باريس ـ مارينا منصف
تعتبر باريس الأكثر قلقاً من عودة المقاتلين الفرنسيين أو المقيمين على الأراضي الفرنسية من سورية والعراق إلى أراضيها، وذلك لسبب “بسيط” هو أن فرنسا كانت البلد “المصدر” الذي وفَّر العدد الأكبر من المقاتلين من بين جميع البلدان الأوروبية. ووفق الأرقام التي نشرها “المركز الفرنسي لتحليل التطرّف ”، فإن 2370 مواطناً ومقيماً انطلقوا من فرنسا إلى “ميادين القتال” أكان ذلك في سورية أو العراق وذلك من أصل 7456 شخصاً.
وتعود المرتبة الثانية لبريطانيا بـ1700 شخص، تليها ألمانيا في المرتبة الثالثة (960 شخصا). أما المراتب الأخرى فتحتلها بلجيكا (749 شخصًا)، فالنمسا (355 شخصًا) ثم السويد (311 شخصًا). وفي أسفل اللائحة تجيء هولندا، وأخيراً إسبانيا. لكن النسبة الأعلى قياساً لعدد السكان تحتلها بلجيكا التي برزت بقوة على المسرح المتطرّف، بسبب تورط كثير من مواطنيها في العمليات التي ضربت باريس خريف عام 2015 وبلجيكا، ربيع عام 2016. ولم يكف الرأي العام الفرنسي الذي فاجأه القبض على 9 متطرّفين فرنسيين، أبرزهم توماس باروان على أيدي وحدات حماية الشعب الكردية في محيط مدينة الحسكة (شمال شرقي سورية )، حتى جاء الكشف عن تعطيل 13 عملية متطرّفة العام المنتهي ليزيد من نسبة قلقه. ومع اقتراب الاحتفالات بعيد رأس السنة الجديدة، عمدت وزارة الداخلية، بالتعاون مع وزارة الدفاع، إلى حشد ما لا يقل عن مائة ألف رجل (شرطة ودركاً وجيشاً) للمحافظة على الأمن من خلال تعزيز الدوريات الراجلة والسيارة وتشديد الحماية على الأماكن الحساسة التي تشهد أكبر نسبة تجمع للمواطنين والسياح ناهيك بأماكن العبادة والمحطات.
وتحظى باريس بالنسبة الأكبر من الحماية الأمنية خصوصاً أماكن التجمع التقليدية أكان ذلك جادة الشانزلزيه التي ستشهد، منتصف الليلة المقبلة، ومع حلول عام 2018، جحافل البشر أو كاتدرائية نوتردام أو برج إيفل وغيرها من الأماكن السياحية. تعتبر السلطات الأمنية في باريس أن التهديد المتطرّف “لم تخفَّ وطأته” رغم الهزائم التي مُنِي بها تنظيم داعش في سورية والعراق لا بل إنه زاد بسبب “تفرق” المقاتلين وسعيهم إلى العودة إلى البلدان التي انطلقوا منها. لكن للتهديد المتطرّف وجهاً آخر يتمثل بالأفراد الذين لم يتركوا أبدا الأراضي الفرنسية، ولكنهم كانوا إما على اتصال مع فرنسيين ذهبوا إلى سورية والعراق أو أنهم يُصنّفون في خانة “الذئاب المتوحدة” الذين يصعب توقع اللحظة التي يقررون فيها القيام بعملية متطرّفة بدائية. وفي هذا السياق، أفادت تقارير أكدت مضمونها المصادر الأمنية، بأن المخابرات الداخلية الفرنسية وضعت اليد على إسلاميين، نهاية الأسبوع الماضي، في منطقتي باريس ومدينة ليون كانا ينويان القيام بعمليتين إرهابيتين في العاصمة، وفي ثاني أكبر مدينة فرنسية.
ووفق المعلومات التي نشرتها صحيفة “لو فيغارو” في عددها الصادر يوم أمس، فإن هذين الشخصين (شاب وشابة عمرهما 21 و19 سنة) كان كلاهما على تواصل مع فرنسيين أعضاء في تنظيم داعش المتطرّف في سورية لكنهما لم يكونا يعملان بالتنسيق بينهما. وبحسب المعلومات المشار إليها، فإن هذين الشخصين قاما بعمليات استكشاف لتحديد الأهداف والتحضير للعمليات. غير أن تنفيذ خطط الهجوم على رجال أمن لم يحصل لأن هذين الشخصين لم ينجحا في الحصول على الأسلحة الضرورية. وقد نجحت الأجهزة الأمنية في الوصول إليهما من خلال مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي.
ونجحت هذه الأجهزة، بفضل الطريقة نفسها، في توقيف شابين؛ عبد ك. (31 عاما)، وفلورنتان ل. (18 عاماً) من أنصار “داعش” في مدينة روبيه (شمال فرنسا)، كانا ينشطان في بث آيديولوجيا “داعش” وصورها وأفلامها التسجيلية وتمجيد أعمالها باستخدام تطبيق “تلغرام” المشفر. ونجح هذان الشخصان في تشكيل مجموعة نقاش تضم ما لا يقل عن 50 شخصاً. وتقدر الأجهزة المعنية أن “مهمة” هذين الشخصين اللذين تم توجيه تهم رسمية لهما بتشكيل جمعية متطرّفة كنت تجنيد مقاتلين لـ”داعش”. والخلاصة التي توصل إليها المحللون هي أن أنشطة “داعش” لم تتوقف رغم ما يصيبها ميدانياً.
ويرى أحد مسؤولي الحرب على “داعش” أنه رغم الهزائم التي لحقت بهذا التنظيم في الأسابيع الماضية وضياع المناطق الشاسعة في سورية والعراق التي كانت يسيطر عليها، فإن القضاء على “الآيديولوجيا الداعشية لا يمكن أن يتم بواسطة الضربات الجوية أو القوات الخاصة”. ويضيف هذا المسؤول أن “داعش” ربما “لم يعد قادراً على تنظيم وتنفيذ عمليات واسعة”، كتلك التي ضربت باريس في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015 والتي احتاجت لتحضير وتنسيق كبيرين. لكنه بالمقابل ما زال قادراً على إطلاق عمليات “صغيرة” تقوم بها مجموعات ضيقة أو حتى أفراد. الجديد الذي حصل فرنسياً منذ الأول من نوفمبر الماضي أن العمل بقانون الطوارئ الذي فُرِض على البلاد بعد الهجمات الواسعة التي ضربت ملهى “الباتاكلان” وعدداً من مطاعم ومقاهي شرق العاصمة خريف عام 2017 قد انتهى، وهذا لا يعني أبداً أن مستوى التأهب الأمني قد تراجع، لأن حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون نجحت في إقرار قانون جديد لمحاربة التطرّف يستعيد كثيراً من التدابير التي توفرها حالة الطوارئ، الأمر الذي يمكِّن القوى الأمنية من الاستناد إليه من أجل الاستمرار في ملاحقة الإسلاميين المتطرفين الذين قد تجتذبهم الأعمال المتطرّفة . لكن الرغبة شيء والواقع المعقد شيء آخر. ورغم النجاح في تعطيل 13 محاولة متطرّفة منذ بداية عام 2017، فإنه لا ضمانات بخصوص أن التطرّف لن يضرب ثانية على الأراضي الفرنسية.