الخرطوم ـ المغرب اليوم
من عجائب علمِ الآثار في السودان، أن الفتوحاتِ البحثية الكبرى في هذا المجال حدثت بعد تعلية خزان أسوان الأولى سنة 1912، وزادت الفتوحات وازدهرت بعد إنشاء السد العالي في مصر في ستينيات القرن العشرين. إذ لفتت هذه الأعمال الإنشائية المائية الكبرى أنظارَ الباحثين بقوةٍ إلى المناطق المحيطة بهذين السدين من أجل دراسة التاريخ الثقافي والاجتماعي لمنطقة النوبة السفلى في مصر وامتداداتها العليا في شمال السودان.
ومن هناك بدأ الاهتمام بالآثار التي ترجع إلى الفترة العثمانية التي امتدت ثلاثة قرون تقريباً من سنة 895 هـ/ 1517هـ وإلى سنة 1303هـ/1827م، ودخلت في جدول أعمال المكتشفين الآثاريين.
والسبب الرئيس للأهمية البالغة لتلك الفترة في تاريخ وادي النيل الأوسط- وهي تشمل بلاد النوبة- من منظور علم الآثار هو أن تلك المنطقة كانت قد دخلت ضمن حدود الخلافة العثمانية التي وصلت إلى بلاد النوبة الواقعة بين الشلالين الأول والثالث.
وقد مرت المنطقة بمتغيرات هائلة أثرت على نوعية الأدلة التاريخية والأوابد الآثارية كما يقول الدكتور عبد الرحمن إبراهيم سعيد علي، في كتابه الصادر حديثاً بعنوان: «الآثار العثمانية في السودان: آثار ما نسيته الآثار» (الخرطوم: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة- كتاب سنار رقم 23- 2017م).
وتميز المدرسة التاريخية السودانية بصفة عامة بين ثلاثة مراحل للعصر العثماني في السودان هي: مرحلة «التركية الأولى» من سنة 1517 إلى سنة 1821م. ومرحلة «التركية الثانية» وهي التي تلت حملة محمد علي باشا على السودان من سنة 1821 إلى سنة 1885، ومرحلة «التركية الثالثة» من سنة 1898م إلى سنة 1916م وهي فترة الحكم المشترك المصري البريطاني.
وتذكر المصادر التاريخية أن الموجة العثمانية الأولى توقفت سنة 895هـ/1517م في مقاطعة أسيوط في الصعيد المصري الجنوبي مع منطقة أسوان؛ حيث كانت سياسة المحافظة على الحدود للسلاطين المماليك آنذاك قد انتقلت بسبب ضعفهم إلى أيدي بني كنز من بلاد النوبة. وفي الشرق تمت السيطرة العثمانية على ميناء سواكن في سنة 1557م، وانضمت إلى سنجوقية الحبشة. وكانت سلطنة الفونج هي العقبة الكؤود أمام التوسع العثماني جنوباً، وأسهمت «قلعة إبريم» بدور دفاعي كبير في صد تلك الموجة العثمانية. ثم حدث تغير جذري في سياسة التوسع العثماني في سنتي 1582 و1583م أثناء عهد السلطان سليم الثاني بسبب إخفاقهم في الشرق السوداني وانتهاء سنجوقية الحبشة؛ إذ عادت القوات العثمانية لإخضاع سلطنة الفونج مرة أخرى. ووصلت إلى منطقة «المحس» وحققت انتصاراً ساحقاً على جيش الفونج، وأعادت رسم الحدود في منطقة «إبريم» وأصبحت تتألف من ثلاثة سناجق تمتد من جرجا في صعيد مصر إلى صاي في شمال السودان حالياً. وأوضحت الاكتشافات الآثارية أن العثمانيين استخدموا حصن «صاي» كواحد من أهم الدفاعات الحدودية.
وأغلب الدراسات الآثارية التي تخصصت في منطقة النوبة التي تشمل مناطق: المحس، وإبريم، وصاي، في شمال السودان، وكذلك في سواكن على البحر الأحمر؛ تؤكدُ على أن سياسات الدولة العثمانية لم تهدف إلى فرض تعديلات جوهرية تمس النظمَ الأساسية التي كانت قائمة في تلك الفترة، باستثناء ما كان يتعارض منها مع السيادة العثمانية، وفيما عدا ذلك ترك العثمانيون رعاياهم يمارسون حياتهم وفق الأسلوب الذي ألفوه من قبل؛ الأمر الذي مكنهم من المحافظة على لغاتهم المحلية وثقافاتهم ودياناتهم وتقاليدهم الخاصة.
ورغم تنوع الآثار العثمانية في السودان وأهميتها؛ سواء كانت في صورة عمارة مدنية، أو عمارة دينية، أو عمارة عسكرية، إلا أن العمارة العسكرية تعتبر هي الأكثر أهمية من الناحية التاريخية والآثارية معاً. وهي لا تزال في أغلبها قائمة في مواقعها إلى اليوم. ومنها: قلعة إبريم، وقلعة صاي، وقلعة تنري.
