روما ـ المغرب اليوم
بعد أن صوت الناخب البريطاني في الاستفتاء التاريخي لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا وكانت التيارات المعارضة للاتحاد داخل بلدانه الـ 28 تحصل على ذخيرة حية تمكنها من رفع صوتها والقتال بشراسة للضغط على حكوماتها لعقد استفتاءات مماثلة علها تسفر عن مغادرة التكتل وانهياره, حيث كانت إيطاليا أحد أبرز تلك البلدان، إذا كشفت استطلاعات الرأي أن نسبة المؤيدين للبقاء في الاتحاد لا تتجاوز 48 في المائة، بينما تبلغ نسبة الراغبين في السير على الطريق البريطاني ذاته 28 في المائة، بينما لم يحسم 26 في المائة من الإيطاليين موقفهم بعد.
وإذا كان البعض يتفهم أسباب رغبة لندن في الخروج من الاتحاد، فإن السؤال حول الأسباب التي تدفع قطاعا كبيرا من الإيطاليين – روما إحدى الدول الرئيسة المؤسسة للاتحاد عام 1951 – للمناداة بالانسحاب من النادي الأوروبي ومغادرته بعد تلك السنوات الطويلة سؤال مشروع؟, فيما تكمن كلمة السر بالطبع في الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها إيطاليا، وتحديدا نظامها المصرفي، فوفقا لأحدث تصريحات غنازيو فيسكو محافظ البنك المركزي الإيطالي، فإن الديون المشكوك في تحصيلها بلغت 360 مليار يورو، وتعادل نحو ثلث قيمة الديون المشكوك في تحصيلها في النظام المصرفي لمنطقة اليورو ككل.
وعلى الرغم من عدم إنكار البروفيسور توم بيل أستاذ النظم المصرفية في جامعة اكسفورد لتلك النقطة إلا أنه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويوضح أن النظام المصرفي الإيطالي يعاني تاريخيًا من جوانب عجز يصعب إنكارها سواء تعلق الأمر بالسيولة، أو شروط الإقراض، وطبعا البيروقراطية، لكن المشكلة الأكبر أن السياسات التقشفية التي أصر الاتحاد الأوروبي على تبنيها تحت ضغط ألمانيا التي تلعب دور الممول الرئيسي للاتحاد، التي اعتبرتها برلين النهج الأمثل للخروج من الأزمة الاقتصادية في القارة العجوز، لم تتماش مع النظام الاقتصادي الإيطالي سواء في شقيه الاستهلاكي أو المصرفي.
ويضيف توم بيل أن إسبانيا على العكس فقد رفضت عام 2013 النموذج التقشفي الذي طرحه المصرف المركزي الأوروبي، وخفضت الضرائب المفروضة على الشركات، وقامت بإجراءات إصلاحية لقانون العمل، وألزمت المصارف عالية الكفاءة، جيدة الأداء على مساندة المصارف المتعثرة، وعززت معدلات الإقراض المصرفي، وكل هذا سمح بتحسن الأوضاع الاقتصادية نسبيا في إسبانيا، بينما روما على العكس تماما لم تقم بأية خطوة مماثلة رغم حاجتها إلى خطوات أكثر جذرية من الخطوات التي اتخذتها مدريد.
ورغم أن الديون المشكوك في تحصليها في إيطاليا تبلغ أكثر من 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الديون المعدومة في الولايات المتحدة الأميركية، بينما يبلغ الدين الكلي على إيطاليا أكثر من 130 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الخطة الحكومية المعروفة باسم أطلنطي لإعادة هيكلة المصارف الإيطالية التي رصد لها مبلغ 4.25 مليار يورو لم تجد نفعا.
ويعتقد آدم بيرسي المختص المصرفي بأن إمكانية انسحاب إيطاليا من عضوية الاتحاد الأوروبي، مصدرها شعور النظام المصرفي الإيطالي بأن مصالحه تتناقض مع القوانين والإجراءات المنظمة لعمل المصارف، التي تطالب بروكسل الدول الأعضاء بالالتزام بها, ويقول إنه يمكن لروما أن تغادر الاتحاد الأوروبي وتضخ مليارات من الدولارات في نظامها المصرفي، وذلك إذا تعرضت لضغوط ضخمة وعقوبات من المصرف المركزي الأوروبي، وتجاهلت تحذيرات برلين وبروكسل لها بضرورة الانصياع للقوانين المصرفية الأوروبية، التي تؤكد على تحمل المقرضين والدائنين لالتزاماتهم المصرفية، وضرورة عملهم على إنقاذ المصارف الرديئة وليس تحميل مسؤولية إنقاذ المصارف التي تتعرض للخسارة لدافعي الضرائب كما حدث في الأزمة المالية عام 2008.
وأشار بيرسي إلى المخاوف من قيام إيطاليا بخطوة ملموسة تكشف عن عدم التزامها بتعليمات المصرف المركزي الأوروبي، يثير قلق العديد من العواصم الرئيسية في الاتحاد مثل باريس وبرلين وأمستردام وبروكسل وبالطبع البنك المركزي الأوروبي ذاته، ولهذا لربما نشهد في الأشهر المقبلة وكحل وسط بين الطرفين أن يتم تحويل ما قيمته 29 مليار يورو من الودائع الأسرية والمستثمرة في شكل سندات مصرفية إلى أسهم إذا تطلب الأمر إنقاذ المصارف الإيطالية من جراء مشكلة الديون المعدومة أو المشكوك في سدادها.
