الرئيسية » أخبار الثقافة والفنون
السجن

الرباط -المغرب اليوم

شاب غاضب يعنف صديقته، يقع حادث فيُسجن، وهنالك يتعرض لعنف أكبر، بحيث يبدو له ما كان قد فعله مزحة (فيلم Trial By Fire 2018 إخراج إدوارد زويك). حكاية ظالم يقع في اختبار شديد، إنه اختبار بالحديد والنار ممن هو أشرس وأظلم منه. أدرك الجحيم الذي جلبه إلى نفسه، فحن إلى ماضيه... هل فات الأوان؟

في عزلته، يكتشف الشاب معدنه الحقيقي. يكتشف أن في السجن عنف تعبئة مضاعفة من ثلاث طبقات: عنف الاحتجاز، عنف العسس، وعنف السجناء فيما بينهم.

في الفيلم حبكة سريعة مشبعة بالاختبارات المشوقة، اختبارات تشعر السجين بالعجز والدوار، تخترق الكاميرا الممر الطويل في ترافلينغ سريع لتعكس السقوط الحر والارتماء في الخواء والأسئلة من قبيل:

هل الحياة عادلة؟

لا.

إذن، لماذا تتكلم الأفواه والكتب عن العدالة كأنها موجودة؟

هذا واقع يضلل المتفائلين. يتعمق الإحساس بالحسرة حين يعرف المتفرج أن الفيلم مقتبس من واقعة حقيقية قد تصيبه أيضا.

مع مرور الزمن يتعلم السجين أن يتصالح مع البشر؛ لكنه لا يتصالح مع الحجر. يتصالح مع السجانين والسجناء؛ لكنه يكره الجدران التي تسحق روحه.

سجين يلتمس إعادة المحاكمة. لديه خمس فرص. في دولة القانون هناك فرصة للوصول إلى المعلومة ولطلب إعادة المحاكمة السجن صورة مصغرة للدولة التي يوجد فيها. هنا دولة قانون تحدد الحقوق والواجبات ويترتب عقاب عن خرقها.

يتعرض الشاب لعنف الاحتجاز مع براءته. في فيلم (القلعة الأخيرة 2001 إخرج رود لوري) يأتي الشر من أساليب مدير السجن وهو ضابط سامٍ ببذلة أنيقة، يدير سجنا بنجاح. الانضباط تام واسم السجن يرضي غرور المدير. آخر مكان فيه انضباط هو السجن الذي يُديره هو. في السجن تظهر البيروقراطية في أجلى أوجهها، هناك في مجال المراقبة البيروقراطية التي عرفها ميشيل فوكو بأنها "هي السيطرة على المكان والزمان" (علم الاجتماع أنتوني غيدنز ص 415). للإشارة، صممت الكثير من السجون الحديثة وقوانين العزل على مقاس الأديرة التي تعاقب الرهبان غير المنضبطين ليناموا وحدهم ويأكلوا وحدهم. وهو ما حرره الراهب والمؤرخ الفرنسي جون مابيون. Jean Mabillon

تتعرض هذه السيطرة للاختبار حين يصل فجأة سجين جديد إلى "القلعة الأخيرة"، يعرف القانون، يقدم ملاحظات موجزة. سجين كان ضابطا ترقى بفضل الحروب التي شارك فيها وليس بفضل الجلوس في مقاعد معهد عسكري. يقف جيمس غاندولفيني (يؤدي دور مدير السجن) أمام روبير ريدفورد (السجين) كأنهما من العيار التمثيلي نفسه.

تعكس حركةُ جسدي الرجلين في اللقطة خللَ ميزان القوى.

هنا بدأ السجناء يدركون كيف يعاملهم مدير السجن المبجل: يضرب بعضهم ببعض. ينهك أجسادهم بأشغال غير ضرورية، يحرمهم الإنهاك من التفكير، فيسيطر عليهم المدير، وكل من يتحداه يهينه بشدة علنا، والنتيجة هي الانضباط على أشده بالعنف. هدف مدير السجن هو إلهاء السجناء وتفرقتهم وفي الأوقات الصعبة يمسكهم من خصيّهم. والنتيجة صفر كرامة وصفر تمرد.

