الرباط -المغرب اليوم
يجلس على منصّة في ندوة عن السينما في مهرجان مغربي كل من عميد كلية للآداب بربطة عنق حريرية عريضة وقامة مديدة مَهيبة ويجلس بجانبه سينمائي نحيف بسروال جينز وحذاء أسود كبير ورأس صغير وشعر أشعث. تعكس مفارقة المشهد وضع الموظف والفنان في المغرب، بعد الندوة افترق الرجلان وذهب كل واحد للاشتغال في مجاله بعيدا عن الآخر. للأول وضع قار وللثاني وضع هش.
لا يُنظر إلى السينما (والفن عامة) بجدية فعلية لتجد مكانها في الدرس الجامعي المغربي، حتى أن الأبحاث الجامعية عن السينما تعدّ على أصابع اليد، بينما أطاريح الدكتوراه عن شرح شروح المعلقات السبع أو العشر ومنهج الإمام البخاري ومسلم رضي الله عنهما في جمع الحديث الصحيح تعد بالآلاف... وحاليا لا تشجع الأسر أبناءها على دراسة الفن، لأنه لا يوفر دخلا.
لقد دخلت السينما إلى الجامعة المغربية كموضوع، كتيمة. صار النص الفيلمي بديلا للنص المكتوب بغرض دراسة وضع المرأة والطفولة والتاريخ الاجتماعي... ويبقى من أبرز الغائبين في المشهد الجامعي المغربي هو تدريس النقد السينمائي، رغم أن الجمعية المغربية لنقاد السينما تحتفي بربع قرن على تأسيسها (فبراير 1995-2020). فلماذا لا يدرّس النقد السينمائي في المؤسسات الجامعية المغربية؟
هذه أجوبة بعض النقاد المغاربة.
يجيب الناقد السينمائي محمد كلاوي:
هذا سؤال متشعب لأنه تتفرع عنه الكثير من الأسئلة، خاصة فيما يتعلق بالسينما.
أولا ليس هناك مدرسة واحدة للنقد على عكس نقد الرواية، حيث هناك مدارس واتجاهات ولكل واحدة نمط ومنهج متبع في مساءلة المنتوج الأدبي.
ثانيا السينما نتاج عصري حداثي ارتبطت بالكتابات الصحافية التي تعرف بالفيلم. وبرزت هنا المجلات السينمائية الفرنسية.
ثالثا ليس هناك مدرسة تُكوّن متعلما لتحوله إلى ناقد. النقد نتيجة احتكاك بالفن أثناء المشاهدة.
رابعا ليس هناك مدرسة تدرس كيفية مشاهدة فيلم والكتابة عنه.
خامسا لأن وضع الناقد السينمائي هامشي في المغرب، مثل السينما ككل، إذ لم تتجذر السينما في الثقافة الشعبية المغربية كما حصل وتجذرت في مصر والهند مثلا. النقد ليس مهنة في المغرب. لا يعيش الناقد المغربي مما يكتب. جاء الناقد المغربي من تكوين جامعي أدبي أو فلسفي وحتى الآن، لم يقطع صلته ببيئته الأولى التي توفر له دخلا.
من جهته، يجيب الباحث السينمائي إدريس الجعايدي:
تطرح الكتابة النقدية إشكالية. النقد ممارسة تعتمد مرجعيات متداخلة ثقافية. هذا التعقيد يجعل تدريس هذه الكتابة صعبا. كان النقد يمارس شفويا في الأندية السينمائية، ومنتجو النقد لم يدْرسوه في مؤسسة. حتى الفرنسي أندري بازان مثلا لم يدرسِ النقد؛ بل تعلمه بالممارسة. النقد مَلكة تنمو بالممارسة في الأندية السينمائية ثم في الصحف.
تَتَطلب الكتابة جهدا يعتمد على مرجعيات كل ناقد. لا يمكن تدريس كيف تكتب قصة. نفس الشيء بالنسبة للنقد.
مشكل الكتابات النقدية السائدة هو أنها موضوعاتية اجتماعية وينقصها المعجم الفني والتقني... لا بد من دراية باللغة السينمائية، بسلم اللقطات وبموقع الكاميرا... بالحِرَف السينمائية كالمونتاج والصوت والمؤثرات البصرية، وطبعا الفنون التشكيلية ونقدها أيضا...
