بيروت - فادي سماحة
يقيم الشاعر بيننا دون إدراك منا، وربما للمرة الألف، نقول بابلو نيرودا، يدخل يومياتنا كأنه أحدنا، نستدعيه مثالا للنضال عن طريق نشيده العام ونستدين كلماته عاشقا أو معشوقا، مسحوقا أو مزهوا في حلبة الافتتان. في غمرة سواد حالك، في إحدى الليالي التي وثّقها بقصيدة، كتب نيرودا الأبيات الأكثر حزنا، إنه يأتي إلى شيء من المناجاة عينها، في ثلّة من القصائد المكتشفة حديثا، وعددها يحاذي العشرين. يحلّ البعض رديفا لـ"عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة"، كتابه الأثير حيث تمرّن على السكن داخل جدران النفس الولهة، وحيث الحب فراق. تستدرجنا اللقيّة الشعرية إلى التحليق والحلم، إلى حيث الحبّ على حاله، عصيّا على الالتئام ليصير أكثر صعوبة وتاليا أكثر استحقاقا.
جميلة هي رحلة نيرودا كيفما جاءت، أقاتمة هرمسيّة أم ساعية إلى تقشير الغطاء العازل الضاغط على المفردات. لم يكن بلوغ أكبر عدد من القراء هدف الشاعر التشيلياني، لا قدرة لنا على الشكّ في ذلك ولا نتجاسر عليه حتى. بيد أن ذلك لا ينفي حقيقة أنه صار من حيث لم يرغب على الراجح، إسما عزّ حضور مثله في قواميس الشعر. جُبِل نيرودا بالبوح ولم يملك القدرة على التنصّل منه حتى، لوثة أمرَّها لنا على نحو تلقائي. والحال أن رفّ القصائد المنبعث للتو، يثبّت ما حفظناه. إحدى وعشرون قصيدة غير منشورة ستصدرها دار "سايكس بارال" ومقرها برشلونة في نهاية العام الحالي، لتواكب الذكرى العاشرة بعد المائة لولادة الشاعر، والذكرى التسعين لولادة "عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة". يحدّ القصائد زمنيا طرفان، 1956 و1972 في حين رصدت في معظمها إلى ماتليدي أوروتيا، الزوجة. ماتليدي، سيدة شخّص نيرودا صلته بها بكلمات قليلة تشبه تصريح طفل متذمّر يتمسّك بسراب يعي أنه لن يدوم، لأنه سيكبر لا محالة. كتب نيرودا يوما: "على رغم أن الأمر لا يخصّ أحدهم، غير أننا سعيدان". سعادة وعي أن الأعاصير العشقية شلّعتها من هنا وهناك، لتجيء ارتداداتها شعرية في كثير من الأحيان. لكن يتبدّى أن ماتيلدي رجعت بعد وفاة نيرودا إلى نواة قصيدته، تَشَفِّيا ربما.
ليس مجرد كلام في الهواء أن نتحدّث، عند محترفي القصيدة المكتملة، عن استحالة أن يحترق الخيط الشعري ويصير رمادا. ثمة حركة انبعاث مستمرة، في اللحظات غير المنتظرة، وإنما المواتية دوما. في أحد الصناديق التي حوت محفوظات من نصوص أعمال نيرودا صُنّفت "منشورات" من باب الخطأ، وإبّان عملية جرد دقيقة اضطلعت بها "مؤسسة بابلو نيرودا" وجدت مجموعة القصائد غير المعروفة وغير الصادرة قبل اليوم. في ركن منسيّ، بزغت قصاصات ورقيّة على مستوى رفيع، تعيد إستلهام تجربة شعرية في ألقها. ذلك أن القصائد التي خرجت إلى العلن ليست تفصيلا في مسار، إنما ذات صلة وثيقة بالتطور التأليفي نظرا إلى كتابتها إبان مرحلة الاختمار التأليفي عند الشاعر، في المرحلة التالية لـ"النشيد العام". ها هنا نحو عشرين قصيدة لنيرودا، بعضها مكتوبة بالآلة الطابعة والبعض الآخر بخطّ اليد، تأتي من بعيد بلا شك، غير أنها تأتي من الأعلى خصوصا.
تعود إحدى هذه القصائد إلى 1964، عام صدور "نصب إيسلا نيغرا التذكاري"، مجموعة نيرودا الشعرية الذاتية والفسيحة في قصائدها المائة، أنجزها عند بلوغه عقده السابع، بدءا من "إيسلا نيغرا" أي "الجزيرة السوداء" المنطقة التي سمّاها المنزل. تهيم هذه القصيدة المكتشفة في الصندوق رقم 52، بين الضياع العشقي وبين إعادة الاحتلال العاطفي.