فهم السجناء وضعهم بفضل سجين له كاريزما فزرع فيهم الثقة. وهذا خطر بالنسبة لكل سلطة قمعية.

كان السجين الجديد خبيرا إستراتيجيا يلعب الشطرنج. رفع سلوكه معنويات السجناء. صار شعارهم هو حفظ كرامتهم وهو ما يهدد مدير السجن. الكرامة معدية. من يشعر بالاحترام يطيع إراديا. لا بد من ربط القلب بالعقل.

يعرض الفيلم وقائع القوة في مواجهة الذكاء.

في دولة القانون لا يستطيع مدير السجن الحقود الانتصار في فيلم يصور مجد الكرامة الإنسانية وقوة الإرادة وهي تتحدى الظلم.

ينعدم هذا تماما في فيلم "احنا بتوع الأوتبيس" (1979 من إخراج حسين كمال) وفيه يقهر المقهورون بعضهم بعضا قبل أن تقهرهم السلطة. فيلم من بطولة عبد المنعم مدبولي وعادل إمام. فيلم عن حملة جادة جدا لتطهير البلد حفظا لسلامة الوطن قبيل حرب 1967. صدرت التعليمات وجهاز القمع يرسل الناس إلى الجحيم في بلد المخابرات التي لها الحق أن تفعل فيه ما تريد.

هنا الفارق بين السجن في دولة القانون والسجن في دولة ديكتاتورية. ويعرض هذا المقال المقارِن موضوع السجن من خلال رواية وخمسة أفلام. مقارنة تتأسس على أربع إستراتيجيات لدى السجناء:

الأولى هدفها الفرار من المكان، والثانية هدفها السيطرة على المكان. الثالثة هدفها بحث عن الشهرة على أمل الحصول على إعادة المحاكمة. والرابعة هدفها البقاء على قيد الحياة.

في فيلم الشعب الذي يركب الأوتبيس موظف نموذجي شعاره "العزة للوطن" يتوهم تعرضه لشكوى كيدية تقلب حياته جحيما. من باب الاحتياط يتماهى الموظف تماما مع النظام الذي يقمعه ويردد خطابا عن إرادة الشعب المصري والرد على الاستعمار وعلى أعداء الناصرية الذين ينكرون سيل الحقائق.... يردد الخطاب الدعائي للنظام لدفع كل اتهام عن نفسه. محاكاة ساخرة لخطاب النظام من طرف كارهه وفي ذلك يتدحرج الأب الخائف إلى حالة حمق لا علاج لها... من ورطه؟

جاره البسيط مثله من أداء عادل إمام. وهو يؤدي دور مهندس جيولوجي يتسلم وظيفة لا علاقة لها بتكوينه ويؤدي الدور بشكل عميق وساحر. يتسلم المهندس مهمة تربية حمير ومعزة وحصان ويقدم نفسه لكلب. بسبب وعيه بظروفه وحرصه على راحة والديه يتصرف الموظف الصغير جابر بطاعة كلبية ليتجنب الاصطدام مع محيطه ليصمد ولا يطرد؛ لكنه حين يقع يهان.

كان تأثير عادل إمام في بداية نجوميته أكثر من تأثيره في عز شهرته. السبب؟ كان في البداية يخضع لإدارة المخرجين، لاحقا صار يدير ويكرر نفسه.

يقدم الفيلم صورة عن "شرق المتوسط" في فترة حاسمة. "احنا بتوع الأتوبيس" فيلم كوميدي عن سياق بوليسي واجتماعي قاد للنكسة. بعد ساعة، يصير إيقاع الفيلم شديدا، إذ تتراجع بل وتختلفي اللمسة الكوميديا لتحل أجواء عبثية تقهر البشر.

في الحقيقة، تم تناول سجون شرق المتوسط في الرواية أكثر من السينما؛ لأنه يسهل على الدول البوليسية أن تراقب الأفلام. وقبل الفيلم بأربعة أعوام، صدرت لعبد الرحمن منيف رواية "شرق المتوسط" صدرت في 1975 عنف سريالي هدفه سحق الفرد وليس تقويمه. يلتقي الفيلم والرواية على المكان نفسه والموضوع نفسه. تقع أحداث هذه الرواية في بلد ما شرق المتوسط ويوصف بأنه بلد العذاب والشيخوخة. تحكي الرواية سيرة رجب المناضل الحالم بالتغيير والذي اعتقل ومعه الأدوات الجرمية وهي كتب. القراءة جريمة في شرق المتوسط. للإشارة، يحكي معتقلون مغاربة في سبعينات القرن الماضي أن ضابطا كتب تقريرا عن مناضل معتقل كان يحوز كتابا اسمه "هوَ شيءٌ مِنه".