إضافة إلى ذلك تتطلب الكتابة النقدية معرفة المدارس السينمائية. مثلا السينما الصامتة والموجة الجديدة الفرنسية والواقعية الإيطالية والمدرسة التعبيرية الألمانية منذ السبعينيات... ومعرفة الأنواع الفيلمية: السخرية burlesque التشويق والويسترن والسينما البرازيلية في الستينيات...
لا بد من الاطلاع على هذه المرجعيات الثقافية؛ لأن الفيلم كمنتوج فني تتداخل فيه فنون كثيرة. ولا بد للناقد من معرفة هذا لاكتشافه أثناء المشاهدة والكتابة عنه.
جواب الناقد خليل الدامون، الرئيس السابق لجمعية نقاد السينما. يقول:
النقد السينمائي فعل إبداعي يمارَسُ في الصحافة أساسا، ويحتاج زمنا لإنجاز نصوصه. لا يُدرّس النقد لأنه يكتسب بالممارسة في الأندية السينمائية وفي الصحف. حاليا، صارت الأندية السينمائية نادرة. سيكون من الجيد حاليا إنشاء شعبة للنقد السينمائي.
لماذا لا يدرس النقد السينمائي في الجامعة المغربية؟
جواب مصطفى العلواني:
يتبع التشريع حركية الواقع.
خلال الحجر الصحي، عرض المركز السينمائي المغربي على موقعه خمسة وعشرين فيلما. وهذا حدث يحتاج المرافقة والتعليق والنقد... هذا متن سينمائي صار متاحا يغطي مرحلة فنية بكاملها. لكن أين المرافقة؟
فقط أقلام نقدية نادرة علقت على الحدث وكتبت عن الأفلام المعروضة.
في هذه الحالة، لا يمكن الحديث عن تهميش النقد من طرف مؤسسة رسمية ما؛ بل يبدو الأمر كتهميش ذاتي من النقاد أنفسهم. الناقد المغربي لا يعيش من كتابته، ولا جريدة تدفع له عن مقالاته.في مثل هذا المعطى لا يمكن وضع تشريع لإدماج النقد في المؤسسة الجامعية في ظل عدم قدرة الناقد على فرض نفسه في المشهد الثقافي.حتى في المهرجانات السينمائية المغربية يحصل أن تكون ممثلة شابة مبتدئة عضوة في لجنة تحكيم الفيلم الطويل، ولا يكون ناقد عريق ممارس عضوا في اللجنة.
وحين سألت مصطفى العلواني عن مثال لناقد مغربي عريق ذكر محمد الدهان الذي رحل في 2013، وقال عنه:
كان المرحوم الدهان أستاذا للسوسيولوجيا في جامعة محمد الخامس بالرباط، وقد أسند له محمد جسوس تدريس علم الاجتماع الحضري والقروي، لذا حين كان الدهان يتحدث عن فيلم مغربي فهو يعرف بيئته الاجتماعية بعمق، سواء كانت وقائع الفيلم تجري في المدينة أو البادية. وقد واكب الدهان الأفلام المغربية منذ نشأتها بالتعليق والنقد. كان تعليقه فنيا، ولم تكن تغلب عليه السوسيولوجيا والسياسة.
اهتم بالسينما مبكرا، تعرف مبكرا على النظريات السينمائية، وقد تأثر بكل فيلم في اللحظة العمرية المناسبة... كل استهلاك للصورة لديه مدعما ومحاطا بخطاب سينمائي. كان يملك ذاكرة سينمائية قوية تظهر عندما يتكلم عن الأفلام بطلاقة وعمق. كان السينمائيون الأفارقة في مهرجان خريبكة للسينما الإفريقية يلقبونه "ملك الكلمة".الدهان حياته هي السينما، كان يعيش ما يكتبه، لا فاصل بين حياته العامة والخاصة، حتى حين يسافر فلكي يحضر مهرجان سينمائي. كان نشيطا في الأندية السينمائية، وبالضبط في الرباط. وهنا، وبفضل نور الدين الصايل ومحمد الدهان، صارت للخطاب حول السينمائي وضع اعتباري في المغرب.
كيف؟
فمعهما لم يعد النقد إنشاء صحافيا.
