بيروت- المغرب اليوم
حرص الفنان اللبناني بسام كيرلس في جل أعماله على أن يقدم خلاصة فكرته، ويرى الناقد الفني العراقي فاروق يوسف أن الفكرة ذاتها في عمل الفنان تظل رهينة لتعامل المتلقي مع القطعة الفنية؛ فما نراه هو غير ما ننتهي إليه. فالفنان اللبناني الذي عُرف بنزعته الصفائية عرف كيف يستبعد العاطفة التي تنفتح على الكثير من المفاهيم الخاطئة، ولذا يقر يوسف بأن كيرلس فنان أفكار، لذلك غالبا ما يتحاشى تقنيات النحت التقليدية. يركب منحوتاته بالطريقة نفسها التي يقوم الفنان المعاصر من خلالها بتأليف أعماله. غير أن ميزة كيرلس أنه يتصرف باعتباره نحاتا لا مركبا. وهو ما جعله يحتل مكانا بارزا في المشهد التشكيلي اللبناني المعاصر.
"فوضى كيرلس" كتاب جديد من الحجم الكبير صدر أخيرا في العاصمة اللبنانية بيروت، يسرد حكايات التجاذب الجمالي والبصري بين الفن والنحت وبين الفكرة والمفهوم في تجربة التشكيلي اللبناني والنحات بسام كيرلس.
يفكّك الكتاب جوانب مختلفة من فلسفة الفوضى التي تبناها كيرلس لترتيب الذات الجمالية من جديد من صور الذاكرة وأحداث الصدامات والصراعات التي تسبّبت في تحويل المشاهد من الطبيعة إلى الخراب، فقد حاول من خلالها أن يخلق له منافذ رؤيوية حتى يعيد بها التنظيم والبناء.
التجاذب في أعمال الفنان مبني على الصدمة والفوضى التي تصف التناقض اللامألوف واللامتآلف مع الواقع وأحداث الوطن بين تجاذبات الموجود والمنشود في فلسفة البقاء الباقي بين دمار وهدم ورغبة طافحة في ردم الرماد الإسمنتي بعيدا عن الثقوب التي أحدثها في ذاكرة الإنسان.
وهي التصورات التي رمّم من خلالها كيرلس رموزه وعلاماته انطلاقا من الأرض وانتهاء بالأسطورة وحكاياتها وأبطالها ثم الرؤى الأدبية، ليضع الرمز في تماس واقعي قابل للتطويع المعنوي في المنحوتة، ما يساعد على تفكيكها من جديد بين ملاحم الأسطورة داخل مشهدية التضحية وانتصار الفينيق وملامح الحياة وانبعاثها في رمزية البيضة الضخمة التي تحاول استدراج فلسفة الحياة بين الفناء والعدم والبعث من جديد.
انعكست التجربة البصرية التي سردها الكتاب على تداخلات التصوّر التنفيذي والتفاعل التجريبي البصري، أي بين توافقية الفكرة مع الخيال وتمازج الرمز مع الصورة، ومع تمرّد صادم على الواقع الأليم في كثافة الحرب ومخلفاتها البشرية والعمرانية والمعمارية التي تركت آثارها على الرؤى والذاكرة بتمازج مع التعبيرية التي قدّمها التشكيلي بسام كيرلس في مساره الفني وفق كل ما قدّمه من إنتاج فني غزير وكثيف بمعانيه ومعاناته الداخلية وثورته الباحثة في المفاهيم والخامات والتقنيات والمدارس والأساليب، وهو ما حاول أن يختزله بشكل مُمنهج في المحاور التجريبية التي سردها في كتابه والتي خاضها في تجربته في الفترة الفاصلة بين سنتي 2015 و2021.
وتضمن الكتاب الذي جاء في 203 صفحة البحث والنشاط الفني لبسام كيرلس وحيرته وتساؤلاته وفلسفته من خلال مفاهيمه التي بلورها في محاور مختلفة تجسّدت في المباني والأبراج والكراسي وبيضة الوجوه والأقنعة وملامح المعالم والطبيعة، إضافة إلى عرض البعض من لوحاته التي رسمها بالتوازي مع العملية النحتية بتجرّد داخلي من القوالب واتصال عميق مع الفكرة النابعة من الأرض والإنسان والطبيعة.
وقد رافق الكتاب جزء من المقالات التحليلية كانت قد نشرت في مواقع وجرائد ومجلات عربية بمقالين للكاتبة ميموزا العراوي بعنوان “صهيل الخيول يتّسع للفلسفة التجهيزية لبسام كيرلس” و”بسام كيرلس يقهر الزمان والمكان في معرض أكوان”، ومقال للكاتب فاروق يوسف بعنوان “كيرلس يحرّر النحت من وصفاته الجاهزة”، ومقالين للكاتبة بشرى بن فاطمة في موقع متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية وموقع الديوان الثقافي بعنوان “تجربة بسام كيرلس النحت المعاصر” و”البناء والهدم مقارنة تجريبية بين الألماني أنسلام كيفر واللبناني بسام كيرلس”، وعدّة مقالات أخرى للكتاب لور غريّب ونجاة الذهيبي وسامية التل ومصطفى ديب وآنّا آندراوس.
تمكّن بسام كيرلس من خلال تجربته النحتية والفنية في العموم من خوض تصورات تجريبية وابتكارات حاول من خلالها أن يذهب بفكرته أبعد مما بدا له، خاصة وأنه لم يكن بمعزل عن ذلك الدمار الذي رسّخ في ذهنه تلك الصور من خلال الحرب الأهلية اللبنانية والصراعات في المنطقة، فتجسّد كل ذلك في توافقاته حيث انتصر للإنسانية رغم الدمار وللحياة رغم الموت وللفكرة رغم الجمود، حتى يعيد صياغة الأمل من الفوضى.
