الرباط - رشيدة لملاحي
بعيدًا عن الخطابات النقابية والسياسية والجمعوية والمطالب المتصاعدة للدولة، لحماية الطبقات الهشة وعدم إغراق الطبقة الوسطى المغربية، هناك طبقة مغربية مخملية تبدو غير معنية إطلاقًا بهذا النقاش، ربما لن تمنعها الزيادة في المحروقات والضريبة على السيارات من أن تشتري أغلاها وهي مستوردة في مجملها وذات استهلاك مرتفع للبنزين، ولن تمنعها أزمة منطقة اليورو من ارتداء "الإكسسوارات" من ماركات عالمية باهظة الثمن، من ساعات يدوية ونظارات وحِلِي.
وبعض هذه الأشياء قد يكلف ما يمكن لعائلة مغربية متوسطة أن تعيش به لشهر، أو ما يمكن لطالب جامعي أن يعيش به لسنة كاملة؛ بعض رجال ونساء هذه الطبقة التي تعيش خارج المغرب "قلبا" لا يترددن في اقتناء كل ما يجعلهم قادرين على العيش خارجه "قالبا"، وللعطور والأحذية و ملابس السهرات و المناسبات النصيب الأوفر في ذلك.
زجاجة عطر تعادل راتب موظف
للوقوف على هذه المفارقات التي تظهرها عادات الاستهلاك في الطبقة الراقية في المغرب، ما عليك إلا زيارة محلات العلامات التجارية العالمية في المدن الكبرى، مراكش، الرباط، الدار البيضاء نموذجًا، هناك ستعيد النظر في كل الكنوز التي تعتز بها في دولاب ملابسك وحقيبة "إكسسواراتك" وعطورك و ماكياج تزيينك.
ولهذا قد تفاجئين بـمُلَمع شفاه لا يكلف في درب السلطان، أحد الأسواق الشعبية في المدينة الاقتصادية سوى عشرة دراهم، وفي بعض "البوتيكات" في حي المعارف قد يصل إلى 100 درهم، لكنه هناك قد يكلفك 1000 درهم، وهي نصف راتب آلاف الموظفين والذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور أو ما يُعرف بـِ"السميغ".
وبالنسبة إلى العطور، فمن المعروف أنها أكثر السوائل غلاء، كما يعرفها ذَوُو الاختصاص، لأنها تعطي لمسة راقية للأثرياء والشخصيات العامة، لذلك تتطلب مبالغ مالية كبرى، ففي حالة عطر يحمل اسم ممثلة فرنسية مشهورة، ويحمل أيضًا رقم 5، يصل ثمنه 2400 درهم لكمية لا تتعد 100 مل، وهي كمية قليلة جدًا.
وعندما سألنا "ضحى" وهي مديرة أحد المحلات التجارية المتخصصة في العلامات التجارية الرفيعة، والموجود في أحد الأسواق التجارية الكبرى والمصنفة، مدتنا بِـ"كتالوج" خاص بهذه الماركة، وهو عطر أطلقته هذه الممثلة سنة 1921، ويصنف حسب تعبير المديرة، على أنه العطر الأكثر سحرًا في العالم، وثمنه لا يمنع مستهلكيه من طلبه، لذلك يعد، من أكثر العطور مبيعًا في هذه الماركة، وميزته هو أنه من زهور طبيعية ويدوم طويلًا.
والطريف هو أن "ضحى" اعتذرت لنا عن عدم وجود عينة "شونتيون" منه، فمستهلكيه يعرفونه، ولا يضطرون إلى تجريب رائحته قبل طلبه. وربما يكون السبب غير ذلك، ربما لأن هناك قناصة لهذه "الشنتيونات" تحت عنوان "اللي ماشرا يتنزه"، وبلغة أخرى: هناك ممن ليس له القدرة على شراء عطر باهض الثمن من يستغل الفرصة للتعطر بـ"الشانتيون".
