مدريد - د.ب.أ
يعالج كتاب ‘الغراب الأبيض’، وهو سيرة ذاتية جريئة للكاتب الكولومبي فرناند بايّيخو، تطوّر اللغة الإسبانية وتاريخها، وهويّتها، وجذورها، وقواعدها النحوية، واللغوية ومقارنتها باللغات الأخرى الكبرى مثل اللاتينية، والعربية.
لقد أبرز الكاتب الجهود الحثيثة التي قامت بها في هذا المجال شخصية فريدة في تاريخ العلوم والآداب واللغة في كولومبيا وأمريكا اللاتينية على وجه العموم وهو الباحث اللغوي ‘روفينو خوسّيه كويربو’، (كويربو تعني في اللغة الإسبانية الغُراب). ولد في بوغوتا 1844 وتوفي في باريس 1911،و كان ‘كويربو’ عالما جليلا، ومتفقّها كبيرا في العلوم النحوية، واللغوية الإسبانية . قدم الكتاب ضمن فعاليات إحدى دورات المعرض الدّولي للكتاب بالعاصمة الكولومبية (بوغوتا) بحضور عدد غفير من المعجبين بهذا الكاتب الغريب الأطوار فرناندو بايّيخو، المتمردّ والناقم أبدا والمغضوب عليه من طرف الكنيسة والعديد من الكتّاب، والنقاد، والمثقفين، والسياسيّين في بلده كولومبيا وخارجها.
يشير الكاتب الكولومبي ‘وليام أوسبينا’ الذي عهد إليه تقديم هذا الكتاب: ‘إن المؤلف قرأ وأطلع على ما يربو على 1.600 رسالة تعود لروفينو كويربو، واتّصل مع أزيد من مئتي عالم لهم صلة بموضوع بحثه، و ذلك ليزداد تعمّقا وتبحّرا في فكر هذا العالم المتخصّص في فقه اللغة الإسبانية وأصولها في أمريكا اللاتينية . كما أنه إطّلع على 5.200 مجلد من مراجع وآثار هذا العالم التي تقبع اليوم في المكتبة الوطنية الكولومبية ببوغوتا. وقرأ ما يربو على 30 كتابا أكاديميا كلها تتطرّق لحياة هذا العصاميّ الغريب الذي لم يتلقّ أيّ تعليم لا ثانوي ولا جامعي والذي لا شك انّه يذكّرنا بأديبنا وعالمنا الكبير عبّاس محمود العقّاد الذي لم يحصل هو الآخر سوى على الشهادة الابتدائية، وبفضل عصاميته، ومثابرته، وكدّه، واجتهاده، وسعة إطّلاعه شكّل في التاريخ الأدبي والعلمي والثقافي العربي المعاصر ظاهرة فريدة لا تتكرّر مثل عالمنا الكولومبي المغمور هذا.
اللّغة عفريت متمرّد
يتساءل بايّيخو في كتابه: ‘هل أخفق روفينو كويربو- كما هو الشأن مع باقي اللغويّين الآخرين- في محاولته إحكام قبضته على اللغة وأسرها..؟ ثمّ يجيب: ‘نعم ولكن لا، فبمعجمه الكبير حول القواعد اللغوية والنحوية في اللغة الإسبانية الذي جمع فيه عشرات الآلاف من شتات الكلمات والإشارات والملاحظات الدقيقة في فقه لغة سيرفانتيس كما لم يفعل أحد ذلك من قبل، قدّم لنا الدليل أنّ اللغة لا تشبه عفريت علاء الدين الذي يغلق عليه داخل زجاجة محكمة، بل إنّه على العكس جعل من اللغة عفريتا طليقا، متمرّدا، متغيّرا، متقلّبا، عنيدا يخرج أو يفرّ أو ينساب من حيث يريدون إدخاله داخل هذه الزجاجة، والإحكام عليه. فاللّغة في آخر المطاف مخلوق أو كائن حيّ يدبّ على قدمين، يتجدّد جلده كأفعى على امتداد الأحقاب والعصور.
ويتساءل الكاتب كذلك: ‘كيف أمكن لبلد مثل كولومبيا إنتاج ‘عفريت لغوي’ كولومبي ذي روح كبيرة طيّبة مثل روفينو خوسّيه كويربو الذي لم يتجاوز في دراسته مستوى المرحلة الثانوية ..؟، بل إنه جعل من الكتب والحياة مدرسته ومعلّميه، وعندما كان في الثامنة والثلاثين من عمره، ووصل إلى باريس كان قد أكمل معجمه الفريد حول بناء وأنظمة اللغة القشتالية المتمرّدة، هذه اللغة المجنونة التي نسج لها روفينو كويربو قميصا فضفاضا وثوبا متينا.