وتقع قلعة إبريم العسكرية في أراضي النوبة المصرية على بعد 45 كلم جنوب معبد «أبو سمبل»، وهي تشرف على جرف عال من الضفة الشرقية للنيل، ومحاطة حالياً بمياه بحيرة ناصر.
وأقرب أثر عثماني للقلعة من جهة الجنوب هو موقع «الدُّر» في النوبة السفلى، ولا يزال قائماً في موقعه الأصلي. وتشغل قلعة إبريم مساحة كبيرة تشمل عدة وديان، تكثر فيها أشجار النخيل التي تنتج «البلح الإبريمي» ذائع الصيت لدى المصريين والسودانيين، وبخاصة في شهر رمضان.
وكشفت الحفريات الآثارية عن أن قلعة إبريم قد صارت مقراً ومعسكراً لجنود عثمانيين من البوسنة بعد سنة 1517م. كما كشفت تلك الحفريات عن غلبة الطابع الدفاعي على معمار هذه القلعة؛ فالبرج الجنوبي منها مثلاً توجد به أربع فتحات للبنادق، ومدخل، ومادة هذا البرج من الطين والحجارة، وفيه تم استعمال القوس العثماني الشهير الذي يظهر في مشاهد المسلسل التركي «قيامة أرطغرل».
وإلى جانب العمارة العسكرية، كشفت الحفريات الآثارية عن نماذج متعددة من الأبنية المدنية مثل: المنازل، والمطابخ وغرف الخزائن، ومعالف الحيوانات، والسواقي.
أما «قلعة صاي» فتقع على الضفة الغربية للنيل على بعد حوالي 600 كلم شمال العاصمة الخرطوم.
وقد ذكر الرحالة «بروكهاردت» عند زيارته للجزيرة ومكوثه بعض الوقت في قلعة صاي، أن بها عدة مدافع وأسلحة نارية وذخائر، كما قال: إن بالقلعة «شيخاً للإسلام، وقاضياً له اتصال بقاضي قلعة إبريم».
وأشار أيضاً إلى أن لفظ «صاي» وإن كان علماً على الجزيرة، إلا أنه يطلق عادة على كل الإقليم الواقع بين منطقة «السكوت»، ومنطقة «المحس» من أراضي السودان الشمالي.
و"حصن صاي"، عبارة عن مبني من مداميك متعاقبة من الحجر واللبن، وأسواره عالية. ولا يزال جزء كبير من هذه القلعة العثمانية قائماً إلى اليوم.
ومن المنظور التاريخي تعتبر «قلعة صاي» هي الأثر الأخير الدال على سلسلة المحاولات العثمانية لإخضاع كل شمال شرق أفريقيا والاستفادة من موارده من الذهب والرقيق والصمغ والعاج. ويذكر الدكتور عبد الرحمن إبراهيم أن ثمة عوامل كثيرة ساعدت على ترجمة وتفسير الآثار الموجودة في قلعة صاي، ومنها الدراسات التي تمت في الأرشيف العثماني في القاهرة واسطنبول، وحفريات قصر إبريم. ومما كشفته تلك الدراسات: أن الجنود العثمانيين الغرباء أصبحوا من ملاك الأراضي، وأنهم تحدثوا بالنوبية بعد فترة قصيرة، ولا يزال أحفادهم يعيشون في أرض الجزيرة هناك إلى اليوم.
أما «قلعة المحس»، أو كما تسميها المصادر الآثارية «قلعة تنري»، فتقع في منطقة المحس الممتدة من الحدود الجنوبية لمنطقة السكوت، وتمتد حتى الحدود الشمالية لمنطقة دنقلا؛ بين خطي عرض 19.42، و21 شمال خط الاستواء. وقد برهنت أعمال المسح الآثاري في تلك المنطقة على وجود إرث ثقافي وعمراني عريق، ويشتمل هذا الإرث على عدد كبير من المواقع التاريخية منها قلعة «تنري/المحس»؛ وهي قلعة حصينة تقع الضفة الغربية للنيل.
وقد وصفها الرحالة العثماني المشتهر أوليا جلبي بقوله:» في تنري قلعة، مبنية في جزيرة، تقترب أكثر إلى الضفة الغربية للنيل، وتفتح على الشرق، وأعلى بوابتها على شكل أسد، وبالقلعة مسجدان، وحوش ومقهى، وسبعة متاجر لبيع البوظة، ويسمى أميرها صالحاً، وتحت إمرته ثمانمائة رجل، وحوالي أربعة إلى خمسة آلاف نسمة..».
وفي العصر العثماني أخذت قلعة تنري شكلاً أشبه بالمثلث، حيث تكونت من ثلاثة أبراج: البرج الشرقي هو رأس المثلث، وبرجان في الاتجاهين الشمالي الغربي والجنوبي الغربي، وهما قاعدة المثلث.