لقد فتحا عيون رواد الأندية بفضل خطاب سينمائي رفع السينما من فن آلي تقني قطيعي إلى مرتبة ثقافة. بفضل النقد صارت السينما رؤيا للعالم. لشرح سياق هذا التحول فحتى ستينيات القرن الماضي كان ينظر في المجتمع المغربي إلى من يدخل قاعة السينما بأنه "صلكوط".كان المرحوم محمد الدهان يملك ثقافة سينمائية من خلال المشاهدة ومن خلال الاطلاع المبكر وما رافقه وتسلح به لم يكن يقف أمام الأفلام أعزل؛ بل يملك المفاتيح لتجاوز العتبة لكشف طبقات الفيلم لذلك كان لخطابه أثر، فحديثه عن فيلم يستفز المستمع لمعاودة المشاهدة لاكتشاف ما فاته ولم يلاحظه.
هكذا يخدم النقد الفرجة السينمائية.
جواب عمر آيت المختار، الرئيس السابق لجمعية الأندية السينمائية:
فعلا، لا يدرّس النقد السينمائي حاليا في المؤسسات الجامعية المغربية؛ لكن أتصور أنه حين ستكون الحاجة إليه سيدرّس. لم يكن هناك معهد لمهن السينما في المغرب حتى سنة 2014. تدريس السينما فعل حديث. ويمكن مستقبلا أن يدرّس النقد السينمائي في مؤسسات التعليم العالي المغربية.
يجيب الناقد والمخرج عبد الإله الجواهري:
"السينما فن حداثي، ومجتمعنا محافظ وبالتالي تغيب فيه الثقافة السينمائية. غياب في المنظومة التعليمية والتربوية سواء في الإعدادي والثانوي وأيضا في الجامعة، وبالتالي فكل تجليات الممارسة السينمائية جد غائبة، بما فيها النقد السينمائي؛ بل إن النقد السينمائي هو الحقل الأكثر محاربة على اعتبار أنه يُعلم التأمل والقراءة والتحليل... ومسؤولونا يرفضون كل أنواع النقد، وبالتالي يحاربونه بشكل مباشر أو غير مباشر".
لماذا لا يدرّس النقد السينمائي في المؤسسات الجامعية المغربية؟
يجيب مراقب عريق طلب عدم ذكر اسمه؛ لأنه يعتبر أن صمته ضروري للحفاظ على كرامته (وموقعه)، يقول:
تاريخيا، كان النقد حاضرا في صفحات سينمائية أسبوعية في جرائد مغربية عديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقد توقفت هذه الصفحات منذ أكثر من عشرين سنة. بعدها، قلت الكتابات. يبدو أن الشفوي غير قابل للتدريس؛ لأنه يتبدد، ولأنه لا يعلن مراجعه. أظن أنه قد بنى بعض النقاد المغاربة الشفويين الأوائل مجدهم على مواد ومجلات غربية، وتحقق ذلك المجد قبل أن نكتشف نحن تلك المواد. لهذا، كنت دائما أتساءل: لماذا يسهل ويكثر تناول فيلم صدر منذ 30 سنة بدل نقد فيلم صدر هذا العام؟.
هذه أجوبة متنوعة وتشخيصية للمشهد أيضا، في انتظار أن يدرّس النقد السينمائي في الجامعة المغربية.
لماذا يعتبر الدرس والفعل النقدي ضروريا في كل المجالات، وخاصة النقد الذاتي؟
لأنه يحرّر الدوكسا Doxa من الأحكام المسبقة الوثوقية التي يحملها، يدفعه إلى مراجعة موقفه وأفكاره تبعا لتطورات المعرفة والواقع وضروراته.
دون نقد نغرق في الوثوقية الزائدة التي تتغذى من نمط تفكير سطحي بسيط يتبنى الآراء الشائعة وبادي الرأي الذي لا يصمد أمام التحليل والتجربة، وقد ساعد فيروس كورونا على تعرية وتدمير الكثير من الوثوقيات في أيام قليلة من مارس 2020. وثوقيات الذين زعموا أن كورونا مؤامرة أو لا وجود له أصلا. ماذا علمتهم التجربة؟
النقد، سواء كان فنيا أو اجتماعيا أو سياسيا، هو تمرين على النقاش والتعليق الذي يؤيد أو يعدل أو يفد فكرة.. نقاش يهدف إلى تعميق الفهم وتحويله إلى جهد تنظيمي للتأثير في المستقبل. من هنا، فالنقد فعل تقدمي ضروري في كل منظومة فنية وتعليمية.
وقد يهمك ايضا:
الجامعة المغربية تؤكد أن مشروع قانون تعويض الزبائن يتلاءم مع قانون حماية المستهلك
غضب في المملكة بسبب تحويل الجامعة المغربية من إنتاج المفكرين إلى الغشاشين