يصف فرناندو بايّيخو العالم روفينو كويربو بقوله إنه ‘الإنسان الأكثر نقاء وصفاء ونبلا في كولومبيا، وكانت تختلج بين ثنايا أضلعه أكبر روح عرفتها بلده’. كما تحدّث الكاتب عن حياة ‘كويربو’ وعن أصدقائه وخلاّنه ومعارفه من الكتّاب والشعراء بينهم الشاعر الكولومبي ‘رفائيل بومبو’ الذي كان أوّل من طالب بإلغاء أو وضع حدّ لحفلات مصارعة الثيران على الطريقة الإسبانية الهوجاء في كولومبيا، كما كان أوّل من نادى بخلق جمعيات لحماية الحيوانات والرفق بها .
هذا العالم الكولومبي، قيّض الله له أن يعيش في بلد ‘الدكاترة’ التوّاقين أبدا إلى الحظوة والاستئثار بسدّة الحكم، وتبوؤ كراسي الرئاسة، أما هو فلم يكن دكتورا، كما أنه لم يكن يتوق إلى الرئاسة أبدا. وعلى الرغم من كونه لم يلج الجامعة قطّ وكان عصاميّا سوّد نفسه بنفسه، وعلّم نفسه بنفسه إلا إنّه مع ذلك بز وفاق جميع العلماء والدكاترة من معاصريه الذين يمتشقون أوسمتهم التي تعلو صدورهم، ويزهون بشهاداتهم العليا المبروزة التي تتصدّر جدران قصورهم، وحيطان منازلهم ،على الرغم من ذلك فإنه قد أدرك من العلوم والمعارف من خبايا اللغة الإسبانية وأسرارها ما لم يدركه سواه في هذه الحاضرة العملاقة المسمّاة ‘بوغوتا’ والتي تفتخر وتتباهى في العالم الناطق باللغة الإسبانية بانّها تتحدّث أنقى وأفصح لغة قشتالية ليس في أمريكا اللاتينية وحسب بل وفى إسبانيا كذلك. وقد حصلت ‘بوغوتا’على لقب ‘أثينا أمريكا اللاتينية’ نظرا لعلوّ كعبها في مجالات العلم والأدب والسياسة والكياسة. إنّ المعجم الكبير فى لغة سيرفانتيس، وماتشادو، ولوركا، وبورخيس، وماركيز الذي وضعه هذا العالم الكولومبي قد لا يضاهيه أو يفوقه سوى أوّل معجم وضع عندنا في اللغة العربية وهو معجم ‘العين’ للخليل بن أحمد الفراهيدي، أو أوّل معجم وضع في اللغة الإسبانية من تأليف العالم الإسباني ‘أنطونيو دي نيبريخا’ أبو النحو واللغة والقواعد عند الإسبان .
الإسبانية والعربية
أمّا لقب ‘الغراب الأبيض’ فقد جاءه من رسالة مشهورة عند دارسي تاريخ اللغة الإسبانية كان قد وجّهها له معاصره العالم الألماني الكبير ‘ فريدريش أوغوست بوت’ وكانت مكتوبة باللغة اللاتينية حيث سمّاه أو أطلق عليه فيها باسم ‘الغراب الأبيض’ (كوربوس ألبوس) مقتبسا إسمه العائلي للكناية على هذا الطائر الفريد الفاحم اللّون المتكاثر في المنطقة التي ينتمي إليها والتي ولد فيها والقريبة من الجبال الأندينية الشاهقة التي تكاد تلامس بطن أيّ طائرة عملاقة تمرّ فوقها حيث تتكاثر هذه الأصناف من الغربان .
الكاتب فرناندو بايّيخو لا يبحث في هذا الكتاب في حياة روفينو كويربو فقط بل إنّه يبحث كذلك في روح وأصول وتطوّر اللغة الإسبانية، إنّه في هذا الكتاب ينتقل بنا من أحياء بوغوتا القديمة، وينقلنا معه في رحلة مثيرة عبر أعالي البحار في المحيطات النائية على ظهر سفن بخارية عملاقة تمخر عباب البحر ويشقّ حيزومها غمر لججه العالية والعاتية في اتجاه أوربا القارة العجوز، ويحطّ بنا الرحال في عاصمة النور باريس، ومنها ينقلنا إلى القسطنطينية العتيقة .
في هذا الكتاب نجد كذلك دراسات ومقارنات وبحوثا ضافية حول تاريخ اللغة الإسبانية وقواعدها النحوية واللغوية ومقارنتها باللغات الأخرى الكبيرة التي تعايشت معها وفى مقدّمتها اللغة العربية التي كان لها تأثير كبير وبليغ عليها على امتداد الأزمنة والأحقاب، كما هو معروف. كما نجد مقارنات بين الإسبانية ولغات أخرى معاصرة لها مثل الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية، وهكذا يقدّم لنا الكاتب تاريخ تطوّر العديد من الكلمات والتعابير والمسمّيات ودخولها واستقرارها وذوبان بعضها في اللغة الإسبانية على امتداد التاريخ. ويؤكّد الكاتب الكولومبي ‘نيلسون فريدي بادييّا’ أنّ هذا الكتاب لابدّ انّه سيصبح مرجعا أساسيا لكل من يريد تعلّم اللغة الإسبانية وإتقانها بشكل جيّد قراءة وكتابة وتحدّثا .