وتوضح الوثائق الخاصة بآثار هذه المنطقة من شمال السودان وشمال شرقه (إبريم- صاي- المحس) أن المرتبات الخاصة بالجنود في قلعتي إبريم وصاي ظلت تصل إليهم حتى 1796م، وهذا يدل على أن الدولة العمثانية احتفظت بمواقعها في هذه المنطقة، بالرغم من ظهور عدد من الملوك والسلاطين المحليين.
وفي عام 1798م تمكنت الحملة الفرنسية على مصر من قطع روابط قلعة صاي بالحكومة العثمانية عدا الطريق الصحراوي للقوافل إلى سواكن عبر منطقة «بربر» داخل حدود بلاد الفونج.
أقرأ أيضًا:بدء أعمال المؤتمر العالمي الحادي عشر لمدونة الآثار العثمانية
وكان أول تأثير هو توقف المرتبات العثمانية لجنود القلعة، ومن ثم اتجه كثيرون منهم للعمل بالزراعة، وذابوا في أهل البلاد الأصليين.
أما عن آثار العثمانيين في «سواكن»، فيذكر عبد الرحمن إبراهيم في كتابه أن الرحالة المسلمين عرفوها منذ وقت مبكر، ومنهم المسعودي في كتابه «مروج الذهب»، وياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان»، وابن بطوطة في رحلته المشتهرة، والقلقشندي في كتابه «صبح الأعشى».
وتبين نصوص المؤرخين أن سواكن ذات أهمية كبيرة كمركزٍ تجاري رئيسي على البحر الأحمر، الذي شهد في العصر العثماني حركة تجارية نشطة بسبب ما تذخر به المنطقة من معادن الزمُرُّد والذهب، إضافة إلى حركة الحجيج إلى بين الله الحرام مروراً بمينائها. ولا تزال جزيرة سواكن في مركز الاستراتيجيات البحرية والسياسات الدولية. ومن أحدث المظاهر الدالة على ذلك: الاتفاق السودني التركي بشأن تنمية جزيرة سواكن في سنة 2017م.
وتكشف الأعمال الآثارية للباحث «جان بيير جرينلو» التي قام بها في أربعينيات وسبعينيات القرن العشرين، عن أن سواكن تعتبر مثالاً لمدينة تركية صغيرة، تم بناؤها بين القرنين: التاسع والرابع عشر للهجرة/السادس عشر والعشرين للميلاد.
وحفلت هذه الجزيرة بكثير من الآثار العثمانية: منها العمائر المدنية، وأهمها المنازل ذات الطراز التركي وأبرزها منزل خورشيد باشا، الذي يقع في الجزء الشمالي الشرقي للجزيرة. وهو يتكون من حوشين وثلاث غرف. ويطل على البحر الأحمر من جهة الشرق، وقريب من المسجد الشافعي والمسجد الحنفي ومسجد تاج السر من جهة أخرى.
أما العمارة الدينية فأبرزها المساجد والزوايا، ومنها المسجد المجيدي الذي بناه السلطان العثماني، وهو يتكون من رواق القبلة بحرابه ومنبره ودكة المبلغ، وملحق به خلوة للصوفية ومئذنة مبنية من الحجر ومثمنة، وبها مقرنص، وبنيت شرفتها من الحجر خلافاً لبقية المآذن في سواكن التي شرفاتها خشبية.
وأخذت العمارة العسكرية العثمانية في سواكن شكل تحصينات وبوابات رئيسية تحيط بالمدينة وعدد من القلاع منها: قلعتان صغيرتان بناهما العثمانيون في القرن العاشر للهجرة/19 للميلاد، و «قلعة حندوب» التي لعبت دوراً كبيراً خلال الفترة المهدية في السودان.
وترك العثمانيون في سواكن أيضاً الكثير من أعمال الفنون الزخرفية على أسطح المباني، وبخاصة المنازل والمساجد المكسوة بالجص؛ وهي زخارف نباتية وهندسية متنوعة الأشكال والألوان.
ويشكو المختصون في الآثار السودانية من أن آثار العصر العثماني في عموم بلاد السودان لم تأخذ حظها من الدراسات الجادة؛ رغم أن ما تم منها بشأن مناطق شمال السودان(إبريم- صاي- المحس) إلى جانب سواكن على البحر الأحمر، تدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن العثمانيين تركوا كثيراً من الآثار خلال القرون الثلاثة الممتدة من نهاية التاسع إلى بداية الرابع عشر للهجرة/ السادس عشر إلى التاسع عشر للميلاد.
وبدون فهم تلك الفترة من جوانبها التاريخية والآثارية والثقافية والاجتماعية؛ فإنه سيكون من العسير فهم تاريخ بلاد النوبة وعمق ارتباطها وتجذرها في علاقات متشابكة؛ إلى الدرجة التي لا يمكن تمييزها ولا فصمها عن محيطها العربي الإسلامي.
وقد يهمك أيضًا:اكتشاف نصب من العصر الحجري أثناء بناء مشروع سكني
العثور على جينات تعود إلى 15 ألف سنة في مغارة الحمام في تافوغالت