أكيد تحركت عظام الزعيم الفيتنامي في قبره.

في مقابل هذا الرعب من الكتب، يقدم فيلم ألكاتراس ( 1979 إخراج دون سييجل) صورة إيجابية للقراءة. يأتي السجناء إلى الخزانة لتسلم الكتب. يتعرفون على السجين المثقف. يدركون أن الكتب تخفف وطأة السجن. هناك من يطالع، ومن يعزف، ومن يرسم لتخفيف ضغط الزمن .

لتعميق عذاب السجين شرق المتوسط يعذب جسده ويحرم عقله من متعة المعرفة. يدرك السجان أن عدو السجين هو الزمن. يجعل الحجز الزمن ثقيلا. الزمن فكرة ذات تجلي فيزيائي ونفسي وعاطفي. الزمن هو جزء من الأبد، في الحكم بالمؤبد يصير الجزء كليا، أبديا.

هنا تظهر الفوارق بين سجن شرق المتوسط وسجن في غرب المحيط الأطلسي. هنا يعاقب السجين بالسجن الانفرادي أسبوعا بينما في شرق المتوسط يمكن أن يقضي سنوات في السجن الانفرادي. وقد يحصل هذا لكاتب الرواية أيضا. ولو تجرأ منيف على تسمية بلد في الرواية لانقلبت عليه حكومات المنطقة.

حين اعتقل رجب شرحوا له: "اعتقلناك لأنك عنيد" وطلبوا منه أن يشي بأصحابه وأن يوقع ورقة يعترف فيها بأنه مخطئ وألا يشتغل بالسياسة أبدا.

رفض فخضع لحفلات مركزة، والحفلة هي الاسم الحركي الذي يطلقه الجلادون على التعذيب الذي يمتد من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا. مثلا يضعون أصبعه في شقة الباب ويغلقونه، يشعلون النار في لحيته، يقطّطونه أي يجلبون كيسا مليئا بالقطط، يدخلون رأسه في الكيس ويحزمون ثم يبدؤون في ضرب القطط فتغرز أظافرها في وجه رجب... حكم عليه بالسجن واستمر تعذيبه حتى بعد صدور الحكم... وقع الورقة واعترف بحقيقته الجديدة:

"لم أعد رجلا!".

في فيلم "كيليكيس دوار البوم" 2018 لعز العرب العلوي يجري نفي وجود السجناء أصلا. لا يظهر السجناء؛ لأن النظام أخفاهم، حيث لن يتذكرهم أحد، وحيث لا تصل الكاميرات. هناك في منطقة قاحلة جنوب شرق المغرب قلعة قديمة صارت سجنا سريا... هذا ما أنكره الملك الحسن الثاني (1929-1999) وكشفته المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الدولية.

قلاع عسكرية كثيرة ولا أحد يعرف ما فيها... فمن موقع الطفل لا يظهر ما يجري داخل القلعة... وهذا مبرر فنيا وتاريخيا. لم يكن أحد يعرف بوجود السجن والسجناء؛ فالنظام لم يسجنهم فقط بل أنكر وجودهم. يبدو أن السجين هو عدو الشعب كما وصفه فيلم جون فرانسوا ريتشيت "العدو العمومي رقم واحد" 2008.

في شرق المتوسط، يتم تعذيب الجسد والروح لإنتاج أجساد خانعة كما قال ميشيل فوكو.

في سجون شرق المتوسط، يريد السجين توقف الألم فقط؛ بينما في سجون دولة القانون يريد السجين العثور على المعنى. يريد أن يعيش ويتعلم ويستفيد وهو يشتغل وفق قول ليون تولستوي "إن الوقت المتبقي لنا أهم من كل السنوات التي مرت".