وتجدر الإشارة إلى أن “فوضى” هو أيضا عنوان المعرض الفني الذي يقدّمه التشكيلي النحات بسام كيرلس في غاليري كاف بالأشرفية في بيروت من الحادي والعشرين من أكتوبر الجاري إلى العاشر من نوفمبر والذي يعرض فيه منحوتاته التي تستعرض تجربته الجمالية والبصرية التي يقول عنها “إن التجربة الجمالية والبصرية حتى ترتقي لا بد أن تتفاعل مع المحتوى وتنهض مع الفكرة وهي تتبادل الأدوار التعبيرية بكل تناقضاتها حتى تكون قادرة على احتواء الموقف مع المشاعر التي تتراكم بين الذاتي والوجودي والواقعي”.
ويضيف “لأن النحت سيكون منطلق البناء والترميم كما هو مظهر للخراب والفوضى، وتلك هي التناقضات الجادة بين الكون والكينونة ودورها في نسج حكايات الذاكرة وتفكيك مخزونها بكل صداماته وانسجاماته مع الأرض والتاريخ الإنساني والحضارة ليكون الصقل النحتي محمّلا بالهموم ومشبعا بالأساطير الباقية في العمارة والمهدّمة من محاوراتها الحفرية؛ فالنحت هو جمع بين الروح والذاكرة، وبين الابتكار والموهبة، وبين القلق والطمأنينة، وبين الهدوء والصخب، وبين المادة والفكرة”.
في هذه الأعمال المعروضة يتعامل الفنان مع العمل النحتي بابتكار وموهبة ومحبة وصدق وتنفيذ مشبع بفلسفة قادرة على تحمّل أسئلة الوجود بين الواقعية والمعاصرة في الخامات الحيوية والحركة والحياة، بين الحجر والرخام والغرانيت والبرونز والطين والإسمنت والأليمينيوم، تتجادل فكرته بصريا مع النحت النافر والغائر وتتعتق مع الأسطورة التي تقوم كطائر الفينيق من رمادها.
ينتشل كيرلس المنحوتة من رحم الطبيعة ويرتحل بها في الوجود ليسافر إلى أكوانه وفضاءاته ويفعّل فيها قيم المشاركة في الواقع وأحداثه، فيترك لها فرصة التساؤل كما يتركها للصدمة الظاهرة في العنف الطاغي بين الإنسان في وجوده المنهك والصراعات والحروب، فتكون الصدمة نتاجا للتعايش وضرورة للتنافر وإجابة واضحة لكل تلك المشاهد التي لم يبالغ في تخريبها بقدر ما حاول تجميلها لتبدو أكثر قربا من الواقع المعيش.
من خلال الأعمال المعروضة والتجربة المبسطة في الكتاب حاول كيرلس أن يقدّم أطروحته النحتية باعتبار أنه كلما كان خلل الواقع يتزايد ويتناقض كان يثير في منحوتاته نتوءات وثقوبا وتشويهات لها معانيها ومفاهيمها، حتى تبدو بكل تلك القسوة والتخريب الذي يصوّر جوانب الحياة وما سبّبته فيها الصراعات من دمار.
عن هذا التفاعل الفني يقول الفنان “بالنسبة إلي حضور العمارة المدمّرة والمنحوتات المشوّهة هو انعكاس لصورة الحرب التي تجتاح العالم، فالتعبير البصري في المنجز الفني هو ردّة فعل وفلسفة باحثة عن الترتيب القادر على استيعاب الفوضى”.
يختلف النحت الذي قدّمه كيرلس عن المألوف من حيث المثالية والمقاييس، فهو يحملها أبعد عن المألوف في جوانبها الجمالية التي تكون مرتكزة على التجدّد المعاصر في تحميل الفكرة فلسفة التعبير الأبعد بقوة واثقة من ذاتها وقابلة للتغيير، ففكرة العمارة هي تفكيك عام للمأوى والأمان والبيت كدلالة رمزية قابلة للكسر والتخريب لتكوّن نقطة صادمة.
الفنان تمكّن من خلال تجربته النحتية والفنية من خوض تصورات تجريبية وابتكارات تذهب بفكرته أبعد مما يبدو
وهنا اكتسب الفنان منهجيّته العدائية على الصورة لا على الفكرة لأن رؤى الأمان والبحث عنده باقية ودرجة الترتيب داخل العمل مبتكرة ومتناسقة ومستمرة في بحثها عن جمالياتها البسيطة لتخلّد المنجز حسب الشكل والحجم والمادة والفراغ والمشهد العام والرؤى الاسترجاعية للشكل، لأنه حاول أن يُعطي فرصة للمتلقي كي يعود بذاكرته إلى الصورة الأصلية للمشهد قبل الخراب ليعود بعدها بأمل مختلف يَشِي بأنه قادر على تجاوز الاحتمال الأسوأ لذلك الخراب.
ويذكر أن بسام كيرلس تشكيلي ونحات لبناني من مواليد 1971 وأستاذ جامعي في اختصاص الفنون والنحت بالجامعة الوطنية اللبنانية، في سنة 1995 درس الفنون البصرية بالجامعة اللبنانية، ثم انتقل إلى دمشق لاستكمال دراساته الأكاديمية في الفنون. سنة 2008 سافر إلى باريس حيث حصل على الدكتوراه في فنون النحت والفلسفة والحضارة الإنسانية من جامعة السربون.
قد يهمك ايضًا:
رسوم تسجيل الطلاب الأجانب في الجامعة اللبنانية بالدولار وتحرّك نيابيّ لتعديل القرار