لندن - ماريا طبراني
تشكل ردود الفعل العنكبوتية ومواقفها العنترية والآراء الاستراتيجية والشعبية، الجانب الأكبر من أحاديث وكتابات الإعلام التقليدية، الذي يفترض أنه يوجه ويشكّل الرأي العام وتوجهات المواطنين، فهل تحدد خيوط العنكبوت مصائر الأنظمة ومستقبل الدول؟، وتسخّر أقسام مخصصة على المواقع الإخبارية وأخرى مطبوعة في الصحف الورقية، نفسها لمتابعة أحدث التغريدات وأجدد التدوينات. بعضها لمشاهير وبعضها لأشخاص معروفين وجانب منها لمواطنين مغمورين. فقرة ثابتة في عدد كبير من البرامج اليومية على الشاشات يسمونها تغطية لمحتوى أثير العنكبوت: هذا دوّن كذا على «فايسبوك» وتلك غرّدت كذا على «تويتر» والمتابعون قالوا كذا والمعجبون أيدوا كذا والمعارضون ثاروا هكذا، وهكذا يحصل، بإرادة أو من دونها وبتخطيط أو من دونه، تشكيل جزء غير قليل من وعي وتوجه الرأي العام. فما قالته الشبكة العنكبوتية نهاراً يصير محتوى البرامج مساءً. وما ينتج عن البرامج مساءً يتحول إلى حديث الشارع صباحاً.
وجرت العادة أن يمضي الغرب قدماً ثم يتبعه العالم النامي وبينه الشرق الأوسط على الطريق ذاته. وليست مبالغة حين يشير البعض إلى أن جانباً معتبراً من جوانب الكوكب تتحرك وتتصرف وتخطط وتدبر بناء على تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وعلى رغم أن سلفه باراك أوباما كان مغرداً هو الآخر، إلا أن تغريدات الرئيس الحالي تشكل جانباً لا بأس به من ردود فعل وتصرفات العالم، وذلك على عكس من تغريدات أوباما المحسوبة المنمقة الجميلة المثالية الخيالية والتي بقيت حكراً على عالم الديبلوماسية الأنيق المخطط غير المسموح له بالارتجال أو الانفعال أو حتى المصارحة بما هو كامن في العقل والقلب، ما يدور في عقل وقلب الرئيس الأميركي ترامب يمكن متابعته على حسابه على «تويتر». ويمكن متابعة رد فعل معارضيه أيضاً على «تويتر» وكذلك عبر مشاهدة القنوات والصحف الأميركية الكبرى المعادية له والتي لا تألو جهداً في إبراز كلماته الصادمة وتعبيراته المباغتة والعاكسة لأفكاره اليمينية، وتواكب آثار التغريدات التي ينشرها الرئيس الأميركي شرقاً وغرباً. يمكن كذلك الإلمام بهذه الآراء عبر جولة تلفزيونية تركز على القنوات الإخبارية البريطانية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية وغيرها، وكذلك على القنوات العربية الإخبارية، كل وفقاً لتوجهاته وتحزباته.
وأصبحت الأحزاب السياسية والدينية والإعلامية الكثيرة الموجودة على «فيسبوك» و «تويتر»، أكبر من مثيلاتها على أرض الواقع، بل أصبحت منظومة حياتية قائمة بعيدة عن أي قواعد تنظيمية أو قيم أخلاقية أو أعين رقابية متمثلة في القوانين التي تحكم الحياة في كل بلد. هذه «الأحزاب» بعضها حقيقي يدعمها ويروج لأفكارها ويدافع عن أهدافها أشخاص حقيقيون على قناعة بها، لكن البعض الآخر لا وجود له إلا في أثير الشبكة العنكبوتية يطلق عليه إسم «الحسابات الوهمية».
وكتبت جريدة «نيو يورك تايمز» تحقيقًا صحافياً عنوانه «مصنع الفولورز» (المتابعين) وجاء فيه أن الحسابات الوهمية يتم إطلاقها من قبل حكومات ومجرمين وأصحاب أعمال ومشاريع، وهي حسابات تصيب شبكات التواصل الاجتماعي. وفي بعض الحسابات، فإن نحو 48 مليوناً من بين مستخدمي «تويتر» (أي نحو 15 في المئة) حسابات آلية «ممكننة» (بوتس) الغرض منها تحريك الأشخاص الحقيقيين والتحكم في توجهاتهم واختياراتهم، وفي تشرين ثاني (نوفمبر) الماضي، أفضت «فايسبوك» إلى مستثمريها، أن لديها ضعف عدد الحسابات الوهمية والذي سبق وقدرته، ما يعني أن نحو 60 مليون حساب وهمي يتجولون على الأرجح على منصات التواصل الاجتماعي، وقادرة على الاحتيال على الشركات والأعمال، وتشويه السمعات.
