلتها حينما فارقها أبناءها، ثم تحكي لنا عن "أَكْلاَوْ" (التهامي الكلاوي)، وأوضاع "عصر السيبَة"، ومساهمتها في ترميم قصبة تاوريرت، وعن معاناة "أسْكَاسْ نْتَامُوغْتْ"، وعن وضع المرأة آنذاك، ومع هذا الزمن كله، لازالت العجوز تتنفس نسيم القرن الواحد والعشرين عندما قابلتها جريدة هسبريس.
المدرسة للذكور
"ولدت بمنزل طيني لا زالت أركانه شاهدة على ذلك اليوم الذي رأيت فيه النور، لكن لا أستطيع أن أحدد لك بالضبط السنة التي ولدت فيها، لأننا كنا آنذاك لا نميز بين السنوات إلا بالأحداث فقط"، فسألنا "الجدة فاظمة" عن طفولتها وما إن ولجت المدرسة؟ لتجيبنا بصوت يلفه الحزن وملامح وجهٍ تشعرك باحتقار تعرضت له أغلب قرينات الجدة: "عندما كنت طفلة لم أقترب في يوم من الأيام من باب المدرسة أو المسجد، بسبب النظرة الدونية التي كانت ترافقنا نحن معشر النساء في ذاك الوقت".
وأردفت: "الذكور وحدهم من لهم الحق في الدراسة، وأغلبهم يتعلم القراءة والكتابة وأمور الدين من خلال فقيه المسجد فقط، والقليل منهم من يحظى بولوج المدرسة التي كانت حكرا على أبناء القواد وذوي النفوذ".
وزادت: "لقد تغير وضع المرأة بكثير يا بني"، لتؤكد لنا أن وضع المرأة الآن في المغرب لا يمكن مقارنته بحجم الصعاب والأوضاع التي كانت تحياها في السابق. فحسب "الجدة فاظمة"، فالمرأة اليوم أصبحت مثل الرجل في كل مجالات ومناحي الحياة عكس ما كانت عليه من قبل، إذ كانت تشتغل في الحقول وتحرث وتسقي الأرض وتقوم بتربية أطفالها، وتتعايش رغم أنفها مع ظلم عصر "السيبة".
الجدة وقصبة تاوريرت
تقول "الجدة فاظمة" إنها ساهمت في بناء قصبة تاوريرت؛ "كنا نعمل إلى جانب العمال، نسقي الماء من جنبات الوادي ثم نحمله فوق أكتافنا إلى فوق التل الذي شيدت فيه القصبة"، فطرحنا عليها السؤال حول ما إذا كانت تتذكر تاريخ مساهمتها في تشييد القصبة فأجابت: "كل ما أتذكره يا بني هو أنني كنت شابة حينها، وكنا مجبرات على فعل ذلك من طرف أَكْلاَوْ (التهامي الكلاوي)".
وللتأكد من معلومات "الجدة فاظمة"، عدنا إلى تاريخ قصبة تاوريرت، فوجدنا أن القصبة حسب الرواية الشعبية شيدت سنة 1754 من طرف أحد أثرياء المنطقة آنذاك، كان يدعى أمغار حماد الذي تركها لزوجته بعد وفاته، وبالتالي فإن الجدة لم تشارك في عملية التشييد، بل شاركت في عملية ترميم القصبة حينما أمر التهامي الكلاوي محمد بن الجيلالي بإعادة ترميم بعض أجزاء القصبة سنة 1928.
مخيلة الجدة زمن التهامي الكلاوي، لتبدأ المتحدثة جوابها بلكنتها الأمازيغية: "أَسِيغْفَرْ رَبِي أَشْكُو إِكُوتْ مَافِلاًغِيزْرِي" (فليغفر له الله لأن ما فعله بنا ليس بالسهل)، ثم تردف: "كانت أبقارنا الحلوب تستعار بالقوة من طرف خدام الكلاوي، حتى المحصول الزراعي الذي نعول عليه لسد الرمق لا يسلم من "الحْرَكْتْ"، وهي عملية يقوم بها خدام الكلاوي للاستيلاء على الأخضر واليابس، ومن يعترض على بطشه يكون مصيره النفي أو الحبس يا بني، حتى الحلي والمجوهرات لم تسلم من بطش "أَكْلاَوْ دْالعَسْكَر نْسْ"".
وجهة مجهولة
عندما سألناها عما إذا كانت تتذكر والدها المدني، أجابت "الجدة": "لم نعرف إلى حد الساعة مصيره النهائي بعد أن اختفى عن القرية"، لتسترسل: "المخزن يا ولدي كان السبب في رحيله عندما أحرق كل العقود والوثائق التي تثبت ملكيته لأراضيه فحرم منها غصبا، ومن ذلك الحين غادر القرية وانقطعت أخباره"، ثم تتوقف قليلا وتأخذ نفسا عميقا قبل أن تواصل: "فقدت ابني البكر، أيضا، في حادث مؤلم؛ لقد كان قارئا جيدا للقرآن، فذهب رفقة أصدقائه لإحضار الصلصال في كهف وسط الجبل ثم انهار الكهف على رأسه".
