القاهرة - أ ش أ
تعكس المبادرة التي أعلنتها وزارتا الأوقاف والشباب مؤخرا لمكافحة الإلحاد شعورا بأهمية "الجهد الثقافي" في سياق الجهود المبذولة لمواجهة هذه الظاهرة الدخيلة على المجتمع المصري.
وثمة تأكيدات على أهمية دور وزارة الثقافة في سياق الجهود المبذولة لمكافحة الإلحاد جنبا إلى جنب مع وزارتي الأوقاف والشباب والتعليم والأزهر والكنيسة، فيما وصفت مبادرة وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة ووزير الشباب خالد عبد العزيز بشأن إطلاق "حملة قومية لمكافحة ظاهرة انتشار الإلحاد بين الشباب" بأنها "غير مسبوقة".
وتقرر استعانة هذه الحملة بعدد من علماء النفس والاجتماع والسياسة، فيما يرى بعض من استطلعت وسائل الإعلام والصحف المصرية آراءهم أن هذه الظاهرة "دخيلة على المصريين شأنها شأن ظواهر سلبية أخرى مثل التحرش والاغتصاب والتطرف".
وتتضمن الدراسات المؤسسة للحملة التعرف بعمق على تلك الظاهرة الدخيلة على المصريين المعروفين بتدينهم مع توعية الشباب والحوار معهم وتعريفهم بتعاليم الدين الصحيحة، فيما أوضح أحمد ترك وكيل وزارة الأوقاف وعضو اللجنة التي شكلت لمواجهة ظاهرة الإلحاد أن هذه اللجنة التي تضم أساتذة مميزين في تخصصاتهم العلمية "تسعى لكشف العوامل التي دفعت بعض الشباب للإلحاد والبعد عن الدين والعقيدة".
ولعل تلك الحملة تولي اهتماما لظاهرة غربية تعرف "بتيار الإلحاد الجديد" ومواقف هذا التيار الإلحادي الغربي حيال الإسلام, ومن المؤكد أن "الإلحاديين الجدد" الذين تهلل بعض رموزهم في الصحافة الغربية لكل ما يسيء للإسلام باتوا موضع اهتمام في السياق الثقافي الغربي.
وفي كتاب صدر بعنوان "اللاعتذاري"، يناقش المؤلف فرانسيس سبوفورد باستفاضة قضية ازدراء الأديان والإساءة لمشاعر المؤمنين بالديانات السماوية ودور ما يعرف ب"الإلحاد الجديد" في هذه القضية.
وأحدث جولة في الحرب ضد الأديان عموما ومن بينها المسيحية أشعلها من يطلق عليهم في الغرب "الفرسان الأربعة للالحاد الجديد"، وهم ريتشارد داوكينز ودانيل دينيت وسام هاريس وكريستوفر هيتشيز، والذين أصدروا سلسلة كتب زعموا فيها أن على الدين أن يستسلم بلا قيد أو شرط أمام العقلانية العلمية باعتبارها القوة الأعظم أخلاقيا وثقافيا.
ومع إن المسيحية - كما يوضح هذا الكتاب الجديد - بقت مستهدفة من الحملة الإلحادية الجديدة، فإن الإسلام بات العدو الحقيقي والأكثر خطورة في منظور الإلحاديين الجدد الذين استغلوا أحداث 11 سبتمبر 2001 والهجمات على نيويورك وواشنطن ليصكوا التعبير الكاذب والممجوج والمشبوه "الإسلام الفاشي"!.
ومن هنا يهلل الإلحاديون الجدد لأي إساءة للإسلام والمسلمين، كما حدث منذ نحو عامين في الفعل الساقط والمكشوف لحفنة من المسكونين بإيدز الكراهية وهوس التطرف الطائفي المعروف بأزمة "الفيلم المسيء للرسول" لإشعال الغضب في نفوس المسلمين وإثارة ردود أفعال عنيفة من جانبهم في توقيت مدروس بعناية وله دلالات لا تخفى في سياق "الربيع العربي".
وكان مفتي الجمهورية الأسبق الدكتور نصر فريد واصل قد حذر من خطورة ظاهرة الإلحاد، موضحا أنها "تؤدي للفوضى وانتهاك القيم والعادات والتقاليد المتعارف عليها بين كافة الأديان السماوية"، معتبرا أنه يمكن القضاء على الظاهرة التي انتشرت بشكل ملحوظ في مختلف دول العالم في الآونة الأخيرة "من خلال تثقيف الشباب وإطلاعهم على المفهوم الصحيح للدين".
وفي تصريحات لجريدة "الشروق"، قال عبد الغني هندي المتحدث باسم نقابة الأئمة: "لابد وأن يكون هناك مشروع ثقافي وفكري متكامل للديانات السماوية الثلاث لغرس القيم والتعاليم الدينية وخلق حالة من الاستنارة الفكرية للشباب والرد على أسئلتهم المحيرة"، فيما أوضح الدكتور محمد المهدي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر للجريدة نفسها "أن هناك أنواعا كثيرة للإلحاد".