وعندما لاحظت "ضحى" أننا مندهشون من هذه المعطيات، عبرت بابتسامة أن زبونة لمحلها التجاري طلبت اليوم عطرًا أغلى من هذا العطر الفرنسي، ويبلغ ثمنه 4500 درهم، وهي تشتغل إطارا كبيرا في شركة عالمية يوجد فرع لها في المغرب، وعن هذا العطر قالت "ضحى" أنه يستحق ثمنه، لأن المعلومات المرافقة لقائمة عطور العلامة التجارية في "الكتالوج"، تشير إلى أنه مصنوع من طرف فرنسي مختص في المجوهرات، وهو مزيج من الياسمين و الورد، وأضافت "ضحى" معلومة لا تخفي مبالغة، قائلة: "لاستخراج كمية 30 مل، فإنه ينبغي مزج 1000 زهرة ياسمين ب30 وردة.
غادرنا محل العطور، ونحن مشفقون على أنفسنا مما يمكن أن نسمعه عن أثمنة عطور أخرى، بل غادرنا ونحن على ثقة أن في المغرب هناك مواطنون يعيشون وجها آخر للحياة، ف 4500 درهم هي راتب موظف في الدرجة العاشرة في الوظيفة العمومية، مبلغ يعيل به الآلاف من المغاربة أسرهم، لكنه بالنسبة إلى البعض الآخر، هو ثمن يقتنون به عطرًا للتباهي أمام الغير ليقولوا للآخرين عبر شرائه "نحن راقين "شيك".
وهنا تذكرت عمال النظافة والذين يواجهون نتانة قمامة وعفنها وهم يتقاضون أقل من نصف ثمن هذا العطر شهريًا، إنه مغرب المفارقات.
أسباب اقتناء المغاربة للملابس باهظة الثمن
إذا كانت الملابس هي الفيصل بين عالم الطبيعة وعالم الثقافة، حيث الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستر عورته بالملابس، فإن للملبس وظائف أخرى غير ستر العورة والوقاية من البرد وعوامل المناخ كافة، فهو له وظائف أخرى كالزينة و التباهي الاجتماعي والإغراء، وغيرها، هنا يصبح للملبس أيضًا اقتصاد خاص به، حيث يلتقي فن التصميم بفن الخياطة، وجمال الألوان بجمال الأشكال، ليشكلوا اقتصادًا لكل فئة اجتماعية نصيبها منه.
زرنا إحدى المحلات المتخصصة في بيع ملابس ذات ماركة عالمية، فوجدنا ملابس لم تخط إلا ببضع الثوب، ولكن ثمنها "يُدخل في الفقراء الحُمى"، وهي ملابس تتوزع بحسب الأعمار والجنس والمهن، فللشباب ملبسه وأشكاله وألوانه، ولسن النضج والطفولة ما يميزه.
وعلى سبيل المثال توجد ماركة صنعت منتوجاتها من الحرير المصري الخالص، والمصنعة في إيطاليا، تشكيلتها مكونة من قميص وسروال بمبلغ 4300 درهم، وافتخرت "منال" وهي مساعدة تعمل في المحل التجاري الخاص بهذه الماركة، قائلة: "هذا اللباس للناس "العشاقة"، أي خاصة بالناس الذين يحرصون على أن تكون ملابسهم من هذه الماركة، ويفتخرون بذلك، مع تشديدها على أن زبائنها يقتنون العلامة أكثر مما يقتنون اللباس.
وأضافت "منال" أن الصينيين، تمكنوا من تزوير هذه الماركة، لذلك القميص الذي ثمنه الحقيقي 3000 درهم، نفسه في "درب غلف" ب 500 درهم فقط، ولكن الخبراء حسب تعبيرها، يستطيعون دومًا التمييز بين الأصلي والمُقلد.
وأوضحت "منال" أن إعجاب الناس بهذه الماركة بلغ حد أنهم يقتنون الأكياس التي تحمل اسم الماركة من محلات تجارية أخرى للتباهي ليوهموا جيرانهم وأصدقاءهم بأنهم اقتنوا ملابسهم من هذه الماركة؛ وهناك خبراء من إسبانيا يزورون المحل لمراقبة التزامنا بشروط البيع واحترامنا لسمعة الماركة، وهم يتشددون في أدق التفاصيل، مثلا طريقة إلباس "الدمى" لهذه الملابس، وطريقة مزج الألوان.