يقدم فيلم ألكاتراس ميكانيزمات السجن في الدولة الحديثة. هناك حياة وقانون يحمي، على الرغم من قسوة الزمن. يتساءل سجين: كيف سيكون وجهي بعد خمس عشرة سنة؟

هكذا، يفكر السجين الذي لا يفكر في الفرار لأنه خائف على حياته. أما بالنسبة للسجين الذي يخطط للفرار فإن زمن الاعتقال لا نهائي بينما زمن تحضير الفرار ضيق والسجين مهدد بالانكشاف في أية لحظة... في ظل ضغط الزمن يتماهى المتفرج مع الممثل حتى يصير هو من يحلم بالفرار ويشعر بالرعب من الانكشاف... بفضل ضغط الزمن الدائم فالفيلم درس في التشويق السينمائي بالنسبة للمتفرج.

لقتل الوقت يراقب السجناءُ فأرة ووردة وصرصار... فجأة، يخرج الحل من هذا اليتموتيف" leitmotiv (عنصر يتكرر) فبينما كان السجين يطالع ويخطط للهرب خرج صرصار من ثقب فساعده على اكتشاف مخرج... خاصة وقد أضعفت الرطوبة جدران السجن الذي يقع في جزيرة. سجون الشواطئ أرحم من سجون الصحارى.

قد يهمك ايضا

تمويل الإرهاب يدفع "العدل" المغربية إلى تشديد مكافحة غسل الأموال

بنعبد القادر يعلن تسجيل 390 قضية تتعلق بغسل الأموال وتمويل الارهاب في المغرب خلال سنتين

   
View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

الساحة الرضوانية في ضيافة وزارة الثقافة المصرية بقبة الغوري
أولويات ميزانية الثقافة والتواصل تثمين سجلماسة ومعرضان للألعاب والإعلام
ماستر كلاس للمخرج أشرف فايق بمركز الثقافة السينمائية الأربعاء…
24 مدينة مغربية تتدارس عطاء الأديب والناقد برادة
ندوة تناقش أداء نخب العرب في الغرب

اخر الاخبار

دعم ثابت لمخطط الحكم الذاتي ولسيادة المغرب الراسخة على…
وفد مغربي يُشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول…
2024 سنة تأكيد الطابع الاستراتيجي للعلاقات المغربية الإسبانية
ناصر بوريطة يؤكد أن العلاقات بين المملكة المغربية والعراق…

فن وموسيقى

سلاف فواخرجي تفوز بجائزة أفضل ممثلة بمهرجان أيام قرطاج…
كاظم الساهر يسّتعد للعودة للغناء في المغرب بعد غيابه…
المغربي حاتم عمور يستنكر عدم حصوله عن أي جائزة…
منى زكي تؤكد أنها تتأنى دائما في اختياراتها لأعمالها…

أخبار النجوم

أحمد السقا يكشف موقفه من تمثيل ابنته ومفاجأة عن…
زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
محمد رمضان يُشعل مواقع التواصل بمسابقة وجائزة ضخمة
أزمات قانونية تنتظر عمرو دياب في العام الجديد

رياضة

المغربي حكيم زياش لا يمانع الانضمام لصفوف الوداد في…
محمد صلاح ينفي شائعات التجديد مع ليفربول ويؤكد أن…
المغربي أشرف حكيمي ضمن أفضل 100 لاعب لسنة 2024
نجم منتخب البرازيل وريال مدريد فينيسيوس جونيور يفوز بجائزة…

صحة وتغذية

المغرب تصنع أول دواء من القنب الهندي لعلاج الصرع
نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء
وزارة الصحة المغربية تكشف نتائج التحقيق في وفيات بالمركز…
اختبار عقاراً جديداً يُعيد نمو الأسنان المفقودة

الأخبار الأكثر قراءة

إسرائيل تدمر مبنيين تراثيين في النبطية جنوبي لبنان
المؤتمر العالمي للفلامينكو يحط الرحال في مدينة طنجة
الأميرة للا حسناء وزوجة ماكرون تدشنان المسرح الملكي بالرباط…
الأميرة للا حسناء وزوجة ماكرون تدشنان المسرح الملكي بالرباط…
نغمات ماريمبا نسمة عبد العزيز وفيولينة محمود عثمان بالمسرح…