وأضاف "هناك الإلحاد المطلق والإلحاد الجزئي واللاأدرية والعدمية والشعور باللاجدوى، وكذلك الإلحاد العابر في مرحلة من مراحل العمر"، فيما أكد الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف أن التعاون في أفضل صوره وعلى أشده بين الأزهر والكنائس.
وقال الدكتور علي أبو ليلة، أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس وعضو الحملة القومية لمكافحة التطرف "من المهم أن نتحرك بشكل سريع لمواجهة الظاهرة بعدما أصبحت تمثل شكلا جديدا من أشكال التطرف داخل المجتمع المصري".
واعتبر أبو ليلة أن الحل "في أن نبني وطنا يقوم على الأخلاق المستمدة من تعاليم الدين السمح الوسطي"، فيما يلفت الدكتور محمد المهدي لأهمية "التواصل الالكتروني عبر شبكة الإنترنت حيث يتركز نشاط شباب الملحدين وهو ما يستدعي بناء مواقع للمساعدة والرد على التساؤلات الباحثة عن اليقين".
ويكشف كتاب "اللاعتذاري" الذى صدر بالإنجليزية في لندن عن أن تيار الإلحاد الجديد معني بشدة، عبر منابره الإعلامية المتعددة وماكينته الدعائية الحاقدة والمضادة للإيمان، بإبراز أي أحداث عنف تقترن بمشاعر دينية لاتهام الأديان ذاتها بأنها سبب للعنف والفظائع وإراقة الدماء.
فالإلحاد الجديد يرحب بالساعين بالشر لإثارة الكراهية والحروب الثقافية بين أتباع الأديان السماوية، والزمرة التي تقود ما يعرف بالإلحادية الجديدة تقف في "الخط الأمامي للحرب الحاقدة الجديدة القديمة على الإسلام والمسلمين".
ومن نافلة القول إن حقيقة استهداف الإلحاديين الجدد للإسلام على وجه الخصوص، تكشف عن حقيقة أعمق وهى أن هذا الدين هو الحائط المنيع الذي يحول بحقائقه الإيمانية دون أن تتحقق أمانيهم في نشر الإلحاد في العالم قاطبة.
فالإسلام تحدى ويتحدى كل المشككين في الحقائق الإيمانية والراغبين في هدم الأديان، ومن ثم أدرك الإلحاديون الجدد أن عليهم أن يوجهوا الحرب بالدرجة الأولى صوب ديانة التوحيد والرسالة التي حملها خاتم الأنبياء لتبقى الأرض موصولة بالسماء.
غير أن الكاتب البريطاني فرانسيس سبوفورد يؤكد في كتابه "اللاعتذاري" أن الإلحاديين الجدد مضوا في حربهم بنزعة حاقدة وكارهة لكل الأديان وإن خصوا الإسلام بعميق الحقد والكراهية، فيما بدوا راغبين - للمفارقة - في تأسيس ما يمكن وصفه بدين جديد هو الإلحاد وإنكار كل الأديان السماوية.
وهذا هو الحال في بريطانيا على سبيل المثال حيث ينزع تيار الإلحاديين الجدد نحو المأسسة مع الاتجاه إلى تأسيس ديانة جديدة للملحدين، وهو الأمر الذي أثار سخرية مفكرين مثل جون جراي.
وبنظرة تعكس رؤية صراعية غربية، قال ريتشارد هولواي في صحيفة "الجارديان" البريطانية إن الدين مازال مكونا هاما في التجربة الإنسانية بقدر ما هو مثير للجدل والشقاق، وعلينا أن نستذكر التضاريس العقيدية التي كانت ساحة لحروب على مدى قرون.
إن القصة كما يراها ريتشارد هولواي من منظور الغرب هى قصة الصراع على الكائن الإنساني.. ذلك المخلوق الغريب الذي يسبح في المادة لكنه "مبتلى بالقدرة على التأمل التي تسمو فوق المادة وتتجاوز الطبيعة الأرضية".
ويشرح كتاب "اللاعتذاري" أن الأسئلة الكبرى للإنسان بشأن الوجود أجاب عليها الدين، فيما توالت المحاولات الإنسانية عبر الزمن والسنين للإجابة عن بعض الأسئلة بالفلسفة والعلم.. وهذا الطرح يكشف ضمنا عن الرؤية الغربية لاصطناع نهج صراعي بين الدين والفلسفة والعلم.
وفي مثال دال وطريف على خطأ وضع العلم في صراع مصطنع مع الدين وتحميل العقلانية العلمية فوق ما تطيق، يشير الكتاب إلى أن العلم بأدواته ومنجزاته التقنية بمقدوره تحليل وتفكيك أي مقطوعة موسيقية وشرح كل وحدة فيها وكيف وضعها المؤلف الموسيقي ضمن مقطوعته أو سيمفونيته، لكن العلم بكل ما يمتلكه يقف عاجزا أمام غموض الموسيقى ذاتها وسحرها وإبداعها.. فهنا تنتقل المسألة لمجال آخر وأرض مختلفة وآفاق تلامس الروح.