وإذا كانت بعض الماركات تقوم بتخفيضات موسمية لزبائنها، لتشجيعهم على اقتناء العلامة و للتخلص من مخزوناتها، فإن هذه الماركة تفضل جمع الملابس غير المبيعة أو التي تجاوزتها الموضة للمصنع على أن تخفض من ثمنها.
وينطبق ما سبق أيضًا على الأحذية، حيث وجدنا نوعًا من الأحذية "كلاس" بُنية اللون كما سماه "هشام" المساعد الثاني في المحل، يصل ثمنه إلى 2850 درهم، وهو من صنع إيطالي، ومن سيقتني حذاء بهذا المبلغ، طبعًا لن يرتديه رفقة سروال بـ 200 درهم، إذ في هذا المحل سروال نسائي مرفوق بقميص، يبلغ ثمنه 2300 درهم، وهو من نفس الماركة.
دوافع هَوَس البعض بالماركات العالمية
يشهد محل تجاري فُتح مؤخرا في البيضاء توافد زبائن من فئة خاصة من المواطنين من مختلف المدن، محلات تجارية كبرى تعرض علامات عالمية، لمختلف السلع التي تسيل لعاب الذين انبهروا لما تَعْرِضه من سلع أغلبها مستورد، فوجدوا أنفسهم من حيث لا يدرون يُقبلون على اقتناء الكماليات العصرية التي أفرزتها ثقافة الاستهلاك عند بعض الفئات، الذين لم يعد يشغل بالهم سوى الظفر بآخر "صيحات الموضة"، في حين وصل التباهي لدى البعض منهم إلى درجة اقتناء كل ما يحتاجونه من الخارج، حسب تصريح أحد الزوار الذين صادفنهم ونحن نحاول مقاربة هذا الموضوع الذي يهم فئة "لا تعنيها ارتفاع الأسعار أو توالي العطلة الصيفية مع رمضان والدخول المدرسي، التي تكلف أغلب الأسر المغربية، الدخول في قروض دائمة".
الإكسسوارات العالمية تتفوق على أسعار الذهب
ليس كل ما يلمع ذهبًا قاعدة ذهبية، لا تسيل لعاب بعض نساء الثريات، ولا يشكل الذهب بالنسبة لهم أي أهمية ولو في المناسبات التقليدية، "ماشي شيك" حسب تعبير باللغة العامية المغربية "ريم" التي صادفناها في محل تجاري لعلامة كبرى للساعات اليدوية والحلي، وهي تُواصِل حديثها بلكنة فاسية مؤكدة أنها تفضل شراء "إكسسوارات" من ماركات عالمية، عوضًا عن الذهب الذي لا يتماشى مع ذوقها وكذلك عملها، ولا يهمها الثمن لكن يشكل لها "ستايل" أهمية كبيرة في حرصها على شراء آخر صيحات الموضة.
ولم تكتفي "ريم" بشراء "إكسسوارات" فقط، بل اختارت ساعة يدوية من ماركة عالمية بتسعة آلاف درهم، وبكلمات تفيد أهمية الجودة بالنسبة إلى "ريم"قالت: "الحقيقة مادام الوقت أثمن شيء بالنسبة إلى الإنسان، عليه أن يرتدي ساعة تليق بأهمية الزمن".
هذا "الهوس" المتواصل حول الماركات العالمية لدى البعض، جعل المحلات العلامات العالمية الكبرى تعزز وجودها وتحرص على فتح فروع لها في مدن أخرى، حيث باتت تحقق حاليًا دخل خيالي.
وتقول "رانيا"، مسؤولة تجارية في محل لماركة عالمية في "الإكسسوارات النسائية"، وهي تتحدث بفرنسية جميلة، أن بعض نساء من علية المناصب يزرن في نهاية كل أسبوع المحل للاستفسار عن الجديد واقتناء إكسسوارات بسيطة تناسب عملهن، رغم أن ثمنها يكون مرتفعًا جدًا، كما أكدت أن بعضهن ينتظرن ظهور آخر الصيحات ويسارعن إلى اقتنائها، قبل أي شخص آخر.