وتشير الصحيفة إلى أن على رغم الانتقادات المتصاعدة حول ظاهرة شراء المتابعين، إلا أنها ما زالت متاحة عبر منصات وشركات عدة. هذه الشركات لديها زبائن بعضهم شخصيات عامة من ممثلين وعارضات أزياء ولاعبي كرة قدم وخبراء تنمية بشرية وغيرهم من الشخصيات العامة، وبينما «فيسبوك» و «تويتر» و «غوغل» غارقين في اشتباكاتهم من أجل مواجهة وباء التلاعب السياسي والأخبار الوهمية، تقوم الحسابات الوهمية في الشركات التي تبيعها، بدور الجنود المشاة غير المرئيين في الحروب السياسية العنكبوتية. هؤلاء الجنود وفقاً للصحيفة، يمثلون الداعمين بشدة لتوجهات سياسية ما والمعارضين بقوة لهذه التوجهات، ويدفع التوجه صوب الشرق الأوسط، وتحديداً هذا الجزء الملتهب والمشتعل المسمى «العالم العربي الغارق في رياح الربيع والتغيير»، المتابع إلى التسليم بأن الجميع واقع تحت تأثير محتوى مواقع التواصل الاجتماعي، الحقيقي منها والوهمي، الذي يحوي مقداراً من المعلومات الحقيقية وكماً من التحليلات الواقعية، وكذلك الذي لا يحتوي إلا على إعادة تدوير لآراء الغير. وبعيداً من كل ما أثير وقيل وشوهد من تأثير لمواقع التواصل الاجتماعي لإشعال ثورات «الربيع العربي»، دخلت دول عدة في المنطقة مرحلة صناعة رأيها العام وتوجيه أيديولوجياتها وانتماءاتها السياسية وتحديد أولوياتها المجتمعية عبر المحتوى العنكبوتي.
وتوسّعت بين عامي 2005 و2011، إتاحة الإنترنت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من 13 إلى 40 في المئة بين شعوب المنطقة. وعلى رغم الاستخدام الأولي لمواقع التواصل الاجتماعي لأغراض الحراك السياسي والتغيير، إلا أن الاستخدامات السياسية والمجتمعية الحالية باتت أكثر أكثر تعقيداً وتشابكاً، لم يعد الأمر يقتصر على تغريدة يكتبها وزير أو شخصية معارضة أو فنان لجمهور الإنترنت، ثم يتم نقلها عبر برامج التلفزيون، بل أصبحت التغريدة منظومة متكاملة تحمل تعليقات المؤيدين والمعارضين، وآراء المحبين والكارهين، وتقويمات المراقبين والمتابعين. ويتم تداول التغريدة ومشتقاتها ليعاد تشكيل الرأي العام والتوجه الشعبي في ضوئها وضوء حمولتها من التعليقات، وعلى المستوى الدولي، بات إسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرتبطًا بـ «تويتر» حتى أن ما يكتبه على «تويتر» تتباعه وسائل الإعلام الأميركية والدولية والعربية، ويساهم في تشكيل الرأي العام لشعوب تلك الدول بناء على ما يكتب.
وتشير جريدة «بوليتيكو» الأميركية في مقال عنوانه «لماذا يغرد ترامب؟» أن كل ما يصدر عن الرئيس يجب أن يشكل خبراً، لكنه لا ينبغي أن يسيطر على العناوين الرئيسة كما تفعل تغريداته. فقدرة الرسائل على جذب الانتباه وتفجير السجالات والنقاشات تنبع غالباً من مصادر أكثر عمقاً. لذلك فإن قدرة تغريدات ترامب وإعادة بثها في وسائل الإعلام التقليدية، على أن تكون عناوين الأخبار بصفة شبه يومية يعكس كماً هائلاً من الاستقطاب في المجتمع الأميركي، وتفجر تغريدات الرئيس ردود فعل شديدة التباين بين المؤيدين والمعارضين ما يعمق ويجذر شعور كل فريق بأنه يمتلك الحقيقة وحده ويؤمن بما ينبغي أن يؤمن به الجميع، ويبدو ذلك واضحاً في ما يغرد به كلا الطرفين، ويعاد بثه في وسائل الإعلام التقليدية باعتباره «الرأي العام»، ومن المنطقة العربية يتم التعامل بالأسلوب ذاته مع تغريدات الشخصيات العامة. فما يغرد به الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يتحول بعد دقائق إلى مادة خبرية في غالبية وسائل الإعلام المصرية، ومعه تأتي حزمة من التعليقات على التغريدات والتي غالباً يتم انتقاء التعليقات المؤيدة والداعمة فقط، التغريدات ذاتها يتم تناولها كأخبار على القنوات الإخوانية وتلك المعارضة للنظام والتي تبث خارج الأراضي المصرية، ويتم انتقاء حزمة التعليقات المعارضة للرئيس المصري والتعامل معها باعتبارها «رد فعل المصريين».
ومن جهة أخرى، فإن غالبية المنصات الخبرية الدولية المرئية والمسموعة والعنكبوتية والتي تقدم خدمات بث باللغة العربية تخصص مساحة يومية لتغطية أخبار الحراك العنكبوتي العربي. هذه الفقرة الثابتة تعرض «الهاشتاقات» الأكثر تداولاً في دول عربية بعينها باعتبارها عاكسة للمواضيع والقضايا التي تشغل بال الشارع العربي. وأحياناً يتم انتقاء «هاشتاقات» بعينها تتواءم وتوجهات الموقع أو القناة الأجنبية الموجهة بالعربية، فالمؤكد أن الطريق إلى تشكيل الرأي العام في الألفية الثالثة يمر عبر مواقع التواصل الاجتماعي ذهاباً وإياباً. وسواء كان هذا علامة طيبة أو نذير كوارث، وسواء استيقظت دول العالم المتقدم على مغبة «الأخبار الوهمية» و «الحسابات الممكننة» وما يمكن أن تفعله في سياسات أنظمتها ومصالح شعوبها أو ظلت قريناتها النامية تغط في نومها، ستستمر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية والرأي العام الشعبي تدور في دوائر مغلقة يؤثر كل منها في الآخر ويتأثر، إلى أن يتفوق أحدها ويتمكن من كسر الحلقة وإعلان هيمنته على الآخرين.