الرباط -المغرب اليوم
حكاية فرسٍ دهماء قرحاء (على وجهها نقطة بيضاء)، عاشت في البراري، ثم أجبرت على تعلّم وضع اللجام والحذوة والسرج، فيسيطر البشر عليها. هذا في “الجمال الأسود” (2020)، إخراج آشلي أفيس، الذي تعرضه “ديزني بلاس” منذ 27 نونبر 2020.بينما تخضع الفرس لإذلال الترويض، تظهر شابّة غير مُروَّضة بعد. يبني الفيلم تشابهات بين سيرتي الشابّة والفرس وهما تدخلان عالمين جديدين. هناك شبه بينهما: رشاقة جسد، وتمرّد على الترويض.
ربية الخيول البرية وترويضها مصدر ثروة في أميركا. يُستخدم الترويض كعلامة على التحضّر والانتقال من الطبيعة إلى الثقافة. تلك حكاية الفرس “بلاك بيوتي” (صوت كايت وينسلت) والشابّة “جو غرين” (ماكنزي فوي). البطلة المُهرة مندفعةٌ وخشنة، وتحتاج إلى ترويض. لكنْ، منذ وصول الفرس إلى الضيعة، تقلّ مشاكل الشابّة في البيت والمدرسة الثانوية. كلّما تمّ ترويض الفرس، تتحسّن علاقة الشابّة بأسرتها.
يُعتبر هذا بداية تحوّل. للتعبير عن ذلك سينمائياً، تُصوّر المخرجة وهج البدايات: شمسٌ تُشرق. مهرٌ يقف للمرّة الأولى. ضوء الشمس في مواجهة الكاميرا التي تمثّل عين المتفرّج. في لحظات القلق، هناك غروب الشمس في الخلفية. تجري الفرس، فتدفع الريح الشعر الأسود للفتاة وشعر الفرس إلى الخلف. تتناوب شاعرية اللقطات على شاطئ ورمل وغابة، وعلى فرسٍ تعدو بسلاسة. الطبيعة البكر ملاذ، والتجارب تنتهي بخير. السيناريو مُقتبس من “الجمال الأسود” (مكتوبة ومنشورة بين عامي 1871 و1877)، لآنا سويل. رواية تستعيد الاحتكاك الأول للفرس بمخلوق يُدعى “بشر”. يُذكّر الاحتكاك بواقعة الحصان والأيل في حكايات إيسوب.
للإشارة إلى الفرس موقعٌ عظيم في ميثولوجيا الشعوب. يصف امرؤ القيس فرسه في معلّقته بأنّها ضليعٌ لها خصر ظبي، وخفّة جري ذئب. بينما يمدح دون كيخوته فرسه “روثينانته” بأوصافٍ عظيمة، منها أنّها غير ميّالة إلى “الخطيئة الجنسية”. هذا تقليد راسخٌ عند الشعوب. لذا، تلعب “ديزني” على المشترك الإنساني للحصول على أكبر عدد من المتفرّجين. قراءة الشعر مدخلٌ إلى فهم الفرس والفروسية، التي تملك قيمة أخلاقية هائلة في زمن انتصار قيم السوق، القائمة على “الدفع نقداً وفوراً”، لا على الشهامة والشجاعة والمشاعر الإنسانية.
في الرواية والفيلم، هناك فرس تَروي سيرتها بضمير المتكلّم المفرد. يسمح المونولوغ للقرّاء والجمهور بولوج ذهن الشخصية، لاكتشافها تدريجياً، وبمخاطبة الذات. يتّخذ الحوار الداخلي المحكي شكل حديثٍ، بصوتٍ عالٍ، إلى النفس (كاتي وايلز، “معجم الأسلوبيات”، ترجمة خالد الأشهب، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2014).
تقول الفرس إنّه للصمود وسط القطيع، لا بُدّ من قوّة واندفاع. هي فرسٌ تكره القطيع. حتّى الشابّة جو تحبّ العزلة. هكذا يصير مونولوغ الفرس تفسيراً لشخصية الشابّة. وبهذا المونولوغ، الذي تقدّمه الفرس، تستثمر شركة الإنتاج “والت ديزني” نهجاً طفولياً، تفترس بفضله السوق الدولية للمُشاهدة.نهجٌ حكائي طفوليّ يجعل التجارب القاسية تنتهي نهاية سعيدة. في “الجمال الأسود”، يقع فارسٌ فلا ينكسر ظهره. يشتعل حريقٌ ولا يموت أحد. في أفلام “ديزني”، حكاية مسترخية تسوِّق تفاؤلاً مفرطاً بالخير المقبل. هذا يحتاج إليه مزاج متفرّجين في زمن كورونا.
بينما الموت يتسكّع حولنا، من الجيد مشاهدة أفلامٍ أقلّ عنفاً وكآبة، ومُصوّرة في فضاءات واسعة لا تخنق. هكذا توفّر الفرجة حاجات نفسية ضرورية للمتلقّي. تحتاج طرق السرد في أفلام “ديزني” دراسة خاصة لفهم كيف يُحطّم السرد الساذج كلّ أرقام المُشاهدة. سردٌ يلعب على وتر حسّاس لدى المتفرّج، ويعلن أنّ “لكلّ فردٍ قصّة تَعرضُ من أين جاء وإلى أين يمضي وكيف يقطع طريقه”. بهذا المدخل، يعتبر كلّ متفرّج نفسه مهمّا. أيّ متعة. في هذا الجانب السردي، لمسة نسائية. الفيلم من إخراج الشابّة آشلي أفيس (1987).
تُروى القصص بأسلوب فني، وتُعرض عوالم متباينة يخترقها الخير. تنتقل ملكية الفرس إلى عائلة غنية جداً، وتصير تحت مراهقة عدوانية تغرس مهمازاً في بطن الفرس كأنّها حمار. تكتشف الفرس كيف يعامل الأغنياءُ الخيولَ والبشر الفقراء. هناك، تتكشّف طبقية المجتمع الأميركي. يكدح الفقراء طويلاً ليُحضّروا مكان الحفل والأكل وملعب الخيل. في النهاية، يتسلّى الأغنياء بعرق الفقراء. يحمل الفيلم عنوان “الجمال الأسود”، وللعنوان اليوم دلالة اجتماعية وسياسية هائلة في أميركا، التي تحاول إثبات تعدّد الجمال فيها، فالجمال ليس أبيض على مقاس دمية “باربي” فقط
تقدّم “ديزني” هذا من دون خطاب نضاليّ. يتشرّب المُشاهد المفارقات بالعين، في صمتٍ. تعرف الشركة صيد الجمهور من عينيه وحسّه. يقول أمبيرتو إيكو: “علم الجمال المعاصر يرى أنّ لحظة تلقّي ما هو جميل لحظة حدس بصفة عامة” (كيف تعدّ رسالة دكتوراه”، ص. 157). بالاشتغال على الحدس والحسّ، يتمّ تجنّب التجريد ومُراعاة مزاج الجمهور وذوقه، الذي يُنتج المحتوى من أجله لإشباع شوقه إلى ما لم يعشه، وإلى عالمٍ مثالي.في نهايات أفلام “ديزني”، يشعر المتفرّج بالامتلاء والارتواء. يرتاح نفسياً، لأنّ أفلاماً كهذه لا تخذل أفق تلقّيه المتفائل.
قد يهمك ايضا:
إعادة هيكلة «ديزني» مع التركيز على منصات البث المباشر
شركة "ديزني" تقرر تأجيل طرح فيلم الأبطال الخارقين "بلاك ويدو"