واسترسلت: "أما الابن الثاني فقد سقط من أسفل جبال أيت ساون بعد حادثة سير وقعت له بدراجته النارية"، ثم تردد بلسانها الأمازيغي والدموع تملأ مقلتيها: "أمُوتْنْ إِكْلِيينْ أمُوتْنْ إِكْلِيينْ"، أي "مات المسكينان مات المسكينان"، ثم تنهي حديثها: "أَغِي إِسَامْحْ رَبِي إِغْفْرَاغِ إِغْفْرَاسَنْ" (فليغفر لنا الله ويغفر لنا ولهم).
"أَسْكَاسْ نْتَامُوغْتْ"
"غابت الأمطار وجفت الآبار والأرض من كل خيراتها لنعيش أَسْكَاسْ نْتَامُوغْتْ يا بني"، وهي عبارة أمازيغية تعني عام الموت. هسبريس حاولت أن تعرف بعض تفاصيل هذا العام من خلال ذاكرة "الجدة فاظمة" التي قالت: "المخزن كان يمنحنا كيلوغراما واحدا من الأرز لكل عائلة، شريطة أن تكون مسجلة في لوائح معدة سلفا لهذا الغرض"، ثم تردف بلكنة حزينة: "أعرف عائلات لم تستفد عنوة من حبة أرز، لأنها كانت تعارض المخزن بشراسة"، لتصمت لبرهة وهي تحاول أن تخفي حزنها وقلقها من استعادة معاناة "أَسْكَاسْ نْتَامُوغْتْ" وتقول: "كنا نقاوم الموت يا بني ليس إلا. كنا نتشارك جميعا في وجبة غذاء وعشاء لا تكفي حتى للفرد الواحد. لا أخفي عليك تلك المشاهد التي رأيت فيها بعض الجثث على قارعة الطريق جراء الجوع وبطش أَكْلاَوْ".
فقبل هذا العام، تقول الجدة فاظمة، كانت الأرض تجود بخيراتها بالخضر، وبحكم وفاة زوجها ورحيل والدها كانت تتحمل نفقة المنزل وتسيره، إذ لا ينقصها سوى الزيت والسكر والشاي من دكان "مُوسْيُو دِيمِتْرِي"، الرجل التاجر الذي يمتلك أكبر دكان لبيع المواد الغذائية بورزازات آنذاك؛ "كنت أحضر السكر وعلب الشاي والزيت من دكان "ديمتري"، ما عدا هذه المواد الغذائية كل شيء كانت تجود به الأرض التي نحرثها بسواعدنا يا بني رغم الحصار والقهر الذي يفرضه علينا أَكْلاَوْ".
"حتى اليهود لم يكونوا أعداء لنا بقدر ما كان أَكْلاَوْ، كنا نتعايش معهم ونبيع ونشتري معهم، إذ كانوا جيراننا، لهم حي خاص بدوار يدعى تْلْمَاسْلَة"، ثم تزيد: "أتذكر ذلك اليوم الذي وصلت فيه الحافلات إلى القرية لنقلهم من تْلْمَاسْلَة، فاجتمع أهل الدوار لتوديعهم. إنه يوم حزين".
حينما أجرت المقابلة مع فاظمة وعزيزي قبل زمن كورونا، كانت الجدة أثناء محاورتها تردد بين الفينة والأخرى وتختم حديثها بكلمات أمازيغية: "قُنَاعْ غْدُونِيتْ"، "أَغْيَاوي رَبِي غْضَوءْ" "صَافِي نْزْرِيْ الحَقْ نْغْ"، أي (قنعت من الدنيا وأطلب من الله أن أغادر وقت الرخاء).
ذكرت مصادر أن حياة الجدة لم تعد كما كانت، وأصيبت بوعكة صحية تزامنت مع دخول المغرب في الحجر الصحي وفرض حالة الطوارئ الصحية، فما كان للجدة التي لم تعانِ لا من داء السكري أو الضغط طوال حياتها، إلاَّ أن تتضرع إلى الله ليُبقِي روحها حتى ينتهي الوباء ويتمكن أحفادها من حضور جنازتها، فتلك كانت آخر أمنية لها، حسب ما قالته لنا حفيدتها في اتصال هاتفي معها، بعد أن لفظت "الجدة فاظمة" أنفاسها الأخيرة ليلة الجمعة الماضية بعمر يناهز قرابة 120 سنة، ليودع بذلك المغرب خزانة تاريخية شفهية شاهدة على مغرب الأمس واليوم.
قد يهمك ايضا