حقائب نسائية تعدل راتبي موظف مغربي
لا تستغرب وأنت تتجول في المحلات التجارية إذا صادفت حقيبة يدوية نسائية، ثمنها يعادل راتبي "سمييغ" في المغرب أو أكثر، 8 آلاف درهم هو ثمن هذه الأخيرة وقد كُتِبَ برمز صغير، إنها مفارقة غريبة لكن لها دلالة عميقة، الكثيرون يتنفسون الصعداء حتى تصل نهاية الشهر ليقبضوا بلهفة راتبهم في ظرف ساعي البريد 2300 درهم.
وفي بعض الأحيان لا وجود حتى لأسمائهم التي قد تذكرهم بعرق جبينهم، راتب يوزعوه بفرح على مصاريف الكراء والبقال حتى تبقى الثقة متواصلة عند الحاجة، ويبقى شراء "ماركات عالمية" بالنسبة إلى هؤلاء مجرد أحلام حبيسة رفوف خيالهم، وقد لا تقتحم أحلامهم أصلًا، إنها آخر شيء قد يجري الحديث حوله.
وتشير "رانيا" أن مظاهر البذخ لا تقف عند هذا الحد، إذ يضطر بعض الأثرياء المغاربة إلى السفر إلى موطن "الماركات العالمية" في الخارج لاقتناء حاجاتهم من عين المكان، تخوفًا من اقتناء بضائع مقلدة بعد اقتحام الصين للسوق المغربية لأنها من أكثر البلدان المصنعة للبضائع المقلدة للماركات العالمية.
سيارات ويخوت هوس الأثرياء من الرجال
الأثرياء من الرجال لديهم هوس آخر، فإلى جانب انشغالهم بآخر الصيحات في مجال الملابس، تسلب السيارات عقولهم، وانتقل هذا الهوس من البر إلى البحر، إذ باتوا يطاردون حلم امتلاك يخوت وقوارب فاخرة، وهو ما فتح شهية شركات مغربية وأجنبية، وشكل لها تجارة رابحة، تتيح لها فرصة تنمية أعمالها، والرفع من رقم معاملاتها، في ظل إقبال فئات جديدة على ما تسوقه من يخوت وقوارب ذات شهرة دولية في المغرب.
ولاكتشاف سوق السيارات الفارهة في المغرب، قصدنا محلًا تجاريًا ضخمًا لماركة يتم تصنيعها في ألمانيا، وهي ماركة كما قالت لنا "سعاد" بفرنسيتها، وهي المسؤولة عن مصلحة الزبائن في هذا المحل، هي مثل "الأفيون"، إذ أن أصحابها مهوسون بهذه العلامة، وأضافت أن زبونين يعشقان هذه العلامة الألمانية قد طلبوا سيارة لم تدخل بعد، سيارة رياضية جديدة، وعن ثمنها تؤكد أنها "لن تقل عن300 مليون سنتيم"، ولاشك أن هذا المبلغ كافي لاقتناء ثلاثة شقق متوسطة، أو 12 سكنًا اقتصاديًا سيقطن في كل واحد منه زوج جديد يؤسس لأسرة وحياة مشتركة.
أرقام كهذه، هي أرقام خيالية بالنسبة إلى عموم المغاربة، بما في ذلك الموظفين والعمال في القطاع الخاص، إنه ثمن سيارة رباعية الدفع سيقتنيها شخص للمتعة فقط، إنه مبلغ لن يقدر موظف متوسط على إدخاره طوال حياته المهنية، وإذا ما أراد اقتناء منزل أو شقة متوسطة، فإنه مجبر على التوجه لشركة قروض، مقابل اقتطاعات شهرية تصل إلى 4000 درهم شهريًا لمدة لا تقل عن ثلاثين سنة, إنه الوجه الآخر لمغرب العجائب.