الرباط – المغرب اليوم
سردت رواية "طبيب فاس" التاريخية لـ"هيرمان شخابيغ" أحداث الرحلة الأولى التي قام بها الرّحالة الألماني جيرهارد رولفز إلى المغرب سنة 1861، أي في النصف الثاني من القرن 19، حيث كان المغرب في تلك الفترة محط أطماع عدد من الدول، على رأسها إسبانيا وإنجلترا وفرنسا.
أحداث صاغها الكاتب في قالب روائيّ مشوق ومليء بالمغامرات منذ أن وطئت قدما رولفز الأراضي المغربية، وبالضبط طنجة، قادما من الجزائر، حيث كان طبيبا في فيلق القوات العسكرية الفرنسية للأجانب، بعدما سمع برغبة السلطان في تجديد الجيش وضمّ أطر أجنبيّة من أطباء وضبّاط. غادر رولفز الجزائر على متن سفينة بخارية وليس بحوزته غير ثيابه والقليل من المال، وركب غمار المغامرة، فالمغرب حينها لم يكن منفتحا على الدول الأجنبيّة، كما لم يكن مرحبا بالأجانب داخل البلاد. ورغم التّحذيرات الّتي تلقاها رولفز بالرّجوع عن عزمه لأنّه قد يفقد حياته جرّاء ركوبه هذه المغامرة، فإنه لم يفعل ومضى قدما مرتديا زيّ مسلم، ومدّعيّا اعتناقه الإسلام، وأطلق على نفسه اسم "مصطفى"، الأمر الّذي أتاح له فرصة الدّخول إلى البيوت المغربيّة واكتشاف أسرارها والاختلاط بشتّى شرائح المجتمع المغربي، والاطّلاع على طرق عيشهم وتعاملهم، خصوصا نظرتهم إلى الأجانب، وبالضّبط النّصارى. تعرّف رولفز أيضا على مناطق في المغرب لم يكن حينها قد زارها أحد من الأجانب من قبل، فوصفها في كتابه المعنون بـ"إقامتي الأولى في المغرب والرّحلة جنوب جبال الأطلس عبر واحات درعة وتافيلالت" وصفا دقيقا.
أقرأ أيضا عمران خان يكذب الرواية الأميركية عن "القبض على بن لادن"
كما تتطرق الرواية إلى العلاقة الّتي جمعت بين رولفز وكبير شرفاء الزاوية الوزانية، الحاج عبد السلام، الذي كان معجبا بكلّ ما هو أوروبي، وتبيّن ذلك بجلاء في طريقة استقباله لرولفز، وفي الصّداقة الوطيدة الّتي جمعت بينهما: "إنّ سيدنا رجل قويّ البنية في الواحدة والثلاثين من العمر. هو ممتلئ شيئا ما بالنّسبة لرجل في سنّه، لكنّ وجهه يعلوه الوقار بوضوح ويبدو أنّه شخص اعتاد إصدار الأوامر. كما أنّ قداسة شخصه تعرف من طول اسمه؛ فكلّما وقّع وثيقة ما لا يسهى أبدا عن كتابة كلّ حرف من حروفه: سيدنا الحاج عبد السلام بن العربي بن علي بن أحمد بن محمد بن الطيب. ورغم أنّ اسمه بلا نهاية إلاّ أنّه رجل عصري في تفكيره. لقد تأقلم مع الأوضاع في أوروبّا بحكم أنّه قام قبل سنة بزيارة لفرنسا والمقارنة الّتي قام بها جعلته يمعن التّفكير".
وتعرّض رولفز للسّرقة وللعنف أكثر من مرّة نظرا لارتيّاب النّاس في أمره، لكنّه كان ينجو في كلّ مرة بأعجوبة، وكاد يفقد الأمل في نجاته في مرّات عديدة، حيث كان يرى الهلاك قريبا جدّا. وفعلا كاد يهلك في تخوم الصّحراء حين هاجمه بعض قطّاع الطّرق، فنهبوا كلّ ما يملك وتركوه في الخلاء مضرجا في دمائه جرّاء الجروح البليغة في كلّ جسده، فظلّ على هذا الحال ثلاثة أيّام إلى أن مرّ به بالصّدفة رجلان من قبيلة مجاورة وأنقذاه من الهلاك المحتّم.
ولإضفاء بعض الرومانسية على الرّواية قام الكاتب بافتراض قصّة غراميّة جمعت بين بطل الرّواية جيرهارد رولفز وعائشة، قريبة سيدنا الحاج عبد السلام. هذه العلاقة يقدّمها لنا الكاتب في قالب محتشم، مراعيا في ذلك خصوصيّات المجتمع المغربي المحافظ. ورغم ارتباط رولفز عاطفيّا بهذه الشّابة، فإنّ ذلك لم يمنعه من مواصلة رحلته لسبر أغوار البلاد واكتشاف المجهول وتدوين اسمه بحروف من ذهب في كتاب التاريخ البشري.