إن النهج الصراعي بين العلم والدين في الغرب لم يؤد لفض مغاليق الكون وأسراره، كما يقول فرانسيس سبوفورد "فعلينا أن نعترف بأننا رغم كل إنجازاتنا العلمية مازلنا نجهل الكثير عن العالم والإنسان ذاته".
وها هى المدعوة اريان شرين تقود في بريطانيا حملة الإلحادية تضع فيها إعلانات على حافلة للتشكيك في وجود الخالق والدعوة الجاهلة للتوقف عن القلق والتمتع بالحياة وكأن الإيمان يعني القلق وعدم السعادة في هذه الحياة الدنيا!.
ولعل الملاحظة الثاقبة التي تومض عبر كتاب "اللاعتذاري" يمكن طرحها في هذا السؤال: إذا كان هناك في الغرب من سعى ويسعى بإلحاح لفك الصلة بين الأرض والسماء وتنحية الدين بعيدا عن الحياة، وإذا كان هناك من تصور أنه أفلح في ذلك، فهل انتهت مشاكل الإنسان أم زادت؟.
الحقيقة، كما يقول ريتشارد هولواي في "الجارديان" إن هذا النهج الإقصائي للدين في الغرب لم يحل أبدا مشاكل الإنسان، بل أن الإنسان في سياق ذلك النهج تحول إلى مشكلة لنفسه ومع نفسه ومع الآخرين.
وهكذا تتكاثر المشاكل، فيصدرها الغرب للأخرين في هذا العالم وتتردد أحاديث عن العالم الذي ينزلق بسهولة في مجازات حرب دينية ويتجدد الجدل الطويل والحجج التي لا تنطوي على نتائج حاسمة.
ولعل مسرحية "دكتور فاوستس" لكريستوفر مالرو عن ذلك الشخص الذي يبيع روحه للشيطان من أجل إشباع غروره بالحصول على قدرة فائقة تمكنه من فعل ما يشاء من خوارق، تحمل في ثناياها إشارات للإنسان القلق والمتأرجح بشكوكه بين الإلحاد والإيمان.
وهذه المسرحية الشهيرة والتي تعد من عيون الأدب العالمي تشير إلى أن الضلالة ليست من فعل الشيطان وحده، بل هى من فعل الإنسان أيضا، فيما يوصف مؤلفها كريستوفر مالرو بأنه "الأب الروحي" للشاعر والكاتب المسرحي الأشهر ويليام شكسبير.
وقد يسعى بعض الكتاب القادمين أصلا من الشرق لافتعال معارك فكرية ذات صبغة إلحادية بغية نيل الشهرة في الغرب، كما هو حال الكاتب الهندي الأصل سلمان رشدي الذي حرص بصورة لافتة في سيرته الذاتية على القول بأنه "ملحد"، أو "غير مؤمن" مع توجيه سيل من الإساءات للإسلام والمشاعر الإيمانية للمسلمين.
وإن لم يكن سلمان رشدي عامدا الخلط، فإن تكوينه الثقافي يكون بحاجة لمزيد من البناء والتعلم لأنه يخلط في كتاباته بين تقاليد التساؤل والبحث والتفكر المحمودة في السياق الثقافي الحضاري الإسلامي وبين هراء حماقاته عندما يسىء لملايين البشر بتعمد ازدراء عقيدتهم من أجل شهرة يبتغيها.
ويتبدى هوس سلمان رشدي بالشهرة عندما يشير في كتاب "جوزيف انطون"، إلى أن "الآيات الشيطانية" حظت بحفاوة من مثقفين في العالم وحتى بين أعضاء في الكونجرس، كانت روايته معهم عندما استقبلوه ليشكو لهم من مطاردته.
وهنا يفصح عن مدى قبح جوهره وهو يصف الإسلام بأنه "دين العنف والقتل والذبح".. وهنا يمكن دون أدنى تحامل وضع سلمان رشدي كمجرد خادم ذليل من لاعقي أحذية تلك الزمرة في الغرب من صقور دعاة صدام الحضارات والأبواق الناعقة بالمصطلح المزور "الإسلام الفاشي".
ومن هنا أيضا لا محل للشعور بالدهشة التي أبداها بانكاج ميشرا في سياق تناوله لكتاب "جوزيف انطون" عندما لاحظ أن المؤلف سلمان رشدي لم يوجه كلمة انتقاد واحدة للممارسات العنصرية الغربية وتصاعد نفوذ اليمين المتطرف في مناحي الحياة بالغرب.
وفي عالم يعاني من أزمات روحية وتيارات إلحادية وتوظيف للدين في صراعات سياسية ومآرب دنيوية ومؤامرات لتمزيق الأوطان، فإن مصر لن تتخلى عن هويتها الإيمانية والكلمة التي وصلت أرض الكنانة بالسماء.