ويعرب بعض المختصين عن مخاوفهم من أن مطالب البنك المركزي الأوروبي من المصارف الإيطالية لا تبدو واقعية في كثير من الأحيان، فقد تعرضت أسهم بنك (بي إم بي إس) الإيطالي وهو أقدم بنك في العالم، وإحدى أهم المؤسسات المالية الإيطالية، لخسائر ضخمة بلغت نحو 19 في المائة بعد أن طلب المركزي الأوروبي منه التخلص من كل الديون المشكوك في تحصيلها بحلول عام 2018.
ويعتقد البعض أن التوتر القائم بين النظام المصرفي الإيطالي والاتحاد الأوروبي لا يتعدى العض على الأصابع بين ألمانيا وإيطاليا، ولن يصل الطرفان إلى حد الفراق، وفي هذا الإطار أوضح لـ"الاقتصادية"، جيمس بريستون الباحث في بنك إنجلترا، أن القضية ترتبط بأن ألمانيا باعتبارها أكبر الاقتصادات الأوروبية وتحقق فائضا تجاريا، تقوم عمليا بتمويل الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تتحكم بشكل ملحوظ في التوجهات الرئيسية للبنك المركزي الأوروبي.
وأضاف بريستون أنه على الرغم من الخلافات الراهنة بين وزير المالية الألماني ومحافظ البنك المركزي الأوروبي، فإن برلين من جانبها تريد أن تخفض على مواطنيها عبء تمويل الاتحاد الأوروبي، وما تعتبره سياسات مالية غير ملائمة تتبعها اقتصادات جنوب القارة مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، حيث تعتبر أن تلك البلدان تتبنى سياسات مالية غير ملائمة للأوقات الاقتصادية الصعبة التي يمر بها التكتل، ومن ثم تطالب بخفض الإنفاق العام في تلك الدول وزيادة الضرائب، وتتهمهم بأن مستوى الرفاهية الذي تحققه لشعوبها يأتي على حساب المواطن الألماني ولا يعكس معدلات النمو الحقيقية لاقتصاداتهم، ولذلك يستخدم الألمان البنك المركزي الأوروبي للضغط على المصارف الإيطالية للتخلص من الديون المعدومة أو المشكوك في تحصيلها, ويستدرك: إن روما تفهم تماما ما يحدث ولهذا تستخدم قضية الضغوط التي تعانيها مصارفها المحلية، للمطالبة بعدم التقيد بالشروط شديدة الانضباط التي يفرضها المصرف الأوروبي على مصارف القارة، على أمل أن تشعر ألمانيا وفرنسا بالقلق إذا استشعروا جدية روما في مغادرة الاتحاد وأن يقدموا لها بعض التنازلات.
وكان تصويت الناخب البريطاني لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي قد أدى إلى هزة في مجمل مصارف القارة الأوروبية، وتعرضت مصارف الاتحاد الأوروبي لخسائر قدرت بـ 165 مليار دولار، وجاءت المصارف الفرنسية في مقدمة الخاسرين، فيما احتلت المصارف الإيطالية المرتبة الثانية. ويتوقع المختصون أن تزداد خسائر القطاع المصرفي الفرنسي والإيطالي جراء حالة عدم اليقين في الاقتصاد الأوروبي، ونتيجة رغبة البريطانيين في الخروج من الاتحاد، وما تشير إليه أغلب التوقعات من تراجع معدلات نمو الاتحاد الأوروبي مستقبلا.
وتفكر الحكومة الإيطالية حاليا في ضخ نحو 40 مليار يورو في القطاع المصرفي لتهدئة الأوضاع، والحد من تفاقمها ومن ثم إضعاف الأصوات الداعية إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ويعتقد البروفيسور توم بيل أن ضخ هذا المبلغ يمثل حدا أدنى لتفادي عدم تفاقم الأوضاع المصرفية في إيطاليا، خاصة بعد أن كشفت البيانات أن المصارف الإيطالية كانت الأسوأ أداء بين المصارف والمؤسسات المالية الأوروبية منذ بداية العام الحالي، إذ خسر بنك "يونيكرديت سبا" 60 في المائة من قيمته منذ بداية العام وحتى الآن، بينما تراجعت قيمة بنك "انتيسا سان باولو سبا" بما يوازي 45 في المائة. وأشار توم بيل إلى أنه إذا واصل الأوروبيون الضغط على المصارف الإيطالية، ورفضوا منحها تسهيلات خاصة للخروج من أوضاعها المرتبكة في الوقت الحالي، فإن روما لن تفهم ذلك إلا باعتباره محاولة لإجبارها على تحمل ما لا طاقة لها به، ولن يكون أمامها غير أن تلقي كلمة الوداع وتغلق حسابها مع البنك المركزي الأوروبي وتنسحب من الاتحاد.