" ـ أنا لا أفهمك مصطفى، كيف تكون غريبا ولم يعد هناك فرق بينك وبين النّاس الّذين تصنع فيهم معروفا وهم بدورهم يتقبّلون مساعدتك ويحترمونك ويثقون بك؟ ـ ليس هذا يا عائشة، لا يمكن للحبّ والصّداقة أن يجعلا من شخص ما شخصا آخر مختلفا عما تريده الطّبيعة. أنتم أناس شعبكم وأنا ألماني حتّى وإن لبست ثياب هذا البلد وتحدّثت لغتكم وأحسنت الظّنّ بهؤلاء النّاس الّذين تنتمين أنت أيضا إليهم، فهذا لن يقلّص الحاجز الّذي يفصلنا. أنتم هنا وأنا على الضّفّة الأخرى". (طبيب فاس، ص: 180).
وحقّق رولفز هدفه الّذي كان يصبو إليه بالانضمام إلى جيش السّلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، حيث عُيّن كبير الأطبّاء في الجيش، ثمّ طبيب "حريم الملك"، لكنّ خيبة أمله كانت كبيرة حين وقف بنفسه على أحوال الجيش، وعلى المعاملات العسكريّة والسياسية في البلاد: "إنّ الأمور هنا لا تبدو ملوّنة ومليئة بالأمل كما رسمها بجدّيّة حين كان لا يزال في الثّكنة بالجزائر. الشّيء الوحيد الّذي أثار إعجابه في جيش السّلطان هو تنوّعه العرقيّ لا غير. إنّه غير راغب في خداع نفسه، فتفاؤله موضوع تحت اختبار صعب. لقد كان فيما مضى جنديّا في ألمانيا واختبر بنفسه التّدريبات العسكريّة، كما أنّه رأى بأمِّ عينه نتيجة التّدريب المُنظّم والحكمة الجيّدة والقوّة البشريّة لفرقة عسكريّة حتّى وإن كانت صغيرة. لكنّ ما رآه في فاس من همجيّة واضحة وصراخ كثير وضوضاء على أنّه استعراض عسكريّ، لعرض بائس. أكيد أنّ أغلب جنود السّلطان قد اندسّوا في بدلات عسكريّة من أصل أوروبي، لكنّهم مع ذلك غير أكفاء. بعض الدّول قد فتحت مستودعاتها وألقت نظرة على الأركان المغطّاة بالغبار، ثمّ اختارت أقدم وأرثّ البدل الغير قابلة للاستعمال في جيوشهم وباعتها مقابل مبالغ هامّة عن طريق وسطاء يشتغلون بضبابيّة ولا يغفلون طبعا عن ملء جيوبهم، فوضعوا هذه البدلات، والسّرور يغمرهم تحت تصرّف رجال الحاكم المغربيّ المقرّبين والعديمي الحسّ".
هذا ما جعله يفكّر في ترك الخدمة ومواصلة رحلته بعد اكتشافه حقيقة أنّ حلمه أكبر من أن يكون موظفا في جيش السّلطان، فمكسبه الحقيقي الآن هو الغوص في خبايا البلد واكتشافها، مدوّنا كلّ ملاحظاته في دفتر كان رفيق دربه طوال رحلته. هذا الدّفتر هو الّذي سيتحوّل فيما بعد إلى كتاب سيحدث ضجّة في الأوساط الأوروبيّة ويجعل جمعيّات تتبنّى أفكاره وتموّل رحلاته المقبلة.
إنّ فكرة ترجمة هذه الرّواية نابعة من رغبة ملّحّة في تسليط الضّوء على جانب لم ينل بعد حقّه الكافي من الاهتمام والدّراسة في الأوساط المغربيّة، فالكتب الّتي خلّفها سواء الرّحالة أو الأدباء أو الدارسون الألمان، كلّ حسب مجال عمله، غنيّة بالمعارف والتّحليل الدّقيق للمجتمع المغربي إبّان فترات متفاوتة. هذه الكتب لم تهتم بجانب واحد فقط، بل كانت شاملة في تناولها للمواضيع فقد تعتبر مرجعا تاريخيّا واجتماعيّا وسيّاسيّا... بالنّسبة إلى الباحث المغربي. والرّواية الّتي بين أيدينا تشمل رحلة رولفز بكلّ تفاصيلها مع بعض الإضافات طبعا من طرف الكاتب تقتضيها الضّرورة بحكم أنّ الكتاب ينتمي إلى نوع الرّواية. والأهم هنا بالنّسبة إلى القارئ هو رؤية صورته بعين أجنبيّة، فكثيرة هي الأشياء الّتي نمارسها يوميّا دون إعارتها اهتماما، لكنّ الآخر يجعلها نقطة انطلاق لانتقاد شعب بأسره، والعكس صحيح هنا أيضا.
قد يهمك أيضا
بطلة رواية "الطائشة" للكاتب انطون تشيخوف تثير الجدل بعد قرن من وفاته
مديرية الأمن تنفي رواية شقيق ضحية واقعة إطلاق الرصاص في الدار البيضاء