بيروت - المغرب اليوم
"النّاس فقدت أعصابها"، "ما بقى حدا بعقلاتو"، "كلنا جنّينا"... تعابير ترافقنا في يومياتنا، باتت تلقائية وجزءًا من وصفنا للحالة التي نعيشها. نبرّر أحياناً أنّنا "متعبين"، وأنّ "يلّي صار كسرنا كلنا" و"منيح بعدنا واقفين عَ إجرينا". ولكن لا نسعى جديّاً إلى معالجة هذه الانكسارات والخيبات والثغرات التي تركت فجواتها في داخلنا. نتحدّث نظريّاً وكأننا نُقنع أنفسنا أنّها حال الجميع، في الواقع يعيش اللبنانيون أزمات نفسيّة غير معلن عنها، أو لا يتمّ التطرّق إليها، لأنّ الصحّة النفسية ببساطة ليست أولوية. هكذا نعلّل دائماً المشكلة، نجد لها مخارج غير مقنعة لنهرب إلى الأمام، ولكن في بلد مثل لبنان الذي عاش في عام ونصف العام صدمات وكوارث وأزمات بهذا الحجم، لم تعد التبريرات تجد نفعاً. ما الذي يمنع المواجهة مع الذات؟ ما الذي يُعيق الحديث عن المشاعر السلبية والضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والصحّية التي تُخلّف وراءها رواسب عديدة، ومنها القلق والاكتئاب و... الانتحار.
لماذا نتحدّث بكلّ شيء إلّا الصحّة النفسية، نتحدث بالسياسة والاقتصاد والطبّ، وتبقى الصحّة النفسية منسية، أو نتقصّد تغييبها في أحاديثنا خوفاً من أحكام الآخرين. لماذا علينا إخفاء أن 30% من اللبنانيين يعانون من أمراض نفسية كالقلق، الاكتئاب، وعوارض ما بعد الصدمة. هذا ما كشفه رئيس قسم الطبّ النفسيّ في مستشفى "أوتيل ديو" ورئيس الجمعية الفرانكوفونية للأمراض النفسية في لبنان الدكتور سامي ريشا في حديثه لـ"النهار"، برأيه "نشهد زيادةً واضحة في لبنان والعالم، فبعد أن كانت النسبة تتراوح سابقاً بين 20-25 ارتفعت لتصل إلى 30%، وهي نسبة لا يمكن الاستهانة بها. وصمة العار حول الاضطرابات النفسية وغياب المعرفة والوعي، والخوف من كلفة العلاجات تمنع الكثيرين من تلقّي العلاج المناسب لمشاكلهم النفسية".
صحيح أنّ الحديث عن الصحّة النفسية اجتاز شوطاً كبيراً من ناحية التقبّل، ومع ذلك ما زلنا بحاجة إلى التوعية وإلغاء وصمة العار التي ما زالت مرتبطة بالمرض النفسي. أصبح الطبّ الصحّي على معرفة بأهمية الشقّ النفسي، وتحويل المريض إلى المعالج أو الطبيب النفسي لتكامل العلاج. لا يُخفي ريشا أنّ "الناس تصل في حالة متقدّمة من مرضها، لأنّها لا تطلب المساعدة، وتخشى من فاتورة المعاينة النفسية، لكن عليها أن تعرف بوجود جمعيات ومستوصفات صحّية تقدّم خدمات مجانيّة لمساعدتهم، والمسألة لا تتطلّب سوى كسر خوفهم وطلب المساعدة." يمرّ كلّ شخص بظروف ضاغطة وفترة عصيبة، وفق منظمة الصحّة العالمية، يعاني حوالى مليار شخص من اضطرابات نفسية، ويمكن لأيّ شخص في أيّ مكان أن يتضرّر منها.