الإسلام دين تسامح
ويقول معاصر فرناندو بايّيخو وبلديّه الكاتب المكسيكي ‘أنطونيو ألاتورّي’ ورفيقه في البحث والدراسة والتمحيص في نفس سياق تأثير اللغة العربية في اللغة الإسبانية في كتابه الذي يحمل عنوان ‘ألف سنة وسنة من تاريخ اللغة الإسبانية’: ‘انّه عندما عمد إلى كتابة الفصل المتعلق بتأثير اللغة العربية في اللغة الإسبانية، وصار ينقّب في الوثائق والمصادر والمظان تيقّن له أنّ شيئا غير عادي كان يحدث له، حيث وجد نفسه يربط التاريخ باللغة. ويضيف الباحث قائلا: ‘لقد بهرني العهد المتعلق بوجود العرب والبربر المسلمين في إسبانيا، بل إنني شعرت بانجذاب كبير نحو هذا العهد، وإنّ أهمّ وأبرز ما أسترعى انتباهي وسيطر على مجامعي في هذا العهد هو التسامح، فالمسلمون بعد أن استقرّوا في إسبانيا لم يكونوا متعصبين بل إنهم جعلوا من مبدأ التسامح ديدنهم، فساد هذا المبدأ في إسبانيا إبّان وجودهم بها. وقد عرفت المدن العربية في الأندلس ازدهارا كبيرا، كما زرعت الأراضي الإسبانية بشكل لم يسبق له نظير قبل وصول العرب والبربر (الأمازيغ) إليها. كانت هناك ثروات هائلة وكان الناس يعيشون في رغد ورفاهية من العيش لدرجة أن كثيرا من سكان إسبانيا القدامى أصبحوا عربا بطريقة عفوية، لقد وجدوا طريقة العيش العربية مريحة وجميلة، وكان دينهم أقلّ تعقيدا من المسيحية، واتّسمت مظاهر العيش بالرقيّ والازدهار في مختلف مناحي الحياة'.
ويؤكد الباحث المكسيكي: ‘أنّ مبدأ التسامح الإسلامي قد شمل كذلك مختلف ميادين الفنون والآداب، وهكذا تعايشت المساجد إلى جانب الكنائس ومعابد اليهود في زمن وحيّز واحد، وقد شكّل ذلك معايشة نموذجية مثلى كاملة من جرّاء لقاء عالمين. وحدث من هذا القبيل لم تعرفه البشرية من قبل. إنّ معاداة السّامية في أوربا لم تظهر في ظل العرب'.
وعلى غرار فرناندو باييخو يؤكّد الباحث ألاتورّي: ‘إنّ هناك كذلك شهادة لا يمكن نكرانها وهو الفيض الهائل من الكلمات والمسمّيات والمصطلحات العربية التي دخلت واستقرّت في اللغة الإسبانية ليس قهرا ولا قسرا بل لقد تقبّلها الناس طواعية وإختيارا'.
ويخلص الباحث المكسيكي إلى القول: ‘إنّ التاريخ قد تغيّر فيما بعد، إلا أنّ تلك الثمانية قرون من الإشعاع والازدهار هي فريدة واستثنائية في عقد التاريخ، وإنّ إسبانيا في ذلك العصر عرفت كيف تقدّر وتثمّن ذلك العطاء العربي الذي بهر العالم، وهكذا كان المسلمون الذين عاشوا في إسبانيا بحق أساتذة أوروبا'.
وأشار ‘ألاتورّي’ الى ‘أنّ الرّوح الإسلامية الحقّ لم يفهمها الغرب، فأنا لو كان الله قد قيّض لي أن أعيش في تلك الأزمان لكنت ولا شكّ ممّن اعتنقوا الإسلام'.
ولد فرناندو بايّيخو في مدينة’ مديّين ‘ بكولومبيا عام 1942. وبعد أن تخلّى عن جنسيته الكولومبية حصل على الجنسية المكسيكية عام 2007. من أعماله الروائيّة ‘الأيّام الزّرق’ (1985)، ‘النار السرّية’ (1987)، ‘الطرق إلى روما’ (1988)، ‘بين الأشباح’ (1993)، ‘عذراء القتلة’ (1994)، ‘نهر الزّمن' (1999)، ‘أخي العمدة’ (2004)، ‘هبة الحياة’ (2010). كما نقلت بعض رواياته إلى السينما مثل ‘عذراء القتلة’ و’داخل العاصفة’. وهو حاصل على العديد من الجوائز الأدبية من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية.
العالم الكولومبي الكبير روفينو خوسيه كويربو موضوع هذا الكتاب المثير الذي نحن بصدده ‘الغراب الأبيض’ عندما فقد الأمل في العودة إلى وطنه، ووجد نفسه متعبا وقد أنهكه وأضناه وأقعده المرض وهو في مهجره الاختياري باريس توفي بعيدا عن أهله وخلاّنه وبلده، ولابدّ أنّ لسان حاله كان يقول :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي … وصار القار كاللّبن الحليب..!.