ووفقاً لإحصاءاتها، يُعدّ الاكتئاب أحد الأسباب الرئيسية للمرض والإعاقة بين المراهقين والبالغين، بينما يحصد الانتحار أرواح ما يقرب من 800000 شخص سنوياً، أي شخص واحد كلّ 40 ثانية. في حين أشارت في تصريح آخر أنّه غالباً ما يتوفّى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية حادّة مثل الفصام، قبل عامّة السكان بعشرة أعوامٍ أو عشرين عاماً. في موازاة ذلك، أعلنت منظمة الصحّة العالمية والأمم المتّحدة، أنهّما رصدا "انتشارًا كبيرًا لأمراض الاضطراب العقليّ"، بسبب جائحة فيروس كورونا المستجدّ، خاصّة بين العاملين في مجال الرعاية الصحّية والأطفال. وقال المدير العام لمنظمة الصحّة العالمية تيدروس أدهانوم غبريسوس، إنّ "أثر الوباء على الصحّة النفسية للناس يثير القلق بالفعل. إنّ العزلة الاجتماعيّة، والخوف من العدوى، وفقدان أفراد الأسرة ،يضاعفها الكرب الناجم عن فقدان الدخل والعمل في كثير من الأحيان".
مشدّداً على أنّه "من الواضح الآن تمامًا أنّه يجب معالجة احتياجات الصحّة العقلية كعنصر أساسيّ في استجابتنا لوباء فيروس كورونا والتعافي منه. هذه مسؤولية جماعية للحكومات والمجتمع المدنيّ، بدعم من منظّمة الأمم المتّحدة بأسرها. الفشل في أخذ الرفاهية العاطفية للناس على محمل الجدّ، سيؤدّي إلى تكاليف اجتماعيّة واقتصاديّة طويلة الأجل للمجتمع".
متى نطلب المساعدة؟
هذه التصاريح والإحصاءات تكشف حجم الآثار النفسية طويلة الأمد التي ستظهر تباعاً. لكن متى يجب التدخّل طبياً وطلب المساعدة؟ يؤكّد ريشا أنّه: "عندما تصبح الاضطرابات النفسية تؤثّر بشكل كبير وواضح على حياتنا اليومية، على الشخص طلب المساعدة. هذا التأثير يستوجب معالجة سريعة ومبكرة حتى لا تتفاقم حالة الشخص. صحيح أنّ لكلّ حالة علاجها الخاص، قد يحتاج الشخص إلى علاج نفسيّ، فيما آخر قد يحتاج إلى #العلاج النفسي والطبّي (أدوية)، للخروج من حالته النفسية التي تؤثّر على حياته. وعلينا أن نعرف أنّ العلاج ليس كبسة زرّ، ويحتاج كحدّ أدنى بين 6 أشهر حتى السنة، في حين يستغرق البعض وقتاً أطول".
وكما على المريض تناول أدويته لاسترجاع عافيته الجسدية، كذلك الأمر بالنسبة إلى العلاج الطبّي والنفسي. لذلك لا داعي للخجل من تناول أدوية لمعالجة رواسب نفسية، لأن عدم معالجتها قد تودّي أحياناً إلى الانتحار. هذه التوعية حول أهمية العلاج والتدخّل النفسي يُقابله اليوم صرخة طبية لتأمين هذه الأدوية نتيجة عدم توفّرها وانقطاعها، ما يؤثّر بشكل واضح ومباشر في تحسّن حال المريض. وفق ريشا "نعاني كثيراً من أزمة انقطاع الدواء، خصوصاً انّ بعضها لا بديل له، في حين يصعب تغيير العلاج عند المرضى الذين اعتادوا على تناول أدويتهم لسنين طويلة".
كذلك أدّت الأزمة الاقتصاديّة وجائحة كورونا وانفجار بيروت إلى زيادة الاضطرابات النفسية، والتي ستخلّف وراءها رواسب وآثار متناقلة من جيل إلى جيل في حال لم نعالجها. نحتاج إلى معالجة نفسية وإلّا نحن متّجهون إلى أن نصبح مجتمعاُ كئيباً، برأي ريشا. فغياب الرؤيا والتخطيط المستقبليّ، والذهاب نحو المجهول، كلّها عوامل تزيد من حالة القلق والخوف. لذلك علينا كشعب أن نتذكّر أنّ الاهتمام بالصحّة النفسيّة هو مفتاح الصحّة العامّة، وللاستمرار علينا التركيز على الصحّة النفسيّة واعتبارها ضرورة وأساسيّة".
قد يهمك أيضاً :
"العيش في الهواء الطلق" مفهوم البلدان الاسكندنافية للصحة النفسية